رسالة مفتوحة من مواطنٍ سوري إلى سيدة الأوطان جميعاً..فيروز

مـقـدمة:
حملتُ بيروت في صوتي وفي نغمي وحمّلتني دمشق السيف في القلمِ
فنحن لبـنان، وكـرُ النسر دارتـنا والشـام جارتنا يا جيـرة الهممِ
مـن هـاهنا نسمات المجد لافحةٌ ومن هنـالك رايـاتٌ على القممِ


ما تيّسر من سورة الطفولة
جدّي يلفّ التـتن ويقول لرؤوسنا: إن سمعتم الذئب يطلق أصواتاً متقطعةً وموزونة، فلا تفزعوا ولا تحترزوا، فإنه يغنّي!؛ وإن سمعتموه يفلت صوته على الجرد كيفما اتفق ويلمّه مثلما يسحب نفَسَه المسهوم، فلملموا الأغنام، وقولوا يا لطيف!.
أخبرته، جدي: مرّ الذئب من تحت شباكنا الثلج المنصرم، فجراً، وأطرق يصغي لأغنية مغرور قلبي وهي تنداح من مذياعك!...أكملها وراح...والله العظيم!.
ـ وأين كنت أنت يا ولد؟
ـ كنت آكل زبيب من السطح!.
ابتسم وتـفل تنباكه بوجهي..وقال لي: رأيته!!!

رســالــة رقم 1
كنتِ تخرجين من كل البيوت وكل الأبواب المفتوحة عن طيّبيها، ما إن يخفت صوتك من بيت أم جمعة حتى يعلو على عتبة دار أبي عبدو..كنا نلاحق صوتك حتى باب المدرسة الطينية ورؤيا شاربي المدير.
ولأنك كنت تخرجين من كل البيوت..وتعرفين الكروم والعريشة والصفصافة واليوك والديب والثلج؛ حتى حنّا السكران خال موسى صديقي...كنت أظنك من ضيعتنا!!..ولم أزل!.

أخبرني أنس: أن حبيب قال: أن حاكم قال: أن أباه، أبو مخيبر، أرجع المذياع للبائع الغشاش في الشام لأن مذياعه (ما بيجيب) فيروز.

ما تيّسر من سورة الطفولة
أبي يقول لأمي دون أن ينظر لها: قطعت تذكرتين لحضور فيروز في معرض دمشق الدولي غداً.
أمي لم تقل شيئاً..فارت ركوة القهوة بيدها المرهقة..فقط نظرت إليه وطار من وجهها قبّرات كثيرة.
وأنا!؟..قلت، نظر إلي أبي بما يشبه الـ(إخرس)..تفشّت حسرةٌ كبيرةٌ على كبدي دفعتني بعد تسع سنوات من ذلك إلى كسر رجلي وأنا أتسلق أحجار المدرج الروماني في محاولة يائسة لحضور فيروز ذات بصرى!.

رســالــة رقم 2
مدجّجٌ هذا الوطن ـ سيدتي ـ بالثورات والحروب المؤجلة والبدلات الخاكية، لكن العصافير والسنونو..لم تقطع سماءه يوماً، ولا صوتك أيضاً!..كان يأتي هكذا.. من بعيد.. ليشق تشويش إذاعة دمشق كسيفٍ من خشوع كل صباح!، يمسحنا ككف نبيّ، يعيد تشكيل يومنا وما لحق بليله من كوابيس وبؤس وجوع وقهر وتعب وخوف وقلق من غدٍ محترفٍ في إذلالنا،..كان يأتي هكذا.. يمنحنا شربةً من المحبة والسماح والأمل، ورعشةً قدسيةً لنلتحق بطابور الصباح ونؤدي تحية العلم وهو يغمز لنا خفّاقاً بنجمتيه..ويزرعهما بالقلب...سيدتي.

وطنٌ درويشٌ
ـــ من لمعة البارود فوق ترابه
وتخايل القتلى تحت ثيابه ـــ
كلما زَرَعنا بيلسانا.ً.. نبتنا بنادق!.
أيها التاج...تنحّ، ثمة من يرسم ــ بالطباشير ــ وجه أمّــه
أيها الوطن المنادى النكرة المقصود
قف بطابور الصباح معي..وحيّ الديون!
يا الله..قبل رؤيا السفوح..
شهق الباشق وطااااار
والوطن المتعب ـــــ سيدتي ـــــ..لفّ صرته المقلّمة بالأسود والأحمر
حشاها فقراء وزرازير وأدعيةً كثيرة...سار وأغفل نجمتين
..في القلب أغفل نجمتين

ما تيّسر من سورة الطفولة
أبو صطيف وأبو عمر يلعبون quot;المنقلةquot;..
أبو عمر: هل سمعت الراديو اليوم؟
أبو صطيف: هل من جديد؟
أبو عمر: يقولون أن الوضع..راهن!!!
أبو صطيف: أيه والله الوضع راهن...الله يفرجها!quot;.

رســالــة رقم 3
دمشقك ـ سيدتي ـ التي غنيّتها أكثر من مطربيها مجتمعين، مدينةٌ عصيةٌ على الخانات والانفراد والتطرف والتمذهب؛ تشترك معك بقدسيةٍ ما، أنت أكثر من يستشعرها، دمشق أمية والخيول، دمشق الياسمين والورد الجوري والشبابيك العالقة ببعضها والمناديل المطرزة التي تسقط سهواً من يد صبيةٍ عند قدمي عاشقها، دمشق الحمام والكنائس العتاق والمساجد المكتظة بالحمام والأوراد والبكاء..دمشقك.
ودمشق..ما عاد الدمشقيون ينظرون لها من زاويةٍ لا يخصّك جمالها بعدما قلت فيها ما قلت..
إن النصف ساعة ما بين اللحظة التي تستحم بها بيوتات دمشق بكهرمان شمس العصر، وبين اللحظة التي تقرر ذات الشمس فيها النوم في عبّ بحر بيروت..لن تطول وتصبح بعيدة مهما أرادت التآريخ التي يؤرخونها الساسة مثل 14 آذار أو 14 شباط..ولا حتى 7 نيسان!.
ستبقى المسافة بين الحاضرتين موّال عتابا أو موّالين، وستبقين سيدتي..الخط الإنساني الدائم بينهما والتي لا تستطيع أن توقفه حدود أو يؤخره تفتيش!. فيروز ـ دمشق ـ فيروز..
..أنت التاريخ..تاريخنا الذي يمضي معنا والذي نستشرفه..أنت المرسم الرسمي للشمس التي تأذنين لها..والعصافير!.

مـــتـن:
يا شـامُ عاد الصّـيفُ متّئِدَاً وَعَادَ بِيَ الجَنَاحُ
صَـرَخَ الحَنينُ إليكِ بِي: أقلِعْ، وَنَادَتْني الرّياحُ
أصـواتُ أصحابي وعَينَاها وَوَعـدُ غَـدٍ يُتَاحُ
كلُّ الذينَ أحبِّهُـمْ نَهَبُـوا رُقَادِيَ واسـتَرَاحوا
فأنا هُنَا جُرحُ الهَوَى، وَهُنَاكَ في وَطَني جراحُ
وعليكِ عَينِي يا دِمَشـقُ، فمِنكِ ينهَمِرُ الصّبَاحُ
في الشَّامِ أنتَ هَوَىً وفي بَيْرُوتَ أغنيةٌ ورَاحُ
أهـلي وأهلُكَ وَالحَضَارَةُ وَحَّـدَتْنا وَالسَّـمَاحُ
وَصُمُودُنَا وَقَوَافِلُ الأبطَالِ، مَنْ ضَحّوا وَرَاحوا
يا شَـامُ، يا بَوّابَةَ التّارِيخِ، تَحرُسُـكِ الرِّمَاحُ


ما تيسّر من سورة الطفولة
الأستاذ جرجس: سمِّـعْْ يا ولد: سائليني يا شآم..هاه؟؟؟
ـ سائليني يا شآم..حين عطرّت السلام كيف غار الورد..واعتّل الخزام
وأنا لو رحتُ استرضي الشذى...... لانثنى لبنان عطراً....يا شــآم
ـ الأستاذ جرجس: (ولاه..بعدك عمتروح من الجرد على لبنان)؟
ـ..........
ـ لا تخف، قل لي.
ـ نعم، أستاذ.
ـ أريد أن أرسل معك (شنكليش ومكدوس) لبيت أختي في بكفيّا وسوف تعطيك (كرافات) وبرواز فيه رسم للسيدة فيروز، لا تضعه مع حمل التهريب..سأعلقك بالسقف لو أصابه خدش!.

رســالــة رقم 4
سيدتي
دمشق (مو عارفة شو بدها تساوي لمقدمكم)، من حظي بتذكرة لحضوركم، مرتعبٌ من أي طارئ أو (مدعوم) يحول بينه وبين صوتك؛ نزار باع التلفاز الذي يصدرّ الساسة المتشدقين والضغائن المستديمة ليشتري تذكرتك من أحد آولئك الذين يستطيعون الدخول بلا تذاكر..
ملامح القادمين من البعيد لأجلك بدأت تبدو حول المسرح، بتجمعهم العفوي والمطيل وكأنهم لو استطاعوا أن يناموا هناك من الآن لفعلوا.
مها قالت لي: نفذت التذاكر ولن أتمكن من دخول المكان، لكن لا يهمنّي سأقف على الباب ألملم بريق العيون من الخارجين بعد انتهاء الحفل...
سيدتي..
معاً رحنا على السفر برلك ومعاً رجعنا من السفر برلك....معاً عُلّقت مشانق أولادنا ومعاً علقنا براويزهم على ذهب الجدار.
سيدتي..
نحن أقرب من أن يفرق بين عناقنا سيف الكراهية والكارهين..
أنا إن طيّرت طائرة ورقيةً بضيعتي، علقت في صفصافة لبنانية..وإن أصغيت في السحر جيداً، سأسمع أقدام البعلبكيين وهم يدبكون...
سيدتي وابنة ضيعتي
دمشق من الشوق تحتار أمام خزانة فساتينها....أي ثوب ستلبس لك يا عقدها الماسي وتاج رأسها؟
فقط تعالي...
الوضع (على قولة أبوعمر) ما زال راهناً وقد ناهزت الأربعين..عجلي بالفرج...


خـاتـمة:
طالت نوىً وبكى من شـوقه الـوترُ خـذني بعينيك واهرب أيها القمرُ
لـم يبق في الليل إلا الصوتُ مرتعشاً إلا الـحمائم..إلا الضائع الزهـر
لي فـيـك يا بردى عهدٌ أعيـش به عمـري ويسرقني من حبّه العـمر
هـنا التـرابات من طيبٍ ومن طربٍ وأين في غير شآمٍ يطرب الحجر؟!
قد غبت عنهم ومالي في الغياب يـدٌ أنا الجـناح الذي يلهو به السفـر

هاني نديم
[email protected]