صدع جهابذة الإصلاح الاقتصادي في عالمنا العربي رؤوسنا بضرورة رفع الأسعار للمعدلات العالمية دون أن أي كلام عن زيادة الأجور!
وعلى نفس المنوال صدع الإعلام الحكومي رؤوسنا بحكايات الست عدالة اجتماعية وصديقتها الست رعاية محدودي الدخل التي هي أشبه بحكايات الأطفال!


وفي افتتاحية هزلية لصحيفة عربية أكد رئيس التحرير أن الأوضاع في دولته أفضل من بريطانيا مؤكدا أن المواطن العربي الذي يتقاضى ما يعادل 20 جنية استرليني في الشهر أسعد حالا من البريطاني الذي يتقاضى 1500 جنية استرليني!


واتهم صاحبنا الحكومة البريطانية بالفشل والتخبط والغباء بسبب تدهور قيمة الجنية الإسترليني وانتشار الغلاء والبطالة والكساد مشيدا بحكومة بلاده التي اعتبرها نموذجا فريدا في الإصلاح الاقتصادي!


ومن الطبيعي أن يكتب الرجل هذا الكلام الفارغ طالما أنه يتربع على قمة صحيفة خاسرة انهارت أرقام توزيعها بسبب ما يكتبه هو وأمثاله حتى أنها لم تصرف مليما واحدا هذا العام من الحوافز المستحقة للعاملين فيها!


والحقيقة التي يتجاهلها جهابذة الإصلاح الاقتصادي في عالمنا العربي أن المواطن البسيط هو الذي يدفع ثمن سياسات الإصلاح الاقتصادي الفاشلة وأن هذا المواطن لم يعد قادرا على تحمل أي أعباء جديدة!


والمأساة التي يتجاهلها هؤلاء أن الحد الأدنى للأجور عندنا قد تجاوزه القطار وهو نفس القطار الذي تجاوزنا في نواحي كثيرة لأننا مشغولون بالغناء!
في فرنسا على سبيل المثال وصل الحد الأدنى للأجور ألف يورو شهريا وهو رقم يثير الفزع مقارنة بالحد الأدنى للأجور في بعض الدول العربية والذي لا يتجاوز 20 يورو!


وكما تؤكد الإحصائيات الرسمية فإن أصغر ساعي أو بواب أو زبال فرنسي يتقاضى 50 ضعف ما يتقاضاه نظيره في أي دولة عربية فقيرة!
ومع ذلك فغالبية الفرنسيين غير راضين عن أداء حكومتهم لأن الألف يورو لا يمكن أن تكفل الحياة الكريمة بسبب ارتفاع الأسعار خاصة عند مقارنة أوضاعهم بدول أخرى في الاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا التي تبدا الأجور فيها من 1850 يورو!


في عالمنا العربي لا يرى جهابذة الإصلاح الاقتصادي مشكلة في أن يتقاضى الموظف الذي يعول أسرة من خمسة أفراد ما يعادل 40 دولار شهريا طالما أنهم ndash;الجهابذة طبعا- يركبون المرسيدس ويتقاضون ملايين الدولارات!


ومن المنطقي ألا يرى هؤلاء إلا رفع الأسعار وسيلة لمعالجة الاختلال بين المواردوالنفقات مع أن المشكلة الحقيقية هي انعدام العدالة في توزيع الموارد والثروات!
ليس مستحيلا أن تضاعف حكوماتنا الحد الأدنى للأجور والمعاشات لكنها لا تريد ذلك تطبيقا لقاعدة quot;جوع شعبك يتبعكquot;!
وليس صعبا أن يحصل الموظف البسيط على ما يعادل 500 دولار في الشهر طالما أن هناك مسئول يتقاضى ربع مليون دولار دون أن يصرخ أحد أن الموارد محدودة أو أن التضخم بلغ أعلى مستوياته!


وحتى يتحقق ذلك لابد من إصلاح اقتصادي حقيقي يرعى مصالح الفقراء والأغنياء على السواء ولابد من وجود حكومات توزع الموارد والأعباء بشكل عادل دون محاباة للأقارب والمحظوظين ورجال الأعمال!


في مهمة صحفية بالخارج سألني أحدهم عن متوسط أجر الصحفيين في دولة عربية ولم أعرف كيف أرد لأن الأرقام مخجلة فاضطررت للقول أنها في حدود 1500 دولار فسألني الرجل وهل أنتم راضون عن صرف أجوركم أسبوعيا؟!
حدث هذا بينما كانت جموع الصحفيين في تلك الدولة تهلل لمنحة حكومية تعادل 40 دولار شهريا وهو تهليل سرعان ما تحول إلى قلق بعد أن تأخر صرف المنحة لحين توفير بند في الموازنة!


الذين يطالبون برفع الأسعار دون الأجور عليهم أن يسافروا إلى فرنسا أو ألمانيا ليتعلموا كيف يمكن رفع الحد الأدنى للأجور!
وبالتأكيد سوف يتعلم هؤلاء أن ترشيد الإنفاق الحكومي هو أول خطوة على طريق الإصلاح الاقتصادي وليس رفع الأسعار على طريقة جهابذة الإصلاح الاقتصادي!


وعلى الصحفيين الذين ينتظرون منحة ال 40 دولار أن يطالبوا برفع الأجور للمعدلات العالمية بدلا من تسول المنح التي لا تجيء إلا متأخرة من الحكومات!


أما جموع الغلابة ومحدودي الدخل الذين يمثلون 90% من غالبية السكان في عالمنا العربي فليس أمامهم سوى الأمل في أن يتم تشكيل حكومات ترعى مصالح الشعوب وليس رجال الأعمال!


وحتى يتحقق ذلك بعد عمر طويل أرجو أن تسلموا لي على الست عدالة اجتماعية وصديقتها الست رعاية محدودي الدخل!

عبد العزيز محمود
* كاتب وصحفي من مصر
[email protected]