هل نستطيع الاعتراف صراحةً بوجود فساد في مؤسساتنا سواء أكان إدارياً أو مالياً؟ وهل لدينا القدرة على سن أنظمة حاسمة تطهر البيئات الحكومية أو الأهلية من انتشار أي فساد يتسبب في هدر مكتسبات المجتمع وضياع حقوق الناس؟


قبل أشهر أثير في مجلس الشورى موضوع الفساد، وكان موقف المجلس - للأسف - مخيباً للآمال بعدما حول مطالبة عضوه الدكتور عبد الله العجلان بتشكيل لجنة عليا لمكافحة الفساد الإداري والمالي في الأجهزة الحكومية، وتقصي أسباب القصور في تلك الأجهزة وتفشي الفساد الإداري والمالي فيها وسبل علاجه للمحافظة على المال العام.


من حقنا أن نتساءل، فإذا كانت الرقابة موجودة فلماذا لم تمنع حدوث فساد على مستويات مختلفة، ولماذا يقع عددٌ من المسؤولين في القطاعات الحكومية في quot;مطبquot; تجاوز الصلاحيات المالية بوسائل في ظاهرها نظامية، وواقعها مخالفة صريحة رغم أنهم يتكأون على جمود اللوائح المالية في قطاع الدولة وعدم تطويرها منذ بدء بناء المؤسسات المالية والرقابية. وما حقيقة قصص الفساد التي يتداولها العامة عن مؤسسات القطاع الأهلي خصوصاً الشركات العامة والمساهمة التي تمتلكها الدولة أو المواطنون؟


المجلس الذي لا يزال ينتظر منه المجتمع السعودي مواقف حاسمة وتبني أنظمة تحميه وتصون حقوقه كافة بحكم أنه quot;أعلى هيئة استشارية في البلدquot;، عجز عن فتح أبواب النقاشات على مصارعها لفتح ملفات مسكوت عنها مثل quot;الفسادquot;. ويبدو أن مجلسنا العزيز نسي أنه صادق على (اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد) وقبل ذلك إقرار مشروع (الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد والرشوة) وهما خطوتان مؤثرتان في طريق مكافحة الفساد بشقيه الإداري والمالي، ومع ذلك لا نرى لهما تأثيراً ملموساً للتصدي لـ quot;الفسادquot; أيّاً كان نوعه ومرتكبه.
لقد قرأت أن مجلس الشورى يعكف على دراسة مشروع (نظام مكافحة الاعتداء على المال العام وسوء استعمال السلطة)، ولكن لم أرَ واقعياً نتائج ملموسة لهذه الدراسة حتى الآن، وإذ تمخضت عن أنظمة أو إجراءات، لم نشعر بها خطوات عملية تحارب الفساد، ولهذا سيبقى الحال على ما هو عليه، وعلى المتضررين التضرع إلى العلي القدير أن يعوضهم خيراً في الآخرة.
لا نحتاج إلى بحث وتقصٍّ للوقوف على quot;الفسادquot;، فربما في المرحلة الأولى تكفينا، تقارير ديوان المراقبة التي كشفت التجاوزات الممارسة أثناء النهار وأطراف الليل في الأجهزة الحكومية، وسجلت ملاحظات جوهرية لم تجد للأسف من هيئة المجلس الموقرة الاهتمام والتقصي الكافي.
هذا التقرير المحلي يتوافق مع تقويم تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2004م الخاص بدرجة الفساد في كل دولة، الذي صنّف السعودية في المرتبة (71) من بين (146) دولة في العالم شملها التصنيف.


الأمين العام لمجلس هيئة التحقيق والإدعاء العام سليمان بن محمد الجريش، اعترف في ندوة صحافية نشرتها جريدة الرياض، أن القضاء يقف حائراً أمام جرائم الاختلاس على سبيل المثال، لأن وسائل الإثبات التي تقدمها الدولة وجهات الادعاء وجهات التحقيق دائماً ما تكون محل جدل، ولا يعني هذا أن الفساد غير مكتشف، ولكن يتعطل عندما تكون هناك أنظمة غير واضحة أو بيروقراطية. وزاد أن بعض الأنظمة لا تواكب وسائل الفساد الحاصلة الآن.


يجب ألا نكون مثل quot;النعامة تدفن رأسها في الترابquot; فالاعتراف بوجود أي مشكلة أو ظاهرة هي بداية العلاج لها بدلاً من محاولة التستر عليها أو إنكارها. فإذا كنا ننتظر تحقيق quot;طفرة ثانيةquot;، فمن الطبيعي أن يصاحب هذه الأرقام الخيالية والمشاريع التنموية التوسعية، خطط من الطامعين في الثراء لاقتطاع نصيبهم، خصوصاً أن الأنظمة قديمة ويمكن إيجاد مداخل كثيرة للنفوذ منها، مع انتشار quot;الرشوةquot;.


وربما تكون quot;الرشوةquot; إحدى أساليب الفساد أو محركات الفساد الإداري والمالي، وهذا النوع من الفساد سجلته أجهزة حكومية مختلفة مثل وزارة الصحة أو الشؤون البلدية والقروية أو وزارة العمل. والأمثلة كثيرة، فهذا الوزير الدكتور غازي القصيبي يحيل جريمة رشوة تمت في وزارته إلى هيئة الرقابة والتحقيق والمباحث الإدارية لكشف ملابساتها، والإعلان في وسائل الإعلام عن أسماء المرتشين وجهة أعمالهم، كما أنّ وزير الصحة الدكتور حمد المانع يفضح صاحب أكبر صيدلية حاول رشوة أحد المسؤولين في الوزارة ونقل ملف الرشوة إلى المباحث الإدارية.
وأيضاً أمير الشرقية يشكل لجنة حكومية مكونة من المباحث الإدارية ومصلحة الجمارك ووزارة التجارة والصناعة، للتحقيق مع أحد كبار المستوردين السعوديين بعد تورطه في عرض رشوة مالية على مسؤول حكومي في مختبر الجودة النوعية في الدمام لإدخال شحنة فاسدة من الدجاج الصيني المجمد إلى السوق السعودي عن طريق ميناء الملك عبدالعزيز وتسجيلها على أنها صالحة للاستهلاك الآدمي.


أعتقد إنه قد بلغ السيل الزبا، فهذا عامل بنغالي يدير 18 موقعاً لتمرير المكالمات في حي البطحاء، يقدم ألف ريال رشوة لرجل أمن مشارك في الحملة الأمنية لشرطة الرياض حتى لا يلقي القبض عليه.


هذا غيض من فيض، فمسلسل الفساد الذي تنشره الصحف السعودية يومياً، لا يشكل نسبة كبيرة مما يدور في أروقة مجتمع تحول تدريجياً إلى مادي وأصبح يحسب ثمن كل خطوة قبل أن يخطوها، والرابط الأساسي بين الأفراد هو المصالح المادية فقط.


يجدر بنا أن نتحلى بالصدق مع أنفسنا ونعلن وجود الفساد الإداري والمالي، وندرك أن قضايا الفساد المالي متشعبة وتحتاج إلى طرح حكيم على المستوى الوطني، وتصحيح الوعي بماهية الفساد المالي وما الذي يمكن اعتباره فساداً مالياً أو أنه تصرف مسؤول.


وأقترح في إطار مكافحة الفساد، أن تبادر هيئة التحقيق والادعاء العام، إلى تأسيس خطوط هاتفية للشكاوى إضافة إلى صناديق شكاوى لتلقي البلاغات الواردة بخصوص الفساد الإداري في كل الأجهزة، وتعلنها بكل الوسائل الإعلامية المتاحة لها، وتضع مكافآت مجزية للمبادرين. وأن تشكل لجنة من رجال ثقات يتقصون ويدققون فيها كافة.


بكل تأكيد لدي ثقة تامة أن هذه الخطوة العملية ستكشف quot;المستورquot; من الفساد الذي نشعر أنه ينخر في جسد المجتمع ولكننا عاجزون عن تحديد مواضعه، أو متوهّمون أننا مجتمع ملائكي. ونجاحنا في فتح جميع الملفات المتعلقة بالفساد سيكشف حيل الفساد وكيفية التورط فيه في أي مؤسسة من مؤسساتنا سواء أكانت حكومية أو عسكرية أو أهلية.

سعود الغربي
إعلامي سعودي
[email protected]