الرئيس الراحل صدام حسين شخصية قد تكون الأكثر عرضة لجدال طويل وغير منتهي بين الموالين له، وبين الناقمين عليه. وسيبقى هذا الجدال الى حيث يبقى التاريخ ماضياً في سبل الحياة.


الرجل اصبح في ذمّة الله. واي تناول لمسيرته وتاريخه، أراه من جانبي، إذعاناً للموضوعية والخلق الكريم، لأنفسنا أولاً، أن نترفع قليلاً عن الاسلوب الدنئ في تناول شخص غائب أخذ خيره وشره معه قيد الحساب الالهي.


وفي هذا المجال قد يكون مفيداً ضرب المثل به، بصدام حسين، الذي شاهدته في التلفزيون مرّة، في ثمانينيات القرن الماضي وهو يتحدث عن خصمه الكبير، الزعيم الراحل ملّا مصطفى بارزاني. سمعته يترحم على الراحل مع العلم انه كان في حديثه ينقد ويلوم الزعيم الكُردي في صراع مأساوي بينهما. أسوق هذا الكلام للذين يخاصمون صدام، أن لا يكونوا أقلّ لياقة في الحديث منه، التزاماً بالأدب الرفيع في تناول الموضوع.
في عام 1990 حين غزا صدام حسين الكويت، كنت في الخامسة عشر من عمري. قبل الغزو بخمسة أعوام دمّر الجيش العراقي للمرّة الثانية قريتنا. وبعد الغزو بعامين تركت كُردستان ومنذ ذلك التاريخ أعيش في (المنفى الاختياري)/الوطن.


من المفيد الاستهلال بحديث للسيد مسعود بارزاني رئيس اقليم كُردستان، الخصم التقليدي لصدام، كشاهد حيّ لواقع حزين، في مقابلة للاستاذ عثمان العميرـ لإيلاف ـ مع بارزاني في العام الماضي.


يقول بارزاني: ( كان صدام حسين رجلاً متواضعاً في البداية، وكان له الدور الأساس في اتفاقية آذار عام 1970 مع الحركة الكُردية).
في الحقيقة هذه الشهادة تفتح النافذة على تاريخ الرجل كما هو دون انتقاص او تزويد. فلا صدام يُنتقص بالذم ولا يُرفع بالمديح. الرجل انتهى، فضلاً اننا لا نجني من مديحه مالاً وجاهاً ولا من ذمّه رفعة ومقاما. الموضوع هو قول الحق وتبيان حديث في حقبة حرجة، علّنا نأخذ العبر والدروس.
صدام حسين كان شاباً قومياً وطموحاً منذ البداية. بالطبع كانت لديه أحلام وأهداف في سبيل مبادئه ورؤيته. تسنّى له ذلك وبرز نجمه في سبعينيات القرن الماضي حين أصبح نائباً لرئيس الجمهورية أحمد حسن البكر، في دولة تتمتع بثروات هائلة.


في الواقع كان أمام صدام مجموعة تحديات صعبة للغاية منها داخلية وأخرى خارجية. على صعيد الداخل ورث من العهود السابقة كارثة القضية الكُردية التي صنعها الغرب الاستعماري منذ اتفاقية سايكس ـ بيكو التي قضت بتقسيم كُردستان في اكبر كارثة على الشرق يتلوع بها الى اليوم. وكان هناك صراعاً داخلياً على السلطة بين تيارات واحزاب، فضلاً عن التقسيمات الداخلية القاتلة على مستوى المذاهب والجماعات المتعددة في الهوية، كتركة ثقيلة داخل الدولة القومية/الاقليمية (راجع إن شئت مقالينا على ايلاف بعنوان: لماذا تعيش الدولة القومية/الاقليمية ازمات مستمرة).
وخارجياً كان هناك صراع عتيد مع ايران، متعدد الابعاد التاريخية والجغرافية والسياسية والمذهبية. فضلاً عن العلاقات الدولية المتضاربة في ظل الحرب الباردة بين القطبين الأمريكي والسوفيتي، وموروث الأزمات الكثيرة بعد الحربين العالميتين وتقسيمات (يالطا).
حاول صدام ان يستتب له الوضع داخلياً، وتستقر الأوضاع في سلمٍ وأمن.


بعد طول عناء وبعد تعثر المفاوضات مع الأكراد دخل صدام حسين مرغماً وخاطئاً في اتفاقية رابحة لهنيهة، وخاسرة على المدى الأطول، مع شاه ايران الراحل عام 1975 في الجزائر. هذه الاتفاقية ابقت القضية الكُردية دون حلّ، فضلاً عن خسارة العراق لشط العرب وأراضي أخرى لصالح ايران.
بالطبع الحديث يطول في القضية الكُردية التي تدخّلت فيها امريكا والسوفيت واسرائيل وايران.
لكن صداماً وبالاعتماد على ما تنتجه أرض العراق من خيرات، فضّل هذا الخيار من التنازل الأكثر للأكراد خصوصاً في ما يتعلق بمسألة كركوك. والهدف من وراء ذلك كان الحاجة الى السلم الداخلي لتنفيذ مشروعه الكبير للنهوض بالعراق ودفعه الى مصاف الدول المتقدمة. ففي سبيل ذلك جمع صدام اثنا عشر الف عالمٍ في العراق وخارجه، ليس فقط لصنع القنبلة الذرية فحسب، بل من اجل نقل التكنولوجيا الحديثة من الغرب الى العراق.
هذا الأمر وبهذا الوضوح اقلق الدول الغربية لا سيما أمريكا بالاضافة الى اسرائيل. لذلك بذلت هذه الدول ايجاد ما يشغل العراق عن تنفيذ هذا المشروع، فكان ان تدخلت في قضية الداخل الايراني وهيأت للتغيير الجديد. استطاع الزعيم الراحل آية الله خميني من الاستفادة من التسهيلات الغربية لقلب نظام الشاه واقامة الجمهورية الاسلامية الايرانية. قد يُفهم خطأ اننا نومئ الى علاقة مشبوهة بين الراحل آية الله خميني والغرب. قطعاً لا، بل نريد ان نوضح مقاصد الغرب وتدخلاته في استراتيجية مدروسة للتعامل مع قضايا الشرق وفق تخطيط وحساب دقيقين.


بما ان النظام في العراق كان بيد السنة منذ تشكيل الدولة التي تجاور ايران الشيعية، فإن الغرب كان على دراية تامة منذ البداية أن صراعات استنزافية تحدث بين البلدين إذا ما كان هناك نظام يقوم على اسس الاختلاف التاريخي في تكوين البلدين المذهبي والقومي (المعرفة الغربية بالشرق ممتدة في التاريخ وعلم الاستشراق افضل دليل على ذلك). هذا ما حدث بالضبط بعد قيام الجمهورية الاسلامية في ايران. مرّة أخرى الحديث يطول في تناول الجمهورية الاسلامية، لكننا نوجز أن هذه الجمهورية التي غلبها العنصر المذهبي وتطرف كبير في تصدير النمط نفسه الى خارج ايران، وبالتحديد العراق حيث تعيش أكثرية شيعية، تهيأت الأجواء لصراعات مفتوحة ومتوقعة اقليمياً على أكثر من صعيد. قد يكون العراق اول من بدأ بالهجوم في المعركة، وهو أمر يعوز الى نقاش موضوعي غير مثبت بعد، لكن ايران هي التي بدأت الحرب جوهرياً عبر التعبئة الايديولوجية المذهبية الثورية وتصديرها الى العراق ودول المنطقة.


الحرب العراقية ـ الايرانية التي استمرت ثمانية أعوام كانت بمثابة ضربة قوية، وقاضية لاحقاً، لما كان صدام يحلم به في قيادة عراق يبلغ مصاف الدول المتقدمة. في عام 1982 قصفت الطائرات الاسرائيلية مفاعل تموز وقضت على الحلم العراقي بتوليد الطاقة/ وأو القنبلة الذرية.
في ظل الصراع العنيف وانضواء جماعات عراقية تحت لواء ايران، الشيعة مذهبياً، والأكراد في الادامة بصراع مرفوع سابقاً وغير محلول سياسياً وقانونياً، في خطأ تاريخي كبير على المستويين الشيعي والكُردي نفسهما، تعرضت الدولة الى انكسار جوهري على مستوى البنية الوطنية مازال مستمراً. أما السنّة فانفردوا بالمركز منذ البداية واقصوا العناصر الأخرى في خطأ تاريخي كبير (للمزيد يُراجع المصدر المذكور سابقاً على ايلاف).
ايران لم ترحم العراق. فحتى في مسألة الاتفاق افصح آية الله خميني انه يتجرع كأس السم. وحين حررت ايران أراضيها عام 1984 رفضت الاتقاق السلمي، واستمرت بالدخول في أراضي العراق واحتلالها حتى أواخر الحرب عام 1988.


إن هذا الواقع دفع بصدام حسين الى التراجع عما كان يخطط له، وانكفأ قادة العراق نحو العنف والحسابات والمشاعر الأمنية ذات الشدة في التطرف والخطورة. وفي هذا المضمار وفي وقت كانت الدولة تستنزف بشدة عظيمة من حيث الطاقة البشرية والموارد والامكانات، امسى اعتماد صدام في الحفاظ على نظامه، على الأقربين منه في النسب والدم. وفي هذا السياق حدث انقلاب تاريخي وتراجع موضوعي في ظل معادلات واقعية وسياسية، من مفهوم المجتمع/الدولة نحو الحكم الاستبدادي/ نظام القبيلة.وفي هذا المجال امسى الاعتماد على الكمّ اولى من النوع، وأختير الاجتياز على الانجاز.


وفي المجال نفسه امسى حاجة النظام للقوة، في الحساب الأمني ذات أولوية على أهداف ورؤى في وقت سابق، حين كانت مسيرة حزب البعث في السلطة في الطلوع، اي المنتصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي.
بعد تعطيل مسار الأحلام الكبرى والتثبط في تحقيق المشاريع المرجوة، مال الحكم في العراق الى التقليد والتكرار التاريخيين في مسألة السلطة في الشرق تاريخياً. اي ان الاستبداد غلب الاجتماع.
وبموازاة ذلك حدثت جرائم ومظالم كثيرة داخل العراق، ولكن ليس حزب البعث وصدام حسين مسئولين وحيدين عن ذلك. فللقضايا ابعاد تاريخية وموضوعية وسياسية شديدة التعقيد، لا سيما في ما يتعلق بصراع يشترك فيه اكثر من جانب. وعلى سبيل المثال لا يمكن فصل مسألة الاسلحة الكيمياوية وقضية الانفال عن الصراع مع ايران، ومولاة الاحزاب الكُردية للجمهورية الاسلامية. أما مسألة دجيل وأمثالها فتندرج ضمن الصراع العراقي ـ الايراني الدموي.


والحال رافق الوقائع الآنية الانزلاق نحو الشهوة، والاستقلال بجبروت القوة والعظمة، في غفلة عقلية كبيرة، تماهياً في وهمٍ قاتل أن الواقع لا يتغير وأن السلطة خالدة في يد المستحكِمين. هكذا امسى النظام العراقي يتصرف ماضياً في طريق الغروب، مع العلم انه بدأ المسيرة بامتلاكه لمشاريع وطنية كبيرة.


وبعد هلاك واستنزاف كبيرين عاد الغرب يكرر لعبته في التدخل في الشؤون الاقليمية، فحرّكت وتحركت دولة الكويت تستفز نظام العراق في محاولة كانت الأخطر في تاريخ دول الشرق، حيث تسببت في غزو كارثي مازالت عقابيله جارية الى يومنا.
انسلخت الاطوار، وتحوّل الحلم الى بخار. صدام الذي كان يتطلع الى مشاريع وأحلام في وقت سابق، ظل يجرّ خسارة وقوفه في وجه ثلاثين دولة عربية واجنبية.


ووقع العراق تحت اثقال حصار ظالم ومجحف بحق شعبه، أمام أنظار ومسامع العرب والعالم.
الحصار الذي دام 13 عاماً دفع بالعراق الى ان يستقر في اسفل سافلين، حيث تستقر دول معدومة ومتهالكة.
ما يهم بالنسبة للدول الغربية أن العراق لن يحلم بما كان يخطط له من مشاريع واحلام، بالاعتماد على الثروات والطاقات الهائلة فيه.
وهكذا بعد تدخل القوى الخارجية لاسقاط نظام الدولة/المجتمع المتحول الى نظام امني وقائي واستبداله بخليط غير متجانس أعدِم مشروع الدولة في العراق، باستثناء اقليم كُردستان الذي كان مستقلاً عن العراق منذ عام 1991، والذي اجهضته الاحزاب الكُردية، وتبددت الثروة التي كان صدام يحلم بتوظيفها لصالح مشاريعه للوطن/القومية في السبعينيات.


وعلى هذا الأساس وذاك من الصراع وقع صدام حسين في الأسر وأخضع لمحاكمة غير عادلة اطلاقاً. محاكمة تدخلت فيها دول اجنبية واقليمية في بلد يواجه احتلالاً خارجياً.


المفارقة الغريبة، في ظل الكوارث الكثيرة والاستبداد، انه كان هناك مشروع الدولة/المجتمع في زمن صدام حسين، والمتحول الى نمط متراجع أشرنا اليه آنفاً. صدام الذي علّق على مشنقة الاعدام وهو ثابت صارم يدحض ادعاء ناقميه بالخوف والانهيار، بدأت مرحلة جديدة بموته، دفعت بمشروع الدولة/المجتمع المتحول الى نظام أمني قبلي وقائي، الى نظام منقسم بين مراكز القوى العشائرية والمذهبية المتصلة بمشاريع خارجية منها بعيدة جغرافياً ومنها قريبة، لكنها تاريخياً وسياسياً كانت وستكون لأمد طويل اعداماً للعراق على صعيد الدولة التي امست ضحية عوائق قاتلة وحزينة.


والمفارقة الأغرب على الاطلاق أن صداماً الذي حكم العراق أكثر من ثلاثة عقود، اشتهر بالظلم والجرائم. لكن كل ما حدث في ظل حكمه لم يبلغ الأربعة اعوام التي تلت سقوط نظامه، حيث تحوّل العراق فيها الى جحيم حقيقي بيد المرحلة الجديدة، التي لم تبد انها تملك مشروعاً للنهوض بالعراق على قدمٍ وساق في ظل القتال على السلطة والمال، بين فرقاء تجمعهم دماء مهدورة على شكل نهر طويل كدجلة او فرات.

علي سيريني
[email protected]