رسالة لمحاورى قداسة البابا

فى لغتنا الدارجة ألفاظ عبقرية، لا تجد ما يؤدى نفس وظيفتها فى الفصحى ( وإن كنا لا نستغرب أن يكون لها أصل فصيح فى أحد معاجم اللغة). من ضمن هذه الألفاظ كلمة quot;غلوشةquot;.
هل هناك كلمة أصدق تعبيرا عما نقرأه ونسمعه، ليل نهار، من أساليب لى الحقائق أو تزويقها، التلاعب بالأرقام أو التحايل فى استخلاص نتائج التقارير، الانحراف بالمناقشة فى اتجاهات فرعية أو خلط الأمور ببعضها؟!
تحدث الغلوشة بغرض التهرب من المواجهة، وإرباك المتلقى وتشتيت انتباهه، عندما يجد الكاتب أو المتحدث نفسه عاجزا عن الدفاع عن آرائه المتهافتة، أو تصرفاته المشينة، أو دحض حجة المخالف له فى النظرة إلى الأمور.
والغلوشة ليست صفة مقصورة على العرب أو العجم، الجهلة أو المتعلمين، بل هى حيلة دفاعية قد يلجأ إليها أى إنسان يجد نفسه quot;مزنوقquot; فى ركن.
طبعا تختلف آلياتها باختلاف درجة الرقى؛ فنراها فى صورتها البدائية فى حوارات القنوات الفضائية إياها، وحتى أثناء مناقشات بعض المجالس البرلمانية الموقرة: صياح ومقاطعة وتشويح، ولا مانع من تبادل الشتائم واللعنات، وعندما تفشل هذه الوسائل السلمية فى تحقيق الغلوشة المطلوبة، يتم التشابك بالأيدى والتلويح بما يلبس فى القدم. فى مقابل هذا يصل فن الغلوشة على يد السياسيين والدبلوماسيين إلى مستوى رفيع من الذكاء والدهاء والمناورة، مع المحافظة على رقى اللغة والحركات والإيماءات.


وبينما نجد أن مهمة الإعلاميين فى الغرب هى التصدى لأى محاولة للغلوشة يقوم بها من يتحدثون إليه (لا فرق بين رجل الشارع و رئيس الدولة)... لاأمل فى النجاة من أسئلتهم الفاحصة، والويل لمن يظن أن بمقدوره تمويع النقطة المثارة... تجد أن المحاورة الوديعة قد تنمرت، ووجه المحاور المبتسم قد اربد... تراهم وقد انقضوا عليه بلا رحمة ولا رأفة، يعيدون السؤال المحرج مرارا وتكرارا بأعصاب باردة وإرادة فولاذية، ولا يتركونه إلا بعد أن ينتزعوا منه الحقيقة كاملة.


أما فى حالة محاورى برامجنا فالوضع ينعكس: هم القوامون على الغلوشة والتى تبدأ حتى قبل أن يفتح الضيف الذي جلبوه فمه... طريقة صياغتهم للسؤال لا تسمح بأى مساحة للحرية فى الرد. ولو جاءت مقولات الضيف مختلفة عن الإجابة النموذجية المتوقعة، تبدأ مرحلة مكثفة من الغلوشة قد تصل إلى درجة إعادة ما يفترض أن الضيف قد قاله - منذ دقائق معدودة- بعد تعديله تعديلا جذريا، على مسمع منه و بلا خجل ولا حياء، والضيف جالس يحدق بذهول، ولكن هيهات أن يعطى فرصة أخرى للكلام بعد أن ثبت أنه غيرquot;مذاكرquot; لنموذج الإجابة.


نستطيع فى كثير من الأحيان أن نضحك من قلوبنا، ونعتبر هذه البرامج الحوارية كالتمثيليات الفكاهية التى تسرى عن المشاهد، ولكن عندما يصبح هذا الأسلوب هو الغالب على الحوارات مع قداسة البابا شنودة، فإن الموضوع يصبح مؤسفا ومخجلا.


لم يعد يمر عام، إلا وتتسابق وسائل الإعلام المحلية والقنوات الفضائية، فى إجراء حوارات مع قداسته فى مختلف المناسبات. ويتراوح مستوى الأشخاص الذين يتم اختيارهم لهذه المهمة ما بين إعلاميين متميزين و آخرين يتمتعون بنصيب شديد التواضع من القدرات والثقافة، أو حتى الحضور والجاذبية (ورغم ذلك أصبحوا نجوما!!)
ولكن فى كل الأحوال، لا يمكن أن يخلو الحديث من السؤال الذي يتم وضعه بطرق ملفوفة مختلفة، ولكن كلها تحمل فى النهاية هذا المعنى: كيف ترد قداستك على المزاعم التى تختلقها quot;الأيدى الخفيةquot;، وتنشرها quot;المسيحية الصهيونيةquot;، ويضخمها quot; أقباط المهجرquot;؛ للنيل من وحدتنا الوطنية؟
ولم يعد من النادر (لتعدد هذه الأحداث وتصاعد وتيرتها) أن يأتى هذا الحوار والجراح المتخلفة عن مأساة مؤلمة أصابت بعض الأقباط فى إحدى القرى أو المدن المصرية، مازالت تنزف.


ومن الطبيعى أن لا يستطيع الإعلامى اتباع أسلوب quot;الغلوشة المتعاليةquot; فى توجية سؤال إلى شخصية مهيبة كالبابا؛ فهذا الأسلوب يصلح فقط لمن يمكن التأثير عليه أو تخويفه. ولذا يخرج من جعبته البديل الآخر: quot;الغلوشة المتملقةquot;؛ فتجده قبل أن يطرح السؤال الملتوى، يسترسل فى مقدمة طويلة يؤكد فيها ثقة الجميع فى وطنية البابا، وحرصه على الوحدة الوطنية، ووقوفه فى مواجهة كل من يحاول المساس بها. ويتصور الإعلامى quot;المتذاكىquot; أنه بهذه الوسيلة الساذجة سيحرج قداسته ويضطره إلى إجابة متفقة مع الخط الذي يوحى به السؤال.
وفى كل مرة يعطى قداسة البابا درسا بليغا لكل من عنده استعداد لأن يفتح عقله وقلبه للفهم. يجيب إجابة هادئة لا تزيد من اشتعال النيران، ولكنها فى الوقت نفسه تحمل رسالة واضحة: ما يتردد فى الخارج لا ينبعث من فراغ. ما يقع فى أى كفر أو عزبة فى مصر يصبح الآن فى متناول العالم كله بالصوت والصورة فور حدوثه. لم يعد فى وسع أحد منع ذلك. التعتيم لم يعد ممكنا والإنكار لا يجدى. إذن اصلحوا الصوت، ينصلح الصدى. لن يستقيم الظل طالما العود أعوج.


أبانا الروحى لا ينصب نفسه حاميا ومدافعا عن أقباط المهجر؛ فهم أبناؤه، الصالح منهم والطالح، المصيب والمخطئ، وعلا قة الأب بأبنائه ( فى الأسر الكريمة) لا تنناقش دخائلها على الملأ. ولكن هيهات أن يستطيع الإعلامى المجتهد ndash;رغم محاولاته الدءوبة- أن يظفر بمباركته على وصفهم بالعمالة والخيانة.


ومع الكلمات الخارجة من فمه، تطل من عيني قداسته نظراته النافذه. رغم الوجه المغضن والمآقى المتعبة، فإن الإشعاع المنبعث من هذه الأعين الكليلة يحمل خليطا عجيبا من المعانى: الاطمئنان والثبات؛ رغم الحزن و الألم، الإشفاق العطوف على هؤلاء المساكين ومحاولاتهم المكشوفة، والسخرية الرحيمة من هؤلاء الأغرار وأساليبهم التى تبعث على الرثاء.
هل سيستوعب السادة الإعلاميون الذين يتصدرون لمحاورة قداسة البابا الدرس، أم علينا أن نستمر فى تحمل غلوشتهم الفجة السقيمة؟!

ليلى فريد