تقرير هيئة الاذاعة البريطانية المعنون quot;استشراء الفساد في كردستان العراقquot; قد يكون صادماً للذين لا علم لهم بحقيقة ما يجري في هذا الاقليم، ولكنه ليس كذلك لمواطني الاقليم فهم يعانون من هذا الواقع البائس منذ تسعينيات القرن الماضي عندما تخلصوا من انتهاكات الجيش الحكومي لتتلقاهم انتهاكات الزعامات المحلية. وهذا الواقع ليس فريدا من نوعه فهو نسخة مما يجري في الغالبية العظمى من البلدان العربية: فقر وحرمان شديدين لغالبية الشعب مقابل غنى فاحش لفئة قليلة تدور في فلك السلطة. وثقافياً: معارضون ومثقفون أحرار في السجون مقابل منتفعين وانتهازيين يغذون ـ ويتغذون من ـ الماكينة الاعلامية السلطوية. أو كما عبر محمود درويش منذ زمن بعيد في نص شعري عن التجربة الناصرية:
السد عالٍ شامخٌ
وأنا قصير
والمنشآت كبيرةٌ
وأنا صغير
والأغنيات طليقة
وأنا أسير


في كردستان العراق يقول أصحاب السلطة لمواطنيهم: إختاروا، إما الظلم العنصري من القومية الحاكمة وإما الظلم الاجتماعي من أبناء جلدتكم!

وإذ يكشف تقرير هيئة الاذاعة البريطانبة عن مستنقع كبير من الفساد والاستئثار بالثروة في أرض كردستان يتوجه بالسؤال الى أحد أشهر رموز هذا الفساد، قباد الطالباني (عدي كردستان) عن رأيه في تركز السلطة والمال (والفساد أيضاً) في أسرتي بارزاني وطالباني، فيجيبه: لأن الأسرتين quot;ضحتا بالكثير إبان فترة النضالquot;! بمعنى أنهما ضحتا أكثر من بقية الأكراد ولهذا فإنهما أولى بالنهب من غيرهما. وطبعا يكشف هذا التصريح أكثر مما يخفي: فهو يكشف عن ازدراء الطغمة الحاكمة في إقليم كردستان العراق للضحايا الحقيقيين المنسيين والصامتين: آلاف القرويين والمدنيين الذين جربت فيهم الأنظمة العنصرية العراقية مختلف أنواع الأسلحة، وتقصر هذه التضحية بالأسرتين الحاكمتين في الاقليم. ويكشف أيضا عن الهدف الحقيقي المخفي لـ quot;نضالquot; هاتين الأسرتين والذي يتيبين الآن أنه ليس حقوق الأكراد ولا العدالة القومية...الخ مما سمعناه طويلا، وإنما هو المصالح! لقد كان أنصار الحقوق القومية للأكراد، من القوميات الأخرى، مخدوعين لسنوات طويلة بما يتشدق به الزعماء الأكراد من ثورجيات وقيم، حتى ان كثيرين من هؤلاء الأنصار ضحوا بحياتهم على جبال كردستان، وهم لا يعرفون أنهم كانوا مجرد ورقة بيد الزعماء يلعبون بها لتحقيق مصالحهم المالية والعشائرية والشخصية. وها هو قباد الطالباني يبرر النهب والفساد بما بذله من quot;تضحياتquot; أيام quot;النضالquot;. الحقيقة ان من ضحوا حقيقةً ما يزالون يضحون اليوم، ومن تاجر بالقضية سابقا ما يزالون يتاجرون اليوم. إن من كانوا ضحايا القصف والاعدامات هم اليوم ضحايا الفقر والكوليرا ومختلف أنواع الظلم. ومن كانوا تجار السياسة هم اليوم لصوص المال العام: 6 مليارات دولار كانت حصة الاقليم العام الماضي لا يعرف عنها المواطن الكردي شيئا لأنها لم تأخذ طريقها الى عملية تنمية تحسن أحواله المزرية وإنما جرى اقتسامها بين الحزبين الرئيسيين:52% للبارزانيين و 48% للطالبانيين، ثم اختفت الى الأبد!


الكثير من الوسائل التي شهدناها منذ زمن بعيد في البلدان العربية يكتشفونها اليوم في إقليم كردستان: تبرير القمع الفكري والسياسي بـ quot;خطورة المرحلةquot; وquot;المنعطف الخطير للأمةquot;؛ تبرير الاستئثار بالمال العام بـ quot;توجيه كل الطاقات من أجل المعركة القوميةquot;؛ عرض الاستثمارات السياحية والمشاريع الاستعراضية ومظاهر البذخ للطبقة المترفة على انها مظاهر quot;عملية التنميةquot; الجارية على قدم وساق؛ تبرير الفقر الشامل وانحطاط مستوى الخدمات (في السليمانية مثلا يصل الكهرباء الى المواطنين 3 الى 4 ساعات يوميا رغم توفر الأمن! أما الماء الملوث فاسأل عنه الكوليرا) بارتفاع أو انخفاض الدولار، وبارتفاع أو انخفاض الأسعار العالمية، وبأن الاحصاءات المستقلة عن الفقر والبطالة quot;مغرضةquot; وquot;حاقدةquot;، وبأن الفقر موجود في كل العالم فلماذا التركيز علينا؟


وطبعا تسير الجوقة الاعلامية على الإيقاع نفسه والاتجاه نفسه للأقلية الحاكمة. فالمهرجانات والمجلات والجوائز تكرس جميعا لتزويق هذا الواقع المخزي الذي كشفت عنه البي بي سي، وتغطيته بكل الوسائل الفنية والأدبية والاعلامية. وكثيرا ما يستدعى كتاب ومثقفون من بلدان عربية الى هذه النشاطات وإرضائها مادياً ومعنوياً لكي لا يقصروا في مديح الطغيان وحجب الحقيقة. أما من يأبى هذه الرشوة فمصيره الاتهام بالشوفينية والصدامية و... الى آخر القائمة!

سمير طاهر

(لمطالعة تقرير البي بي سي، الرابط:
http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/middle_east_news/newsid_7182000/7182437.stm)