من الأخطاء الاستراتيجية التي وقعت فيها القيادة الكردية بخصوص مسألة كركوك والمادة 140 من الدستور الدائم، هي غياب آليات وخارطة طريق للمساندة والمعاونة والتهيئة والمكاشفة الواقعية للعمل والمساعدة على تنفيذ المادة الدستورية بشأن الاستفتاء من قبل سكان المحافظة قبل انتهاء فترتها المحددة، والاعتماد فقط على الحكومة الاتحادية في بغداد، ووجود روحية حزبية منفردة لدى كل طرف لدى الحزبين الحاكمين في كردستان، وعدم الانفتاح على العرب والتركمان في كركوك للتفاهم معهم بشأن القضية والتعامل مع رؤاهم بواقعية وشفافية، وعدم طرح رؤية عامة كردستانية متسمة بالنزعة العراقية إلى الأطراف والأحزاب السياسية في بغداد وعلى الدول المجاورة للعراق والإقليم لطمأنتهم بخصوص هواجس ومخاوف تتوجس صدورهم وعقولهم السياسية، لهذا فان التأجيل الذي تم بموافقة جميع الأطراف المعنية قد أخذ طريقه الى الواقع بالرغم من اعتراض القيادة الكردستانية عليه.


إضافة الى ذلك، فان التعامل الكردي مع الطرفين الرئيسين في كركوك، العرب والتركمان، لم يكن بالمستوى المطلوب بتاتا، لا سياسيا ولا حزبيا ولا إداريا، ولم يكن هناك أي توجه صادق أو برنامج عملي لإرضاء الطرفين لتوفير القناعة لديهما وكسب رأيهما لمسألة الاستفتاء والانضمام الى إقليم كردستان، وعدم توفر آلية أو خارطة طريق سياسية للحفاظ على حقوق ومصالح الطرفين، وعدم طرح الطرف الكردي لرؤية واقعية للدور السياسي للطرفين على مستوى الإقليم وعلى مستوى المحافظة، كل هذه الأسباب جعل من المطلب الكردستاني أن يتسم بالضعف وعدم الواقعية وعدم التعامل بعقلانية سياسية حكيمة مع القضية.


لهذا، وبعد مرور سنتين على طرح المادة 140 دستوريا، فان التعامل السياسي للقيادة الكردستانية مع كركوك ومسألة الاستفتاء قد وصل الى فشل ذريع للأسباب التي ذكرناها وأسباب أخرى تتعلق بالفساد الرهيب في الإقليم توازيا مع الفساد المستشري في عموم العراق، وتسلط رجال منتفعين على الحكم وإدارة الحكومة وعلى قيادات الأحزاب الكردية وانشغالهم بمصالحهم وتجارتهم، مما ظهر بسببهم واقع مرير أدى الى تقسيم المجتمع الكردستاني الى أقلية حاكمة جائرة تملك وتتحكم بكل موارد دولة الإقليم وأغلبية فقيرة تأن من أزمات لا طائل لها في الحياة والمعيشة.
استنادا الى هذا الواقع المتسم بسلبيات كثيرة، فان القيادة السياسية للكرد العراقيين، لم تقدر على تقديم نموذج متسم بالعدالة والتوازن الاجتماعي والرفاهية والحياة الكريمة لا للكردستانيين كمسألة حياتية واقعية، ولا للعراقيين كتجربة تضمن حقوق المواطنة بكل مفرداتها المعيشية، ولا كنموذج يحتذى به في مناطق أخرى أو تساعد على توفير الأرضية المساعدة لمطالبة مجموعات سكانية أخرى مجاورة للإقليم للانضمام اليه طلبا لتحقيق مواطنة حرة كريمة متسمة بضمان توفير جميع الاحتياجات الرئيسية للحياة لضمان عيش متسم ببعض الرفاهية، لهذا فان الحقائق قد قلبت الوقائع وأضرت بمطالب الكرد بحق كركوك.


ولكن بغض النظر عن هذه الوقائع المؤلمة وانطلاقا من مبدأ اللجوء الى ما هو ميسر بشرعية، فان طريقة تعامل القيادة السياسية للإقليم الفيدرالي يجب أن تعاد النظر فيها وأن تبتعد عن تلك السلبيات ومسبباتها وتنطلق برؤية واقعية وفق خارطة طريق جديدة تحمل إطار عراقي ورؤية كردستانية لمعالجة مسألة كركوك بمرونة وحكمة وعقلانية لإبعادها عن أية مشكلة أو أزمة قد تأخذ طريقها الى الواقع في المنظور المستقبلي بسبب دخول أطراف كثيرة عراقية وإقليمية ودولية في ما بين سطور ملفات القضية، ومن أولى الرؤى للخارطة الجديدة التي يجب أن تقر بها القيادة السياسية الكردية هي القناعة التامة بأن إقرار إقليم مستقل لكركوك مسألة فيها مصلحة كبيرة لإقليم كردستان ومنفعة كثيرة للعراق، وفيها منافع وفوائد بالدرجة الأساسية للمجموعات السكانية القاطنة في كركوك من كرد وعرب وتركمان وقوميات أخرى لإدارة المناطق والوحدات الإدارية التابعة للمحافظة وفق الخيارات الدستورية المتاحة لصالح تنمية المواطن وضمان توفير حياة كريمة له من خلال استغلال موارد ومقومات الإقليم بطريقة تعود بالنفع على جميع مكونات المجموعات السكانية في المنطقة.


والسند الدستوري لتشكيل إقليم مستقل من كركوك، يأتي في المادة 119 من الدستور الدائم التي تنص على quot; يحق لكل محافظة أو أكثر تكوين اقليم بناء على طلب بالاستفتاء عليه، يقدم بإحدى طريقيتين: أولاً: طلب من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الإقليم. ثانياً: طلب من عُشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليمquot;، والمادة 120تعطي الحق لكل إقليم بوضع دستور له quot; يقوم الإقليم بوضع دستور له، يحدد هيكل سلطات الإقليم، وصلاحياته، وآليات ممارسة تلك الصلاحيات، على ان لا يتعارض مع هذا الدستورquot;.
استنادا الى هذه الحقائق، وهذه المراجع الدستورية، فان الضرورة العراقية تأتي لإقرار كركوك كإقليم مستقل، من خلال عدة مسارات وهي إقامة نموذج مصغر لكل مكونات الأمة العراقية بآلية دستورية مشروعة تساعد على حل جميع المعضلات القومية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية فيه، تشكيل إقليم فيدرالي من محافظة واحدة يساعد على تحقيق تنمية سريعة وتطور متقدم على صعيد جميع المجالات الحياتية والمعيشية المرتبطة بالمواطنين، ضمان علاقة مستقبلية متسمة بالشفافية والمرونة للانفتاح على خيار الانضمام الى إقليم كردستان في المنظور المستقبلي، ضمان ميزانية كافية بمستوى الإقليم حسب النسبة السكانية والحصول على منح ومساعدات دولية لإعادة أعمار كركوك وتوفير جميع الخدمات لسكانها، توفير أرضية خصبة للاستثمار الأجنبي فيها بالنظر للدور النفطي الذي تتمتع بها المحافظة، ضمان حقوق جميع القوميات فيها دون أزمات أو مشاكل، ضمان بيئة مناسبة لقطع ومنع التدخلات الأجنبية للدول المجاورة للعراق الحاصلة في هذه القضية، وأخيرا توفير مناخ عام على الصعيد العراقي للإقرار بالنظام الفيدرالي للدولة للمساعدة على إقامة الأقاليم في الجنوب والوسط وبقية المحافظات.


بينما الضرورة الكوردستانية لإقامة إقليم كركوك، تجد نفسها في نواحي عديدة أخرى منها، ضمان توفير فترة زمنية ملائمة لجميع المكونات القومية في كركوك للنهوض بحالتها الاقتصادية المتسمة بفقدان البنية التحتية وبالأزمات الحياتية والمعيشية خاصة الكرد فيها، العمل على تهيئة إقليم كردستان وإقليم كركوك في المستقبل لخيار الانضمام أو الاتحاد بجدية وبعمل منهجي سياسي مدروس بعيدا عن المشاكل والأزمات وفق آليات دستورية مشروعة، إزالة جميع المخاوف التي تتوجس صدور ونفوس بعض الأطراف العراقية والإقليمية والدولية تجاه الكيان الكردستاني في العراق، توفير أرضية مناسبة لإقامة علاقات بناءة مع الجارة تركيا لصالح الطرفين التركي والكردي ولصالح الدولة العراقية، التفرغ لحل الأزمات الحياتية والمعيشية التي يعاني منها المواطن في داخل الإقليم من خلال إصلاح بنية الحكم وإقامة عدالة اجتماعية متوازنة لصالح الشعب الكردستاني، خلق مناخ عام متسم بالاستقرار والأمن في كركوك والمناطق المجاورة لها، الاستفادة من الموارد الطبيعية المتاحة في كركوك لصالح مجموعاتها السكانية لتحقيق حياة كريمة متسمة بالرفاهية، وأخيرا خلق أجواء إقليمية في المنطقة تساعد الإقليم على تطوير علاقاته مع الدول المجاورة لصالح جميع شعوب المنطقة.


هذه الضرورات النابعة من الرؤية الواقعية لقضية كركوك، تخدم جميع الأطراف المعنية بها، وهي تعود بالنفع العام على الجميع، والعقل الحكيم هو من ينتهز الفرصة لإبعاد هذه المنطقة النائمة على أزمة ملتهبة تحت أرض كركوك، ليفتح الباب واسعا لإخراجها من مستقبل مجهول الى مستقبل مضمون منعم بالحياة والتطور والتنمية للملايين التي تنتظر مستقبلا مشرقا بأمل قلق يشوبه الحذر والتأمل والترقب، ولكن التعلق بالأمل مهما كان ضئيلا يبقى الطريق الوحيد لنعيش حاضرنا ونحلم بالمستقبل، ومهما كان مساحة الأمل هذه فإننا على ثقة أن العراق وإقليم كردستان قادران على التمسك بخيوط مضيئة لرسم مستقبل زاهر لجميع العراقيين على السواء.

د.جرجيس كوليزادة
[email protected]