وجه البابا بندكتس السادس عشر، يوم الجمعة 18\1 رسالة سامية إلى المسيحيين العرب الساكنين في البلدان العربية، وأتت كلمته أمام الأساقفة العاملين في البلدان العربية المشرقية، أي من الأردن والقدس والناصرة ومصر والكويت والإمارات وجيبوتي والصومال وقبرص ولبنان وسوريا والعراق، في ختام زيارتهم القانونية في الفاتيكان، وتسمّى quot;بزيارة الأعتاب الرسوليةquot; التي على كل أسقف القيام بها كل 5 سنوات.. ولهذه الزيارة، بتعبير البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، ثلاثة معاني: أولها زيارة قبر الرسولين بطرس وبولس. ثم الالتقاء بخليفة مار بطرس) البابا) بحيث تتعمّق الوحدة والتضامن من خلال شركة الأساقفة. وأخيرا الالتقاء بمختلف الدوائر الرسمية في الفاتيكان ليقف الأساقفة على ما يجري فيها وليستفيدوا من تخصّصاتها.
كان خطاب البابا شاملا وجوابا على التقارير الخاصّة التي قدّمها كل أسقف مشارك، حول كنيسته في مواقع قوّتها وضعفها والتحديات التي تواجهها. وقد أجمل هذه التحديات البطريرك ميشيل صباح، وهو رئيس مجلس الأساقفة العاملين في الوطن العربي. فقال أمام البابا، إنّ التحديات كثيرة وأولها عدم الأمان والأمن السياسيين والأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها البلدان العربية، وينجم عن هذين التحديين دفع السكان إلى الهجرة، وهي تؤثر على كل المواطنين، لكنّها تؤثر بشكل خاص على المسيحيين الذي يشكلون أقليات عددية في بلدانهم، رغم التزامهم بقضايا شعوبهم ومجتمعاتهم. وأضاف البطريرك أن هنالك تحديا مشتركا يواجه المسلمين والمسيحيين على السواء، وهو خطر التطرّف الديني الذي يستثيره من جهة فهم مخطئ للدين بتحويله إلى عامل مقاومة سياسية وبإحلال الذات والهوية السياسية محل الله سبحانه وتعالى، ويستثيره من جهة أخرى المظالم الموجودة في العالم.
بدوره، تحدّث البابا إلى الأساقفة، ومن خلالهم إلى كل مسيحي عربي. وسلط الضوء على الوجود المسيحي في الوطن العربي وعلى قضية الهجرة، لكنّه أبدى استعدادا كبيرا للتعاون مع الكنائس المحلية، لتنمية مشاريع اجتماعية واقتصادية تدعم المسيحيين الذين اختاروا البقاء في بلدانهم الأصلية. ووصف البابا حضور المسيحيين بأنه مشرّف، تبعا للمؤسسات الروحية والتربوية والصحية التي يديرونها، وهي محط إعجاب المواطنين كافة. وقال انّ المسيحيين العرب هم quot;صانعو سلام وعدالة quot;. ومن جهة أخرى، دعا إلى تعزيز الحوار الإسلامي المسيحي في البلدان العربية، لأنّ ذلك يخلق فهما متبادلا بين الجميع، وبالتالي يعزّز المساواة في الحقوق والواجبات بين السكان كافة.
أمّا النقطة الساخنة التي تعرّض لها البابا في كلامه، والتي ركزت عليها وسائل الإعلام، فهي الحرية الدينية في الوطن العربي. وهي الموضوع الذي تركز عليه الكنيسة من باب حقوق الإنسان الأساسية. وقد نصّت عليها شرعة حقوق الإنسان التي مرّ عليها ستون عاما. لكنّها ما زالت غير مكتملة في البلدان العربية. فلماذا ركز عليها البابا ودعا إلى وجودها لكل فرد؟
جاء كلام البابا جوابا على تقارير الأساقفة. وبدورهم ذكروا على لسان البطريرك صباح أن quot;الدساتير العربية تساوي بين المواطنين من غير تفرقة من حيث الدين. ولنا الحرية الدينية لنعيش إيماننا ونبني كنائسنا ومدارسناquot;. إلا أنّ الأمر نسبي بالطبع، وقد يختلف من بلد إلى آخر. ومن جهة أخرى، فما ركز عليه البابا ليس حرية العبادة في المجتمعات العربية، وإنما الحرية الدينية، وهي حق أساسي للإنسان، كل إنسان. وهنالك فرق بين حرية العبادة والحرية الدينية. الأولى أن يقوم المواطنون بإجراء شعائر عبادتهم وتقواهم بسهولة ويسر. وهذا حاصل في البلدان التي فيها حضور مسيحي مميّز. رغم أنّ بعض الظروف السياسية، وبخاصّة في العراق اليوم، قد تمنع الوصول إلى أماكن العبادة، نظرا للتفجيرات التي تمارسها فئات متظرّفة. لكنّ الحرية الدينية التي تحدّث عنها البابا هي شأن آخر، فقد قال: quot;أتطلع بشدّة لان تصبح الحريات الدينية الحقيقية واقعا في كل مكان وان حق أي شخص في ممارسة دينه بحرية أو تغييره ينبغي عدم عرقلته.quot; هذه هي الحرية الدينية الصحيحة، وهي ما يطلق عليه اسم quot;حرية الضميرquot;. وهي غير موجودة طبعا في أي بلد عربي. وان وجدت، فهي بمستطاع فئة دون الأخرى. لكننا لن نستطيع الكلام عن حقوق الإنسان في أي بقعة من الدنيا، مع استثناء هذا الحق الأساسي، أي الحرية الدينية. وهي، إن صح التعبير، الباروميتر، الذي يشير إلى مدى جدية حقوق الإنسان في أي مجتمع ديمقراطي.
لم يكن في ذهن البابا أو الأساقفة توجيه الانتقاد لأي دولة عربية. بل كانت الزيارة تصويرا للمشهد العربي، من باب الحضور العربي المسيحي المشرّف، ومن باب العلاقات القانونية السليمة التي يجب أن تحكم بين المواطنين. والمطلوب هو انفتاح الشعوب العربية، وقياداتها، ودساتيرها، على المساواة الحقوقية والقانونية التامّة بين المواطنين كافة. والمطلوب كذلك ألا يكون أحد أطراف معادلة quot;العيش الديني المشتركquot; منقوص الحقوق لحساب غيره أو لصالح الأغلبية المتسيّدة ثقافيا ودينيا وإعلاميا. فهل مجتمعاتنا العربية مهيّئة لمثل هذا الانفتاح؟
لقد تكلم الأساقفة وعادوا إلى بلدانهم العربية بما فيها من مواقع قوّة ومن مظاهر شقاء. وتكلم البابا كرأس للكنيسة الكاثوليكية في العالم، وودّع ضيوفه ليذهب إلى انشغالاته اليومية المتعدّدة. يبقى أن ندعو أن يكون لتلك الكلمات آذان صاغية. ليس من قبل المسيحيين الكاثوليك الذين يرأسهم البابا فحسب، بل من كل الجماعات المسيحية المتعدّدة الطقوس والأشكال. وليس كذلك من المسيحيين فقط بل أيضا، من أخوتهم المسلمين في واجب احترام الآخر المختلف وضرورة المشاركة التامّة معه في خدمة المجتمع العربي، وفي خدمة الإنسان العربي الذي أقل ما يوصف به أنّه إنسان متألم.


الأب رفعــت بدر
www.abouna.org
[email protected]