ألا يحق لنا أن نتساءل، وبكثير من العفوية والبراءة التي تصل حدود الخبل الصبياني، ما هو السر الذي quot;لمّquot; الشامي على المغربي، والماركسي على السلفي، والليبرالوي على القوموي، والحزبوي على المستقل، والإخواني على البلشفي؟ وما هو المشترك العجيب الجامع فيما بين كل تلك التيارات المتباينة الأهداف والمصالح؟ إنه وببساطة العداء الشخصوي الكيدي والمتورم للنظام ينفي بدواخله أية موجبات منهجية أخرى مبررة ومقنعة. وهنا يبرز تساؤل آخر أكثر منطقية وإلحاحاً، هذه المرة وهو، هل يكفي هذا العداء لوحده والذي لا يندرج البتة، في خانة الوطني، ليكون منصة لانطلاق أي نشاط وفعل سياسي حقيقي؟

العداء الأسود والمفرط للنظام، ولكل أسبابه، وبناء على quot;اعتباراتquot; مفهومة تماماً، أحياناً، ليست لوحدها إيديولوجية بنيوية ناجعة وجامعة يتطلبها أي ائتلاف سياسي، تضمن بقاءه ويصح أن يبنى عليها. ولا يمكن أن يكون ناظماً يلتف حوله كل ذي مطمح سياسي، ففي النهاية تبرز الحسابات والرؤى الخاصة، وبدهيات علم السياسة تقول لا يوجد هناك عداوات دائمة ولا صداقات دائمة، بل هناك مصالح دائمة هي التي يعول عليها فما هي المصلحة المشتركة التي تعول عليها هذه التيارات المتنافرة وتجمع فيما بينها؟ ما حصل بالضبط في الجلسة الأخيرة للإعلان هو أن تفجرت فيه الصراعات الحزبية، وبانت الأجندات الخفية، وبرزت التكتلات الشخصية، وانتصرت فيه الاعتبارات الإيديولوجية الضيقة على نحو صارخ ومهين، وغابت المصالح العامة والمشتركة، لم تنفع معه كل تلك البلاغات الخطابية اللفظية والنضالية واللعب على مفردات الفساد والاستبداد في تجميلها أو إخفائها البتة. كما ولا يزال مصير الجماعة الدينية quot;لا معلق ولا مطلـّقquot; كما يقال، وهذه، ولعمري، واحدة من الالتباسات الكبرى غير المحسومة، ولا المفهومة، التي تكتنف مصير الإعلان حتى اللحظة، وتظهره كـمجرد quot;فزعة عربquot; ليس إلا، تغيب فيه المصلحة العامة دائماً، وتفتقر لأدنى نوع من التجانس الفكري، وذلك ما يحجم عن ذكره كل كتـّاب المراثي والقوافي البكـّائين على الإعلان يكابرون ويتهربون من مواجهته تماماً، والإجابة عليه، لاسيما بعد ذاك التزواج الغريب بين الجماعة الدينية وواحد من أكثر الرموز المافيوية السورية فتكاً ورعباً ونهباًً.

هذا السيرك النضالي المخيف يجري، وبكل quot;أسفquot; قبل أن quot;يسقط النظامquot;، فيما بين تلك quot;النخبquot; المزمنة التي تحاول أن ترسم مستقبل وطريق حياة السوريين. بينما انبرى فرسان وصناديد quot;الترمونولوجياquot;، واللعب بالكلمات، الموبوؤون بالبروستات، واللهم لا شماتة هنا، بتلاوة تراتيل الرثاء على مصير الإعلان وآله quot;الأطهارquot; الخيـّرين بدت في إحدى منظوراتها وتفسيراتها كعملية تأسيس لمازوشية سياسية غريبة تنبني على افتعال مواجهات دونكوشوتية انفعالية وعصابية غير متكافئة، خارج سياقات التاريخ والجغرافيا ومساراتها، ذات هدف واحد ووحيد، وهو إحياء مراسم ندب وبكاء من جديد ليس إلاّ، ولا لشيء سواه. ومن هنا، وبكل تجرد، لا أرى أي سبب موجب لتلك الملاحقة والمطاردة الأمنية لبعض من رموز الإعلان، فجماعة الإعلان من quot;غير طبل يرقصونquot;، اللهم إلا إذا كانت هناك اعتبارات غير مرئية، وتتعلق بأمن ومصالح الدولة العليا، فلا حول ولا قوة.

ربـّاه، أليس من الغرابة، أيضاً، أن يكون رهط غير قليل من الإعلانيين مصاباً بالبروستاتا ولا تظهر أعراضها، أو لوثاتها، ولا فرق هنا، إلا حين حدوث عمليات quot;احتكاكquot; من أي نوع مع النظام وأجهزته المختلفة، وتبدأ حينها فقط quot;مشاعرquot; وطقوس اللطم والندب البروستاتي المهيب؟ لقد كانت كراهية النظام المستفحلة هي الناظم المشترك الذي التفت حوله كل تلك اللمامات الإيديولوجية المهزومة تاريخياً والفاقدة الصلاحية زمنياً، والتي تتنافر، منطقياً، ولا تلتقي فكرياً، في الكثير من المفاصل الإيديولوجية والحيوية، أو حتى الإستراتيجية، وبدون أية مصلحة مشتركة دائماً،
ولكنها تقوم وتُستنهض حول الكراهية والعداء المجرد للنظام، فيما يشبه نوعاً من القبلية والبداوة السياسية، والفزعات الإعرابية، التي لا حاجة لنا بها في أي عمل وطني بقدر حاجتنا للحكمة والتعقل والتبصر والرؤى الاستشرافية البعيدة التي افتقدناها حتى اللحظة في عمل وسلوك الإعلانيين.

فحين أتى وقت السياسة، والعمل الجاد، وليس العاطفة، وفزعة الفزّاع، تباينت المآرب الإيديولوجية وظهرت الأنانيات والطموحات الشخصية، ورجحت كفة الغايات الحزبوية، وحدث الافتراق، وحصل الانشقاق، وانفرط عقد الإعلانيين على ذاك النحو المحزن الكئيب. لا يجوز أن يمتزج، أبداً، السياسي بالعاطفي، أو الشخصي بالعام، ولا الإيديولوجيا والأحزاب بالمبادئ والأخلاق. كما لا يجب، وبنفس السياق أن تلتقي المانديلية مع البوشية على الإطلاق، هذا إذا كان هناك ثمة مانديلية من الأساس في هذه المواويل السياسية الصمّاء. هذه هي أبجديات السياسة التي يفتقد أبسط أأساسياتها
جهابذة الإعلانيين ومن والاهم فيما وراء الحدود والبحار.

لقد كان الاجتماع الأخير بمثابة القشة التي قصمت ظهر الإعلان الشهير، تفجرت فيه كل المتناقضات، وأظهرت كافة عيوبه التي حاول إخفاءها تحت مظلة من البلاغات والمجترّات التاريخية، التي دأبت على النواح ودغدغة الغرائز والأهواء السياسية، بأكثر مما تخاطب المنطق وتحترم عقول الرجال. وما سيل الانسحابات وتجميد العضويات، والانتقادات المتلاحقة التي تناولته، ومن مختلف المشارب والاتجاهات والأنواء، إلا تأكيد على ذاك الخلل الكبير ووجود الكثير من الفجوات التي مكـّنت النقـّاد الحياديين والموضوعيين من النفاد والولوج إليه، ومن عدة زوايا، ناهيك عن بيضة
القبـّان التي تجلـّت بالتصريحات الارتجالية اللامسؤولة والصبيانية الهوجاء لشيوخه، والتي حسمت أمره جماهيرياً وتنظيمياً، ووضعته في دائرة المشبوه والمحظور وطنياً، قبل أي اعتبار مبدئي أو أخلاقي آخر.

عجزت الكراهية والعداء المطلق، والشخصي أحياناً، للنظام لوحدهما، وغياب الرؤية الوطنية المجردة والحقيقية، والافتقار للفعل والموقف السياسي الراقي المجرد والنابذ للاعتبارات اللاوطنية، في بلوغ أي هدف سياسي حتى اللحظة، أو في إحداث أي نقلة نوعية في مسيرة المعارضة السورية وإحداث أي نوع من الإجماع العام حولها، ولا حتى في التأسيس لوعي جماهيري تغييري عام ما زالت تحتكره quot;النخبquot; الفكرية والحزبوية، وعاجزة عن تصديره لأبعد من دوائر المحسوبين والأزلام والردادين المغلقة، وعبر ممارساتها الاحتكارية الشخصوية والأنانوية الفجة والظاهرة. وكل ما تجلى حتى اللحظة هو محض مماحكات وكيد شخصوي وردح إليكتروني أدى إلى تلك النهايات والانهيارات المتتالية، والانشقاقات الفضائحية المستمرة في جسد المعارضة حولتها بدورها إلى ملل ونحلل وعشائر وقبائل متعارضة فيما بينها. فالمعارضة الحقيقية، وقبل أي شيء آخر، هي فعل وطني بحت، يروم الارتقاء وتعبئة الجهد العام وتهذيب الحراك السياسي ليصب في طاحونة الصالح العام، وليست إرباً شخصياً أو عداوات فردية أو تعويلاً واستقواء بعامل خارجي، أو أن تتحول في إحدى مراحلها إلى عملية تطييف واصطفافات أقل ما يقال عنها بأنها غير وطنية وصارت معول هدم غايته بث الفرقة والشقاق وزرع بذور الفتنة بين المكونات الاجتماعية واللعب على أوتار فئوية تؤدي لاحقاً، ولا محالة، لتفجير مجتمعي شامل لا يعرف أحد مداه أو منتهاه.

نضال نعيسة
[email protected]