غريب أمر الفيلم التسجيلي الذي شاهدته مؤخرا عن تجميد الموتى، فهو يحكي بالتفصيل أحدث صيحة في أمريكا للحفاظ على الجثث الآدمية!
هناك يمكنك تجميد جثة أي شخص عزيز عليك..والحفاظ عليها في بنك خاص حتى يمكنك زيارتها وقتما شئت، وعلى أمل أن يتوصل العلم في المستقبل إلى طريقة لإحياء الموتى!
العاملون في مركز quot;ألكورquot; لتجميد الموتى بأريزونا يعتبرون أنفسهم روادا في هذا المجال وهم مقتنعون بأهمية ما يقومون به..لأنهم يقتحمون مجالا غير مسبوق في تاريخ الإنسان..كما أنهم - وهذا ما لم يعترفوا به صراحة- يحققون من وراء ذلك ملايين الدولارات !
في أريزونا يحنطون جثث الموتى بالتجميد..وهو ليس ابتكارا جديدا فقد حافظت الثلوج في بحر الشمال والقارتين القطبيتين على جثث حيوانات نادرة وإنسان ما قبل التاريخ!
الفارق الوحيد بين ثلوج القطب الشمالي ومركز ألكور هو التحكم في درجات التجميد ndash;هكذا يقول علماء المركز- حتى لا تتعرض أعضاء الجسم الآدمي للكسر أو التشقق كالزجاج!
والفكرة باختصار تدور حول تجميد الجثث عند 110 درجات تحت الصفر على مراحل لحماية أعضائها الحيوية ثم حفظها في النهاية داخل أوعية خاصة يستوعب الواحد منها ثلاثة جثث !
كانت أول جثة جمدها المركز لزوجة أمريكية طلب زوجها الوفي تجميدها مقابل مليون دولار..وكان الرجل سعيدا وهو يحتضن الخزان الذي ترقد بداخله زوجته مثلجة.. كان واضحا أنه يحبها لدرجة أنه لم يتقبل فكرة دفنها بالطريقة التقليدية لتأكلها الديدان!
مركز تجميد الموتى بأريزونا يمكنك اعتباره فرعا جديدا ومتطورا لمراكز تحنيط الموتى في مصر الفرعونية!
منذ سبعة آلاف سنة أو يزيد كان الفراعنة يحفظون جثث موتاهم بالتحنيط، فتحت شمس مصر الحارقة لا يمكنك حفظ أي جثة إلا بالتجفيف والتمليح!
كان المصريون القدماء يحنطون جثث موتاهم بنفس الطريقة التي يحفظون بها الأسماك المملحة..مع فارق بسيط هو أنهم كانوا يضيفون للجثث توليفة غامضة من القار والصمغ والملح والأعشاب !
الفارق الوحيد بين علماء أريزونا وكهنة الفراعنة هو التقنية المستخدمة في الحفاظ على الجثث..التثليج مقابل التحنيط..وكذلك الهدف فقد كان الفراعنة يحنطون موتاهم على أمل عودتهم للحياة في العالم الآخر أما الأمريكان فيأملون أن يتم ذلك في هذه الدنيا!
ومع تباين الآراء حول الفكرة، يرى البعض أنها محاولة علمية للحفاظ على جثث البشر على أمل حل لغز الموت في المستقبل وإعادة أصحابها إلى الحياة، بينما يراها الآخرون مشروعا استثماريا يتاجر بمشاعر أقارب الموتى من أصحاب الملايين!

والمسألة كلها تدور حول رغبة كامنة في الخلود وهي رغبة تطارد الإنسان منذ بدء الخليقة وتحديدا حين أكل آدم من الشجرة على أمل أن يعيش بلا موت..وهي نفس الرغبة التي تفسر الجري وراء عقاقير الشباب وإكسير الحياة الذي يطيل العمر ومراكز تأخير الشيخوخة وخيام الأوكسجين وعلم تجديد الخلايا وأخيرا وليس آخرا تجميد البشر بعد وفاتهم على أمل إعادتهم إلى الحياة!

عرفت البشرية عبر تاريخها الطويل أشكالا مختلفة للتعامل مع جثث الموتى سواء بدفنها أو حرقها أو تحنيطها على أمل عودة أصحابها للحياة في اليوم الآخر. لكنهم في مركز ألكور بأريزونا يثلجون الموتى..وهم -العلماء وأقارب الموتى- يحلمون بعودتهم إلى الحياة في هذا العالم يوما ما!

والفكرة كما ترى أقرب للخيال العلمي أو quot;البيزنسquot; العلمي لكنها تختلف بكل تأكيد عما يحدث في مناطق كثيرة من عالمنا العربي حيث يجمد ملايين البشر وهم أحياء لصالح النصابين والأفاقين والمهرجين ولاعبي الثلاث ورقات!

عبد العزيز محمود
* كاتب وصحفي من مصر
[email protected]