-1-
الخرافة المقدّسة
عندما يتحول الناس إلى مجرد رقم رياضي في معادلة التسلق إلى السلطة بمعناها الواسع الذي لا يقتصر على السياسي بل يتعداه إلى الروحي ( الديني) والاجتماعي، فليس مستغرباً أن يحرص سماسرة السلطة على تربية الخرافة بين هؤلاء الناس الرقم، وإدامتها ومحاولة جعلها بديلاً عن اليقين العقلي. إنها حرب شرسة بين العقل ونقيضه.
ومن يفتش عن سرّ انتعاش شجرة الخرافة في هذا البلد سوف تتكشّف له شخصية المُخْرِج الخبير الذي يقف وراء تلك المسرحية الأزلية: مسرحية الاستبداد والتسلّط lt;lt; المقدّسينgt;gt;. وهكذا فإنّ شجرة الخرافة في الإسلام عموماً وفي هذا البلد خصوصاً لا تتغذى من طبيعة اجتماعية محضة، إنما ثمة ضخّ من نوع آخر يتلاعب بالمتن الثقافي الموروث لصالح تمتين السلطة التي تتيح استمرار الهيمنة وممارسة حق القيادة والاستبداد والتسلّط.
كتب الدين محشوة بالتلاعبات والتأويلات والكذب والتلفيق والحكايات التي تتنافى مع منطق العقل ووقائع التاريخ، لكن المؤسسة ndash; المؤسسة الدينية- التي ترعى الخرافة محكومة بنوازع بشرية تريد أن تتقمص سلطة السماء، وربما لا تكشف عن رغبة لإلغاء دورها تماماً لتحلّ محلّه. ولكي لا ننجرّ وراء غواية الكلام النظري، يمكن أن نضع أيدينا على ذلك مجسداً في مؤسستين من مؤسسات الإسلام وهما:
- المؤسسة الدينية السنية متمثلة في حركاتها الأصولية الراديكالية ذات الغايات السياسية، وكذلك في حركاتها الأصولية الفكرية التي تشعر بنوع من التعالي باقترابها من دوائر السلطة السياسية ( فقهاء السلطان). كلا الحركتين تجهّز الخرافة لتسويق أهدافها.
- المؤسسة الدينية الشيعية، متمثلة في تياراتها الفكرية التي تسعى إلى المحافظة على هيبة المؤسسة وسلطتها من خلال خلق خلطة من الحكايات والأفكار التي تمنحها مقاليد التأثير في السواد الأعظم من الناس وقيادتها، أو في حركاتها السياسية التي تستعيض عن البرامج الدنيوية التي تعمل على تطوير وتحديث المجتمع ببرامج روحية طقوسية تضمن وتديم لها عناصر التأثير والتسلط والحق المقدس في القيادة. من وراثة الدكتاتور العلماني بالكرافيته والبنطال إلى وراثة الدكتاتور الديني بالعمامة والقفطان.


-2-
الخاسر الأكبر

لكن الذي ينخدع بمقدمات الغواية التي تنطوي عليها الخرافة المقدسة ذات الوظيفة التسلطية، فيكون هو الآخر جسداً مقدساً حاملاً شعلتها إنما هو في حقيقة الأمر يمثل القوة والضعف في آن، ويمثل الفوز والخسارة، ويمثل الحياة والموت. هذه ليست رطانة، أو أحجية، بل إن الجموع التي تعتنق الأفكار وتتحول إلى قوة مادية فيما بعد كما يرى ماركس، هي الجموع التي تمنح القوة للسلطة الدينية تحت غطاء الحق المقدس فيما تسلبها من نفسها، وهي التي تمنح الفوز لتلك السلطة في كل النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية فيما هي تخسره، وهي التي تحيط تلك السلطة بجدار مقدس للحماية والحياة فيما هي تفقد الحياة كما لوأنها بعوضة تحت قدم فيل كبير.
الجموع الغفيرة الحالمة بالحياة الأفضل، الباحثة عن مخلّص مجهول، الجموع التي تصفق وتلعلع حناجرها خلف المخلّص الرمز، هي وقود النار وحطبها ورمادها. هذه هي المعادلة القاسية في مجتمع الإسلام عموماً وفي مجتمع العراق خصوصاً.


-3-
المرجعية الخرافية لجند السماء
مدينة النجف التي حدثت فيها المذبحة الأولى التي عرفت بمذبحة: جند السماء، إنما هي مدينة عائمة على محيط من الخرافات، ومحيط من النفوس ذات العاطفة الجياشة المشرعة الأبواب لأية نسمة من نسمات الخرافة المجلببة بجلباب ديني والتي تدغدغ أغصان تلك العاطفة فتساقط ثمراً جنياً. للأسف هذا هو المدخل الذي تتسلل منه الحركات التي تضحك على ذقون السواد الأعظم من العراقيين طمعاً في التسلط lt;lt; المقدسgt;gt;. وجند السماء، سواء أكانت حركة مهدوية حقيقية، أو انتفاضة شيعية ذات خلفية سياسية دينية ثارت بوجه الاستبداد الديني المهيمن رسمياً الآن على مدن العراق السنية والشيعية معاً، أو صنعة مخابراتية لإحدى الدول اللاعبة في العراق، فإن النتيجة واحدة: خديعة بوجوه مختلفة وشعب مقهور على نحو مكرور.


والمذبحة الجديدة التي تحدث الآن في مدينة البصرة ndash; عودة جديدة لجند السماء كما تقول الأخبار الواردة من هناك- في أقصى الجنوب العراقي، وكذلك في مدينة الناصرية إذ رفعت الرايات الصفراء بيد جماعة تطلق على نفسها: أنصار المهدي، أقول إن كل تلك المذابح إنما هي سلسلة من حلقات مترابطة، تحيط بالعراق من جنوبه إلى شماله في ظل دولة طقوسية، مما يمكن أن نطلق عليه: أرض الخرافة المقدسة.


لا يتبسّم ابتسامة شامت أخواننا العرب، فالمجتمع العربي في كل البلاد العربية، إنما يتغذى من متن خرافي لا ينضب أبداً. والطريف أن المخيلة العربية صارت تبتكر الخرافة عندما لا يسعفها ذلك المتن في لحظة من اللحظات. مازلت أتذكر ذلك الجار العربي في إحدى العواصم العربية أثناء دخول القوات الأمريكية إلى العراق من جهة أمّ قصر، إذ شرح لي تفاصيل خطة لا تخطر على البال ولا على الخاطر من أن صدام حسين سوف يستعمل طريقة الدبس ( أي العسل الاسود/ عسل التمر) في خنادق مملوءة دبساً ومغطاة بطبقة رملية رقيقة أعدت خصيصاً كمصيدة للقوات الأمريكية الغازية. وقال بأن التمر أحد الثمار المقدسة في الجنة، وذُكِرَ في القرآن في سورة مريم: وهزّي إليك بجذعِ النخلةِ تساقِطْ رطباً جنياً. وزارني الرجل في بيتي ليزفّ إليّ البشرى الكبيرة وهو يحتسي القهوة بيدٍ والحلوى بيدٍ أخرى بشهية مفتوحة على انتصار قريب. أو تلك الخرافة المعروفة لدى الليبيين من أن سبب العدد الكبير من القتلى في صفوف الجيش الليبي أثناء الحرب مع تشاد يعود إلى أن الجنود التشاديين كانوا يشدون على صدورهم حجابات ( أوراقا) من السحر الاسود، فكان الجن يجعل الجندي الليبي يُرى ولا يَرى خصمَه. هكذا يعالج المجتمع العربي قضاياه الحساسة، الخوارق موجودة في كل زمان ومكان، وهي حلّ جاهز لكثير من مشكلاتنا المزمنة التي تنخر في جسد هذا الوطن ذي الخيرات والقدرات العظيمة، لكن المعطلة بفعل انتعاش الخرافة في المجتمع العربي من المحيط إلى الخليج.


نظرية الإمام المهدي، واحدة من أخطر النظريات في الإسلام السياسي، ذلك أن الذين يزودونها بعناصر القوة والخطورة هم العوام المخذولون، المتطلعون إلى التغيير دوماً، الثوار الجاهزون للاكتساح، وبما أنهم السواد الأعظم فإنّ فرائص الحكام والمستبدين ترتعد حينما يهيج هؤلاء، وغالباً ما يصطلح عليهم أعداؤهم مصطلح: الغوغاء. ولأن فكرة المهدي معروفة في كل ديانات العالم، وكلها تشترك في مضمون ثوري هو: المخلّص، فإن هؤلاء العوام المتطلعين إلى الخلاص ومنتظري الحياة المثلى سوف يهبّون خلف كل شخص يتقمص شخصية المهدي المتظر. ومن هنا خطورة النظرية، لأن المتقمِّص يمتلك الرقم الاكبر في معادلة القوة. ولذا ترى المستعجلين للتربّع على عرش السلطة هم أول من يفكر بأقصر السبل وأنجحها وهو سبيل غواية السواد الأعظم، ولا مؤثر أقوى من تقمص شخصية الإمام المهدي، أو الإيهام بأن المرجعية النظرية التي يستند إليها خطابهم السياسي الديني هي مهدوية روحاً وبدناً. والشعارات جاهزة، وجاهزة كذلك الحناجر المدربة على الانحناء يميناً وشمالاً كشجرة النفاق في وصفٍ من أبلغ أوصاف الإمام علي.


-4-
السواد المقموع
هذا السواد، مقموع مرتين: مرة مقموع قمعاً حقيقياً على أرض الواقع، ومرة مقموع بالاستغفال والخديعة.
لاحظوا كيف هي الرواية الرسمية لحقيقة جند السماء. ذكر نائب محافظ النجف ( عبد الحسين عبطان) لقناة ( العراقية) في نشرة أخبار الساعة الثامنة بتوقيت بغداد في العام 2007 بأن اسم زعيم تنظيم جند السماء: ضياء كاظم عبد الزهرة، من مدينة الحلة ( بابل) وهو بعثي سابق ورئيس المجموعة، وذكر بأن هذا التنظيم مرتبط بالقاعدة. على حين وقف محافظ النجف ( أسعد أبو كلل) في اليوم نفسه أمام أجهزة الإعلام ليصرح بأنّ رئيس المجموعة هو: سامر أبو كمر (قمر)، من نواحي مدينة الديوانية ( القادسية)، وهو شيعي عراقي اعتقل في السنوات 1992،1996،2000، ويضمّ تنظيمه مقاتلين أفغان ومصريين وسودانيين. وقبل ذلك كان قد ذكر بأن حجم العملية أكبر من أن تستطيع ردّه قوات الأمن في المحافظة، وشكّ في أن تكون هذه الجماعة شيعية إنما استطاعت بحسب تعبيره أن تتسلل بطريقة مخادعة لتنفيذ هذه العملية. وذكرت التفاصيل الصحفية الواردة من النجف بأن قائد المجموعة اسمه: علي بن عليّ بن أبي طالب، وهو شاب لبناني الجنسية. وتدعو الجماعة إلى نشر العدل، وتصفية المراجع الدينية. وقائد المجموعة له كتاب يحمل أفكاره تمّ تداوله في نفس الأسبوع الذي وقعت فيه الحادثة.


وأُسْدِلَ الستار بتصريح لعلي الدباغ الناطق باسم الحكومة، بأن زعيم الجماعة قد قُتل وعثر على جثته قبل عشر دقائق من الآن [ أي في الساعة الثانية إلا خمس دقائق بتوقيت بغداد]. وأكد هذا الخبر نائب المحافظ، الذي ذكر بأنه يتكلم الآن من أرض المعركة ويقف بقرب جثة زعيم التنظيم، واختتم كلامه بأن هؤلاء قد تجمعوا قبل يومين على أساس أن المهدي سيظهر في يوم العاشر من محرم.


ومع الارتباك الواضح في التصريحات على ألسن المحافظ ونائبه وعلي الدباغ وجواد البولاني وشيروان وموفق الربيعي، ووعود بكشف الحقيقة كاملة للجمهور، أسدل الستار على مذبحة حدثت في النجف من دون إيفاء بالوعود.


لكن الحقيقة المرة، أن كل الذين صرّحوا هم من الذين يعتقدون بأن نظرية الإمام المهدي ركن من أركان التشيّع، فلماذا إذن أبادوا جميع جنود هذه الجماعة قبل أن يتيقنوا من أن الإمام المهدي قد ظهر فعلاً؟. هل قتلوا المهدي حقاً، ذلك الإمام البريء الذي لم يُقتل لحد الآن وارتكبت باسمه أفظع المذابح؟ هل قتلوا معجزة الله التي يؤمنون بها؟. أم أن القضية عندما تصبح حقيقية وتقترب من كراسي التسلط lt;lt; المقدسgt;gt; ليس هنالك مهدي ولا هم يحزنون؟!. يؤمنون بالإمام المهدي لأنه فكرة تحقق رغباتهم في التسلط، لكن حينما تحين الحقيقة ويظهر المهدي كما يؤمنون، وأنه سيحكّم السيف في رقابهم يسارعون إلى القول: بأن المهدي مجرد خرافة.


أناس يعتاشون على الفكرة ويتسلطون، وأناس تكون رقابهم سلالم طيعة للعرش الذي يعلو الآن كما يعلو هبل، ويُكتَب التاريخ زائفاً، وتستمر السلطة تقمع ولا تُقمَع، كأنها تحمل تلك الحجابات التي يعتقد بها الليبيون كما ذكرت آنفاً.

ناظم عودة

[email protected]