كلما عصفت بلاغة الحرب فوق لسان زعيم من زعماء لبنان أضع يدي على قلبي خشية أن يفلت العيار، ونبدأ نعض أيدينا ندماً في لحظة لا ينفع فيها الندم. معظم المشكلات التي تتضخم على طاولة أصحاب النفوذ السياسي، إنما هي في حقيقة الأمر لا تستغرق أكثر من ساعات لحلها. ونفس هذه المشكلات، قد تستغرق عقوداً من الزمن عندما تصطبغ النية بصبغة الحماقة، أو تنحشر البلاد في ثقبٍ للرؤية أصغر من ثقب الإبرة، ونستعيض عن النظر إلى الثقب الذي تتركه في وجدانننا مشاهدة شجرة الأرز الواقفة بقامتها غير المحنية بالنظر إلى كل الشجر والماء والنساء والشعر من خلال ثقب البندقية المقيت. نستعيض عن الجميل بالقبيح، ونستعيض عن البريء بالمدنّس، ونستعيض عن الشعر الذي يخضّب جدائل بيروت السكرى مع النسيم بالخطب الحماسية التي تشحذ سكاكين الأخ ضد أخيه، ونستعيض عن ليل لبنان الذي لا يضاهيه ليل آخر بنهار الحرب، ونستعيض عن الحب الذي يغسل أصابع بيروت كل صباح بالبغضاء التي تقطّع كل إصبع وترميه في مفترق طريق، ونستعيض عن موسيقى بيروت التي تبرئ الأكمه بجرب الحرب. كيف يمكن لك يا بيروت أن تقبلي ثانية بمن يغتصب نعومة القصيدة التي تندسّ بينك وبين الصباح كما يندسّ عطر الياسمين في ثياب صباياك؟!
كيف يمكن لك أن تتخلي عن هذ الحوار الملائكي بين الصليب والمنارة؟ وبين الانجيل والقرآن؟ وكيف لك أن تفرطي في جباه تسجد على تربة الحسين، وجباه تتعفر على سجادة الله؟!. قولي مرة: لا، وانتفضي بوجه من يريد تأويلك مرتين. أنت بيروت التي لا تتنفس إلا من رئة واحدة، ولا تلبس إلا قميصاً واحداً، ولا تغفو إلا بين ذرعي رجل يقول لها: أحبك.
عندما قرأت الرواية اللبنانية عن الحرب الأهلية البشعة التي جرت في هذا البلد الأنيق، كنت أشعر بالغثيان لجمال يستباح بنزوة، ولأناس يسحقون بحذاء الأفكار والمبادئ التي لم نجن منها غير الكارثة التي لصقت على جباهنا مثلما يلصق القراد في بطن الحصان. وما زلت أشعر بلوعة بطلة حنان الشيخ في رواية: حكاية زهرة، إذ تتحول فيها رغبات الإنسان المغتالة ببندقية الحرب الأهلية إلى أرواح حقيقية نشاهدها ونشعر بتوسلاتها، ونتشارك معها في صراخها وأسئلتها المفتوحة كزقة السماء التي تغطي فضاء لبنان. وعندما كتبت عن ( مسك الغزال) كنتُ أشعر بنبض بيروت المنتهكة متحداً في نبض البطلة الضائعة التي تريد أن تدمر نفسها بنفسها رغبة في الخلاص من قتامة الحرب والفقر.
كلما أستمع إلى كلام الزعماء السياسيين أشعر أنه زمجرة، وكلما أفتح كتاباً شعرياً تباغتني بيروت كأنوثة نائمة على حرير الزمان. يزمجر السياسيون ليغلقوا نوافذ بيروت بالشظايا، ويمشي الشعر بقدميه ليغرس فوق حاشية كل نافذة قنديلاً ومزهرية. وكلما يزمجر السياسيون، تحضنك فيروز في النغم القدس: شايف البحر شو كبير بكبر البحر بحبك.
متى نترك للشعر يا بيروت أن يكون إماماً وقديساً، ونصطف خلفه كأننا نخطّ بهمهماتنا ديواناً جديداً بعد أن نقتل شاعره الأوحد؟!. بيروت، لا يليق بأنوثتك شاعر أوحد يختزلك في قصيدة، أنت لست معنى قابلاً للاستعادة حتى تكوني قصيدة، ولست طيراً ثميناً حتى يفكروا لك بقفص، بيروت أنت أوسع من أن تحيط بك اللغة، رأسك نائم بين ملكوت الله وأطرافك تغتسلان بجداول العشق، فلا تقبلي أن يقلقوا نومتك الجميلة، ويضيع الأصدقاء في خرائط جديدة.

ناظم عودة

[email protected]