بدايات الكتابة تداعب ذاكرتي و تستحضرها منذ أن جلست على مكتب و كرسي من القش في المنزل و أنا لم ابلغ من العمر بعد الخامسة.
أوراق و أقلام و ألوان و مساطر و مقص وورق شفاف لأرسم وانقل و اخط واشف أحرف و صور و كلمات من مجلات مصورة، للأطفال أري الصور فيها و الحروف دون أن اقرأها،و بعض تلك الخرابيش الكتابية لا تزال في سجل خاص احتفظ به.


ربما كانت الرسوم عبارة عن شمس غير مستديرة، حاولت قدر الامكان أن انقلها كما هي دائرة مكتملة و في محاولة أخرى لوضع حرف اعتقد انه quot;شينquot;لدلالة على أول حرف من شمس و تلتها خرابيش أخرى زرقاء تدل على بحر و معه حرف الباء و كل تلك الخرابيش السريالية الطفولية لم تفارقني حتى كتابة تلك المقدمة.


كنت أري بعيني الصور و استمتع بألوانها و شخصيات مبكي ماوس و بطوط و بندق العربية، و ما يماثلها من الانجليزية حسبما اهو متاح، و هي تقفز من صفحة إلى أخرى.


و كبرت مع مجلة مبكي إلى اليوم الذي استطعت أن أقراء مقال للصحافي على أمين بعنوان quot;فكرةquot; في داخلها يقول فيه أن القلم الحر أمضى و أقوى من الحاكم، فأصبحت مراسلا مدرسيا لمجلة مبكي قبل أن انتقل إلى الصف الثالث الابتدائي ابعث بصور زملائي و أخبار مدرستي البسيطة، و كانت تلك البداية و حصلت على أول بطاقة صحافية و كتاب تعيين من مجلة quot;مبكي quot;..!!
ورغم صغر سني إلا أن المكتبة الكبيرة في بيتنا التي تحتوى على أكثر من ألف كتاب كانت تشكل لي دوما قطعا من الشوكولاته التي تستهويني راغبا في معرفة أسرار صناعتها و مع ذلك استمرت حالتي في الرسم و الخرابيش إلى يوم تعلمت القرأة و الكتابة و من هذا اليوم لم أتوقف عن الكتابة إلا للقرأة و كل منهما quot; ضرة للأخرى quot; لا عدل بينهما.
ولع و دلع، عشق و هوى، عادة و عرف، علم و معرفة، بحر و أحلام، متعة و جنون، و لا تزال الشمس عندي غير مستديرة لذا اكتب واقرأ بحواسي و عقلي وجسدي.

محطات مختلفة عشتها كتابيا، فقد كتبت على كل ما وقعت عليه يدي، دفاتر المدرسة، ورق الجرائد في الجزء الأبيض العلوي و أكملت على الهامش، ورق لف الهدايا و حتى ورق لف اللحوم الأحمر، و وجدت نفسي منغمسا في مجلات الحائط المدرسية و المجلة الفصلية ارسم و اكتب و اجري مقابلات صحفية و كبرت معي مرحلة الانغماس لتتحول إلى إدمان ايجابي نشر خمره على صفحات الجرائد المصرية و الأردنية و الامارتية و المغربية و لم يخلو موقع الكتروني من ختم بقلم عاشق لحروف تصطف بانتظار دورها لدخول ملعب مكتظ بجماهير القرأة في السياسة و الادب و علوم المستقبل.


كانت ساعات المدرسة الانجليزية quot;فيكتوريا كولدج quot; تبدءا الثامنة إلا خمس دقائق و تنتهي الثالثة إلا ربعا يتخللهم ربع ساعة بعد أول ثلاث حصص لأجل تناول الشاي و البسكويت، والفسحة الثانية بعد الحصة الخامسة في تمام الساعة الثانية عشر و الربع لأجل تناول الغذاء لمدة خمس و أربعين دقيقة.


بداية يومي الصباحي كانت السابعة، قبل ساعة من بداية الدوام لأكتب لكل من لم يكتب موضوع التعبير بالأمس، و كانت فترة الغذاء مناسبة لأكتب مواضيع الإنشاء و التعبير لعدد من الزملاء في صفي و في صفوف أعلى مني.


كان الموضوع الإنشائي للصف واحدا و لكن اكتبه بأكثر من فكرة و أسلوب و كنت استمتع عندما اسمع نتائج معلمة الفصل و هي تقول عشرة من عشرة هنا و تعسة من عشرة هناك، و كأنني حصدت أكثر من خمسين علامة لخمس مواضيع. لم تكن المواضيع الإنشائية باللغتين العربية و الانجليزية هي فقط تخصصي بل كنت اكتب رسائل المحبة و الغرام لطلاب المدرسة و طالباتها في أن واحد، و كان هذا يستدعي أن أتلقى الرسائل عبر الأصدقاء و التي كنت قد كتبتها لصديقاتهم حتى أعود و اكتب الرد.


و كتبت بأسماء مستعارة في مجلة النادي سبورتنج قصصا و بعد أن أصبحت عضوا في هيئة تحرير مجلة تطبع و توزع أكثر من بعض الصحف اليومية العربية.


و لم أقف عند ذلك بل وجدت قلمي في مجلات الحائط الجامعية و المجلة المشتركة لكل الجامعات المصرية السنوية.
وحضرت اجتماعات التحرير الأسبوعية و تتلمذت على يد صحافيين كبار و تشرفت بالعمل معهم وشممت رائحة حبر الجرائد دون أن تزكم انفي قبل أن استمتع بتقنية الكتابة دون أي روائح على لوح الكتروني اسمه quot;لاب توبquot; و صفحات الكترونية. و لا ازال حتى هذه اللحظة احلم بالعودة إلى القلم من جديد بعد أن طغت الالكترونيات و الطباعة و لكن هذه المرة قلم جديد الكتروني يكتب على الورق و تتحول فورا الكلمات إلى صورة الكترونية على شاشة الكومبيوتر و هو إحساس لم اعرفه بعد و لكنني مغرم باللحاق به مثلما اغرمت بكل صفحات الورق بحبرها و اريجها الذي تفوق على رائحة جسد امراة متلهفة للقاء.

د.عبد الفتاح طوقان
[email protected]