الموسيقي الحقيقي بعيد كل البعد عن ان يكون مجرد مخلوق أناني يقصر مشاعره على تأمل ذاته ومصالحه باسم الموسيقى والفن. أن العمل بعمق سوف يقود الفنان الحقيقي الى ان يضع بين يدينا نتاجه بعيداً عن الزيف والادعاءات، فالزيف في الموسيقى كمن يهتم بالمظهر الشكلي دون صدق التعبير، واعني بذلك تلك الأعمال الموسيقية التي تأتي بدون روح ولكن بتكنيك عضلي وصخب.


حين يذكر المنظرون في علم الجمال أن الفن هو القدرة الفعالة على إحالة كل شئ الى التعبير، فأنهم يعنون ان اي موضوع تمتد اليه يد الفنان الحقيقي لا بد أن يتحول الى حالة عامرة بالمشاعر والعواطف والانفعالات الحقيقية عبر الإنتاج الصادق الهادئ.
و هكذا فان محاولة موسيقي ما، تلطيف و تجميل صورته بعد صمت طويل على جرائم الدكتاتور، يُعد من مظاهر الزيف والكذب. لأننا نرى ان قوة التعبير (الروحية) ترتبط ارتباطا و ثيقاً بالصدق الفني و معنى هذا ان الاعمال الموسيقية الأصيلة ليست بحاجة الى التهويل في صناعة المؤثرات الانفعالية، لذا تجد واحدا من الموسيقيين الذين يدّعون الإحساس والتعبير يصف حادثاً إنسانيا بمدينة بغداد ولا يثيره حادثاً آخر لا يقل بشاعة في مدينة أخرى في شمال العراق (مثل حلبجة). و تتفتح قريحته من اجل اللاجئين العراقيين اليوم ولم تتفتح من قبل!! رغم ان أولئك اللاجئين شردتهم حروب الدكتاتور الحمقاء وقد تجاوزوا الأربعة ملايين منذ اكثر من 20 سنة. ورغم ان الشعب العراقي بحاجة الى الامن والاستقرار لكن مثل هؤلاء يعملون على تقويضهما من خلال الصمت على الأعمال المسلحة والعنف أو تأييد المقاومة بالإرهاب والتي بالنتيجة هي التي دفعت مع اسباب أخرى العراقيين الى الهجرة واللجوء. ومما لا شك فيه ان كل الحوادث ( حلبجة - اللاجئين -الفلوجة -الاهوار- المقابر الجماعية) تشكل نفس التأثير العاطفي و الانساني لدى الإنسان السوي لبشاعتها، لكن المشكلة بالذي يوظف الموسيقى و يجعلها موسيقى مفخخة لأغراضه التي يضمن بها مصالحه الآنية أو اللاحقة.


هنا لا يصدق التعبير لدى هؤلاء مهما كثر الضخ الدعائي المدفوع الثمن ارضياً وفضائياً، وبما ان التعبير هو عصارة روح الانسان فلابد ان ينتج انفعالا متساويا لكل الحوادث البشعة و لا يتستر على تلك التي تفضح الدكتاتورية بالأمس او تفضح المقاومة بالإرهاب او الإرهاب المقاوم اليوم. لذا كيف للصدق ان يتجزأ وللعمل الفني ان يعبر عن ظاهرة مأساوية مثل مأساة (ملجأ العامرية) ويموه بالصمت عن مآسٍ مماثلة قبلها وبعدها؟ ولكن ذلك ممكن أذا استخُدمت الموسيقى كسلعة للبيع مقابل الامتيازات.


وهنا نستطيع ان نفهم مقاصد فنان يطبل لمشروع لطالما تناساه لسنين طويلة، لانه وأمثاله من أيتام النظام السابق، يقتربون ويبتعدون عن الحقيقة على ضوء اقترابها أو ابتعادها عن مصالحهم. وسيكون هذا السبب مؤكداً عندما نرجع الى تاريخه ولا نجد اي فعل سابق له يشير الى وقوفه بالضد من جرائم النظام السابق، لا سيما مأساة تهجير عشرات الآلاف من المواطنين العراقيين لمجرد كونهم من الأكراد الفيلية، لماذا لم يتحرك أو يتحدث الفنان عن هذه الجريمة العنصرية البشعة التي ارتُكبت بحق هذه الفئة المخلصة من العراقيين المعروفة بوطنيتها وحبها للعراق وقد عوقبت بسبب عدم رضوخها للدكتاتور والصمت عن جرائمه؟


ولنا أن نطرح الأسئلة التالية:
1 - لماذا يأتي مشروع دعم اللاجئين العراقيين الاعلامي الدعائي في هذا الوقت بعد ان سمحت الظروف نسبياَ بعودتهم الى ديارهم، هل لكي يثنيهم عن ذلك.. ام ان المردود السياسي اليوم اكبر؟
2 - المهجرون و اللاجئون موجودون منذ اكثر من 20 سنة وقد وصل عددهم الى اكثر من 4 ملايين حسب إحصائية الأمم المتحدة فأين كان أصحاب المشروع من ذلك؟
3 - أين الأموال الكبيرة التي جمعها فنانون جراء مثل هذا المشاريع باسم الشعب العراقي بالأمس القريب و اليوم هل ذهبت الى جيوبهم ام لتغذية الارهاب.
4 - وهل يوجد سبب رئيسي يدعو لهجرة اللاجئين غير الطائفية والارهاب بكل انواعه المحلي و الاحتلالي و المليشياتي ( العلني و المخفي)، و القتل و الاختطاف والمقاومة بالإرهاب الذي تؤيدونه؟
5 - أين كانت غيرة الإعلام العربي وجامعة الدول العربية التي طالما تغافلت عن مآسي العراقيين وملايين المهجرين الذين عاشوا الأمرين في المنافي قبل سقوط النظام، وهل كانت شهامة البعض نائمة وقتذاك؟

أحمد مختار


*موسيقار عراقي مقيم في لندن