ببساطة يمكن للمرء أن يتساءل في خضم الملاسنات بين الزعماء السياسيين: هل اتفاق الطائف ( وثيقة الوفاق الوطني) نص مقدس لا يجوز المساس به؟. ومع اعترافنا بأن بنود ذلك الاتفاق التي أنجزها عدد قليل من البرلمانيين اللبنانيين كانت على قدر كبير من الأهمية لمعالجة النزاع الأهلي ( 1975- 1989) الذي مزّق لبنان لأكثر 14 سنة، لكن من المؤكد أن السنوات التي أعقبت ذلك الاتفاق قد انطوت على كثير من المشكلات التي تتعلق بتوزيع السلطة وعلاقاتها بقوى خارجية ترسم لها إيقاع الأداء السياسي والاقتصادي. لذا يلزم أن نعترف بأن تحويل بنود الطائف- التي صيغت في بعض الأحيان بقوالب شاعرية- إلى ما يشبه الآيات التي لا يمكن نسخها أبداً، هو منطق لا ينسجم مع التطورات التي حدثت بعد الاتفاق، والتي تركت آثاراً جوهرية في البنية التي تتحرك عليها التيارات السياسية في لبنان. بمعنى آخر، ثمة إرادة متنامية بقوة لإعادة توزيع سلطة القرار، والفوز بذلك المثقال السياسي الذي يجعل الكفة تميل إلى كفة أخرى. الأحزاب المسيحية انشطرت بين السنة والشيعة على أمل الظفر بذلك المثقال، والعرب انشطروا شطرين بين هذا وذاك، والعالم انشطر أشطاراً متعددة: إيران تحرك خيوط اللعبة بمقتضى رؤية خاصة. وأمريكا تتحرك على الخريطة اللبنانية تحت ضغط النزاع مع إيران وسورية من جهة، والوفاء بالتزاماتها الستراتيجية حيال إسرائيل من جهة ثانية. وفرنسا ساركوزي غير المؤثرة في الصراع الدائر تسعى إلى ترميم صورتها الفرانكفونية من خلال حشر أنفها في نزاع لا يستمع إليها الجميع فيه. ومن مكان بعيد، يطلّ الاتحاد الأوروبي كمثل راهب هرم يوزع مواعظه على الجميع بغية السلام.


إن لبنان بلد غنيّ في تجربته السياسية والثقافية، ويتمتع بخصوصية التركيبة الإثنية التي أتاحت له تنوعاً وخِصْباً ثقافياً مما يقتضي أن تُعالَج بنود الطائف التي قبلت في حينها تحت الضغوط النفسية للحرب معالجة عقلانية تنبع من واقع لبنان ما بعد الطائف لا لبنان الحرب والبغضاء، على أن لا نتنصل تماماً لجوهر الوفاق الوطني الذي بنيت عليه بنود الطائف، الذي كان إنجازاً سياسياً للبنانيين، ودبلوماسياً للمملكة العربية السعودية.


ولكي نضع الخطوة الأولى على طريق الحلّ العقلاني، يجب أن نقوم بتأسيس مبادئ للعيش وتقسيم السلطة تستند إلى رؤية إنسانية ووطنية في آن؛ رؤية تتجاوز عُـقَد الهوية وتعمل على ترسيخ مبادئ تكفل المساواة في الحقوق والواجبات على نحو خاضع لمعيار اللبنانية قبل معيار العرقية أو الطائفية. هذه حسبة رياضية ذات مضمون إنساني، تعمل على بناء مجتمع متماسك، ينتقل باستمرار من تطور إلى تطور آخر. وإذا أردنا أن نختبر مصداقية ذلك، يمكن لنا أن ننظر إلى المجتمعات الغربية التي تساوي في الحقوق والواجبات بين الأعراق والديانات، وإلى تجربتها في تحقيق الاستقرار والتنمية الاجتماعية والاقتصادية. وسوف لن يُخذَل السياسيون الذين يبحثون عن مرجعية فكرية لهذا التوزيع العادل، سواء رجعوا إلى المبادئ الإسلامية أو المبادئ المسيحية، إذ ثمة تشديد دائماً على مبدأ العدالة والتساوي بين الأفراد.


إن المشكلات التي يعاني منها لبنان، على الصعد السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، هي نسخة طبق الأصل من المشكلات التي تعصف بالعراق الآن. تتشابه المشكلة في القضايا الآتية: الدستور، ونظام الانتخابات، وتدخل الدول الإقليمية، وصلاحيات الحكومة، والصراع على السلطة، والمعضلة الاقتصادية، والتناحر الطائفي، والتناحر السياسي بالانقسام إلى فريقين: فريق وطني جداً، وفريق عميل جداً. ومع أن لبنان مارس الحرب الأهلية وذاق ويلاتها، لكن يلزم أن تقرأ الأطراف المتناحرة بصورة عقلانية الوضع في العراق الآن والنتائج الخطيرة التي ترتبت على الصراع من النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية.


من المهم أن نؤكد، أن اتفاق الطائف هو عبارة عن دستور جرت كتابته خارج بلد النزاع ( لبنان) وقام عدد من النواب بكتابة فقراته التي عرضت على أطراف النزاع فقبلت، لكن ألا ينبغي أن يكون هناك حوار داخلي مفتوح وشفاف حول البنود والمبادئ التي يفترض أن تكون مرجعاً لحلّ النزاع الأبدي في بلد يتكون من إثنيات مختلفة؟. ألا يفترض أن ينال الدستور شرعيته الشعبية من خلال حلقات النقاش والتصويت؟. والأهم من ذلك، هو أن يعالج الدستور المشكلات الاساسية التي تتعلق بطبيعة النظام السياسي، ومصادر القرار والتشريع، وبناء دولة واحدة قوية تستمد قوتها من جميع الاطراف السياسية وإن اختلفوا فكرياً وسياسياً وعقائدياً، لكن يلزم أن يكون ثمة اتفاق على نقطة مركزية واحدة هي قوة هذا البلد ووحدته، ومن ثم الاختلاف مباح ووارد ما بين الاحزاب والتيارات السياسية. ولعلّ هذا الاتفاق يكفل بناء دولة قوية ذات ممارسة ديمقراطية، كما هو الحال في بلدان الديمقراطيات الغربية التي لا تختلف عن لبنان في التكوين الإثني، والاختلاف الفكري والثقافي، لكنها استطاعت أن تعالج قضية أساسية في مجتمعاتها هي صمام الأمان بالنسبة لها، ألا وهي المساواة في الحقوق والواجبات التي تصون كرامة الفرد وتحفزه على العطاء والولاء للوطن والتسامح الاجتماعي. إن دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن القول إنها متجانسة سياسياً، وليس خافياً النزاع التقليدي بين الجمهوريين والديمقراطيين، لكن النزاع ليس على نقطة تمت معالجتها منذ الحرب الأهلية الأمريكية بشكل جذري، إنما على قضايا إما تمسّ السياسية الخارجية لأمريكا أو طريقة معالجة ملف استخباراتي كملف الإرهاب، أو حروب أمريكا الخاجية، أو أية قضية ذات انعكاس على المجتمع الأمريكي اقتصادياً وأمنياً. وفي ظني أن النزاعات العربية الداخلية غالباً ما تفتقر إلى المعالجة الجذرية وإلى وضع الحلول الجذرية، مما يقتضي أن نعود دوماً إلى مربع النزاع الأول.

ناظم عودة

[email protected]