قد نستكمل الى حدٍ معين الحديث عن الاحزاب الكُردية الأكبر بهذا المقال، لكننا نظل بحاجة الى أحاديث اطول ومقالات افصل. ولا مندوحة من العودة الى بعضها لردم الفجوات التي خلفتها مقالات سابقة بسبب الحصر والضيق في حدود مقال صغير. لكن الأمر هو تسليط ضوء على الأهم في مجريات متدفقة، قدر المستطاع. وللتنبيه سنكتب في فترة وجيزة مقالاً تشريحياً عن حزب العمال الكُردستاني تفصيلاً للبيان المعلّق فهمه في الغموض.


انطلقت الحركة الاسلامية المسلحة في الشرق أول ما انطلقت في كُردستان، إبان الأحداث الكبرى التي رافقت سقوط الدولة العثمانية، ومجئ نظام عَلماني متطرف أثر على البنى التكوينية للصياغات السياسية في منطقتنا الى اليوم. فالصراع العَلماني الاسلامي مستمر الى يومنا في سجالات محمومة.


آوان بروز مصطفى كمال اتاتورك، الضابط المتدني في رتبته العسكرية في بلاد الشام، وازاحة ضباط كبار من المسرح السياسي مثل انور باشا، في ظروف مستجدة كانت بمثابة حظٍ سعيد لاتاتورك; برز الشيخ سعيد بيران يقود ثورة مسلحة تهدف الى اعادة الخلافة، واقامة كُردستان مستقلة وفق شريعة الاسلام. بعث الشيخ سعيد بيران برسالة الى بديع الزمان الكُردي سعيد النورسي، يسأله فيها المشاركة في ثورته التي تهدف الى اقامة الحكم الاسلامي. النورسي يرد على بيران ان الطريق الى تطبيق العدالة الإلهية لا تكون باللجوء الى العنف وسفك الدماء. quot; لو طلبت من رجالك القدوم الى هنا لقاموا بالنهب والسلب في مرورهمquot; يقول بديع الزمان النورسي للشيخ بيران.


تعاون الانكليز والافرنجة مع تركيا الجديدة بقيادة اتاتورك للقضاء على ثورة الشيخ سعيد بيران. وفي عام 1925 قبضت الجندرمة التركية على الشيخ وحكمت المحكمة العسكرية عليه بالاعدام.


في آمد (دياربكر) علّق الشيخ ورفاقه على اعمدة المشانق وكانت اجسادهم الباردة تتأرجح تحتها.
تلك كانت الثورة الاسلامية الاولى في مواجهة (العلمانية) الجديدة التي تعتبر أسوأ الانماط العلمانية، والتي يضيق بها العلمانييون المعتدلون في الشرق ذرعا في طرحهم للعلمانية كدستور ونظام. ويستدل الاسلامييون بعَلمانية تركيا في وصفها بالسوء والفساد.
شكلت الثورات الكُردية الكثيرة في القرنين التاسع عشر والعشرين نمطاً معيناً في ممارسة مطلب استقلال كُردستان في سلّم أولوياتها، وهو الاصطباغ بالاسلام في معادلة تاريخية واجتماعية استندت على ارتباط الشعب الكُردي القوي بالاسلام.


لكن النصف الثاني من القرن العشرين شهد بروز تيارات قومية ذات ثقافة ضعيفة، (يسارية) مرة (وديموقراطية) مرة أخرى. فضلاً عن تأطر هذا النمط الارتجالي في كينونة التظاهر عبر شعارات وادعاءات، لكن التيارات اليسارية انتعشت في ظل الفراغ والفوضى والتخلف، وسادت الحركات الكُردية هلوسة بمفردات ماركسية لم تخرج كونها زينة العرض والموضة مثل ما كانت الحال عند الشعوب الأخرى.
والحال ان التغيرات التي عصفت بالمنطقة لا سيما كُردستان، ضمن التقلبات المتجاذبة مع الهيمنة الخارجية المتعددة الأبعاد، تركت آثارها على الأجيال الى الوقت الحاضر.


اصاب التيار الاسلامي التقليدي ضمور كبير بعد تكريس الكيانات الاقليمية القومية. واستمر الضمور الى ثمانينيات القرن الماضي حين برز على الساحة تيار جديد/قديم تضمن اتجاهات عديدة انضوت تحت راية الرابطة الاسلامية، ولاحقاً الحركة الاسلامية في كُردستان/العراق.
في منتصف الثمانينيات بدأت الحركة بنشاطها المسلح ضد نظام البعث، وشاركت في انتفاضة عام 1991.
مثلما رافقت الاحزاب الكُردية عوامل الصعود والانتكاسة فضلاً عن النجاح والفشل السياسيين، عاشت الحركة الاسلامية الآم مخاضها ووجودها.
ولكن ماتقاس به الحركة الاسلامية لا تقاس به الاحزاب الأخرى. فكل خطأ ارتكبته الحركة الاسلامية أثقلت موازين محاسبتها في الرأي العام. وكلما تدحرجت الحركة الاسلامية من صعود خففت من مصداقيتها كبديل حضاري. لقد حدث ذلك بوضوح ملموس. ولكن لماذا؟ السؤال هو مفتاح الفهم ودليل البيان. ينفِر مقالنا اجندته لكشف المستور من تاريخ الحركة الاسلامية، اذعاناً للموضوعية في قانون الأشياء وقيامة المسائل، فضلاً عن بلوغ المرام في احقاق الحصص في تناول الاحزاب الكُردية. وإننا لا نستطيع الاحاطة بشمل الموضوع، لكننا نوجز في اختصار مفيد قيد الرجوع في محطات أخرى لاكتمال البيان.


تكونت الحركة الاسلامية من اجنحة مختلفة وتيارات فكرية متعددة من الاسلاميين. ولكن الثقل الجماهيري لها انقسم الى شطرين منذ عام 1991، بين الجناح الذي قاده الشيخ علي بابير عضو المكتب السياسي للحركة ومفكرها، والجناح الذي تزعمه الشيخ فاتح كريكار، المعروف بملا كريكار، عضو القيادة فيها والمسئول العسكري حيناً.


اما الجناح الذي تزعمه الملالي في الحركة فقد ظل محصوراً على نفر قليل تجمعوا حول عائلة الراحل الشيخ عثمان عبد العزيز المرشد العام الأسبق للحركة.


في أعقاب الانتفاضة شكل ملا كريكار الجماعة الاسلامية في كُردستان، ولم يرض الدخول في الحركة لمؤاخذاته الكثيرة عليها. لكنه اجتمع بالشيخ علي بابير وارتضى على مضض الاندماج في الحركة. آوان ذلك الحين انفصلت جماعة متشددة سميت بجماعة الجهاد بقيادة ملا أمين ( أبيدت عن بكرة ابيها عام 1996).
الشيخ علي بابير يعد عالماً ومفكرا لامعا،ً فيما يتمتع ملا كريكار بثقافة واسعة وعالية فضلاً عن كونه عالماً في اصول الاسلام والتاريخ. للرجلين تأليفات وكتابات عديدة تصل الى ثلاثين كتاباً لكل واحد منهما، فضلاً عن كون ملا كريكار شاعراً معاصراً وله بضعة دواوين شعرية.
لكن هذا لا يعني انهما غمرا في تجربتهما بلياقة عملية صحيحة القوام، كما بدت على المستوى الفكري والنظري بحدٍ معقول ضمن الدائرة الاسلامية. فالرجلان ظلا متنافسين على زعامة الحركة حتى نقضت الحركة غزلها، وتحولت الى حركات.


بدأ ملا كريكار مشواره السياسي بخطب فضفاضة ومثيرة اجبرت الحركة الاسلامية ان تنهمك لفترات طويلة بتوزيع بيانات الاعتذار والاستيضاح على الدول الاقليمية والاحزاب الكُردية. فكريكار تحدى الدول الاقليمية والاحزاب الكُردية، ووصف جميعها بالكفر والانحراف. ولم يتورع حتى في تصنيف ايران ضمن خانة الكينونات التي كفرها!


كريكار ومن دون اي حساب حتى لمستقبله الشخصي كسياسي، كان يهاجم ايران ويفتح معها ملفات خطيرة كاغتيال علماء الاكراد في ايران والقمع القومي والمذهبي ضد كُردستان. على نقيض ذلك، كان السيد جلال طالباني كسياسي مخضرم يضع اكاليل الزهور على قبر خميني، بل وتعاون مع ايران على المستوى العسكري والسياسي والمخابراتي. الأمر نفسه بالنسبة الى الحزب الديموقراطي الكُردستاني بزعامة السيد مسعود بارزاني. إذن كريكار كان يفتقد للتجربة السياسية التي يتمتع بها قادة آخرون ومنهم قادة الحركة الاسلامية نفسها.


لم يكن ملا كريكار يكمل خطبه حتى كانت (الكاسيتات) قد وصلت الى يد مخابرات ايران والدول الاقليمية الأخرى، عن طريق عملاء اكراد من الاحزاب الكُردية. في النهاية اتفقت ايران مع الاتحاد الوطني الكُردستاني، وجهات كُردية أخرى وسلمت ملا كريكار الى اوروبا بتهمة الارهاب. ولا يزال الرجل قيد الاقامة الجبرية وقيد قرارالمحاكم بطرده في وقت مناسب.


لكن الشيخ علي بابير رغم ضيق ذرعه بامراض الحركة، فقد بدا أكثر اتزاناً في آدائه السياسي. فقد احتفظ بابير بعلاقة السلم مع الاحزاب الكُردية الأخرى، واستعمل لغة النقد القوي دون التهجم المباشر عليها وعلى قادتها.


لكن الحركة الاسلامية على العموم غلبها ــ كما الاحزاب الكُردية الأخرى ــ الارتجال والعفو في الحياة السياسية، وظلت بمنئى عن تخطيط ومنهج استراتيجي مدروس لحالها ومستقبلها.


التوازن بين اجنحة الحركة خيّم على العلاقة بينها، ولعب دوراً كبيراً في خلق تشكيلات الحركة التي لم تغير من هيكلتها الانتخابات الداخلية التي كان الشيخان كريكار وبابير يحصلان فيها على حصة الأسد.
فالشيخ الراحل علي عبد العزيز، رفض دوماً تغيير مراتب السلطة داخل الحركة عبر الانتخابات، لاجئاً في شرح ذلك الى الاسبقية التاريخية والتراث الأساسي للحركة، التي اعتبرها من مآثره وصناعة عائلته. وساهم اولاد الشيخ علي عبد العزيز في تخريب صفوف الحركة بسبب تصرفاتهم النزقة والبعيدة عن موافقة قياداتها، في عشوائية ضاربة في الارتجال والانفراد غير المسئول.
اصاب الحركة الاسلامية غرور قاتل في بداية التسعينيات، حين بدت شوكتها تطغى على الساحة بعد استقطاب عدد كبير من الشباب الى صفوفها. ومالت الحركة الى الاستهتار بقوة الاحزاب العلمانية وبدت مهيئة للوقوع في شرك الصيد الذي وضِع لها بدقة. فالاتحاد الوطني الكُردستاني (اوك) الذي كان يتململ بين اطباق هوامات الفكر الماركسي، تشنجت اوتار وجوده في المشهد الذي تابعه بقلق وهو يرى الاسلاميين ينقصون من اطرافه وثماره وتخومه.


وبما ان الحركة بسبب ملا كريكار وعوامل أخرى اغضبت الايرانيين، استطاع اوك ان يربح نقطة سلفاً في جولة الصراع بينهما. وبما انها كانت حديثة العهد وفي طور التكوين الفعلي، استهوت الحركة شهوة المواجهة وتجربة عضلاتها امام اوك الذي قام يجر الحركة الى حرب مخططة لها مسبقاً. استفز اوك مرارا وتكرارا الحركة الاسلامية. وبسبب قلّة الرشد والخبرة كانت الحركة تستجيب للمؤثرات وتواجه الاستفزاز بسيل من الحملات الاعلامية الهوجاء. الى وجود عوامل أخرى كثيرة، تسبّب وجود متشددين من الشباب المتحمس في خلق انتكاسات كثيرة في مسار الحركة الاسلامية في كُردستان، وفقدان الثقة العامة.


والحال انشطرت الحركة الى حركات واحزاب لا يجمعها إلا الاختلاف. منها خرج انصار الاسلام الذين تحولوا الى رموز في العنف والتشدد، ذاق الاتحاد الوطني منهم مرارات كثيرة وخسارات ثقيلة.


وتكونت الجماعة الاسلامية بزعامة الشيخ علي بابير، والتي القت السلاح جانباً لتنخرط في العمل السياسي السلمي، رغم انها تعرضت لاعتداءات كثيرة منها عبر الطريق الخطأ، كما قيل، ومنها مقصودة لجرّ الجماعة للقتال من اجل وضعها في خانة انصار الاسلام بهدف القضاء عليها عبر القوات الامريكية، حسب ما افاد به قادة الجماعة الاسلامية. فقد تمّ قصف مقرات الجماعة، وقتل حوالي ستون شخصاً من اعضائها، واغتيل احد قادتهم في نقطة تفتيش باشراف ابن الرئيس جلال طالباني بافيل، وتم اعتقال الشيخ بابير قرابة عامين من قبل القوات الامريكية.
لكن الجماعة حافظت على هدوئها ورباطة جأشها، وتعاملت مع الواقع بعقلانية واتزان. وكسب الشيخ بابير تعاطف الاوساط الثقافية والشعبية بسبب مواقفه المتزنة. وكان قد ألّف كتاباً ضخماً عن اصول الدولة الاسلامية في الفترة التي قضاها في السجن الامريكي.


ومن جهة أخرى أعلن في عام 1994 تشكيل الاتحاد الاسلامي الكُردستاني بزعامة الشيخ صلاح الدين بهاء الدين، وهو تنظيم يستند في جذوره على مفاهيم جماعة (الاخوان المسلمين) التي اسسها الامام حسن البنا عام 1922.


يتمتع الاتحاد الاسلامي بشعبية واسعة وبنشاطات دعوية وخيرية لافتة. ويملك الاتحاد مجموعة مرموقة من قيادات مثقفة وصاعدة، تدير التنظيم بدقة وعقلانية مصممة ومتينة. لكن الاتحاد تعرض لاعتداءات كثيرة من قبل الحزبين الكُرديين الحاكمين في اقليم كُردستان. والاعتداء الذي تعرضت له مقرات الاتحاد قبل عامين من قبل الحزب الديموقراطي الكُردستاني يعد الأكثر عنفاً وارهاباً. فقد قتل في تلك الهجمات حوالي عشرة من اعضاء وقادة الاتحاد فضلاً عن جرح عدد كبير ونهب ممتلكات وتخريب مقرات. علماً ان الاتحاد الاسلامي تنظيم مسالم لا يؤمن بالكفاح المسلح في العمل السياسي. لكن الاتحاد الاسلامي رغم هدوئه واتزانه لكنه يفتقر الى تجربة سياسية ناضجة ومنفتحة على العالم، فضلاً عن فقر الاتحاد المادّي كما الحال مع الاسلاميين الآخرين.


لكن الاسلاميين بشتى جماعاتهم وحركاتهم عجزوا في التحول الى بديل مرجو للحزبين الحاكمين الّذين فقدا مصداقيتهما وهما بانتظار الافول النهائي.


الاسباب كثيرة، ذكرنا بعضها في مقال سابق بعنوان ( الاسلامييون ومراكز القوى في كُردستان، نشر على ايلاف). لكن بالطبع فان العوامل الاقليمية والدولية فضلاً عن افتقار الاسلاميين للقدرات والامكانات، تظل تلعب دورها في عدم تمكنهم من التحول الى بديل مفترض، فضلاً عن سبب رئيس وهو انقسام اقليم كردستان بين مراكز قوى عشائرية قد لا تنضبط في دوائر عقائدية وفكرية وسياسية، على الصعيد القومي والوطني.
وفوق هذا وذاك يحتاج الاسلامييون الى اصلاح جذري في بناهم وفكرهم وحركتهم وطريقة عملهم، قد تعوز الى تضحيات وجهود جبارة، ولكن قبل كلّ شئ الى شجاعة كبيرة لتجاوز الموروث، والتقليد الذي يعيقهم في ظروف مختلفة من العمل السياسي والاجتماعي.

علي سيريني