منذ ما ينيف على الخمسين سنة، حملناك فوق لسان القصيدة طفلة مخدوشة الخدين، وضممنا عليك جناحَي القلب، ومع كل دمعة تنساب على خديك ينساب نهر الألم والصراخ في لغتنا وأرواحنا وأموالنا شوقاً إليك وكمداً عليك، ورغبة في الشهادة بين يديك.


ونحن لا نكذب، تعالي إلى دفاترنا، وانظري في عيوننا، وتلمّسي نبض قلوبنا، في قلب كل عراقي لك ديوان شعر، وغصة بين الجوانح، ودمعة لا تجفّ. الجواهريّ الكبير ( الشيعيّ)، نزف لك ديواناً حاراً من الشعر، والسياب العظيم ( السنيّ ) أوقدك في شعره قنديلاً لا ينطفي ومضى، وشعراء الكرد جعلوا منك جبلاً مقيماً بين جبالهم وأوقدوا لك الشموع، وعبد الرزاق عبد الواحد الصابئي عمّدك في شعره كأنك طقس مندائيّ يقام في دجلة أو الفرات، وكنت في الشعر الشعبي العراقي عقالاً جنوبياً يأبى السقوط من على الرأس، وفي الشعر المسيحي العراقي صليباً يقاوم الانحناء.


أمهاتنا اللواتي لا يجيدنّ الكتابة والقراءة، حفرن وجهك على ضلوعهن، ورتّلنَ اسمك مع بسملاتهن. وآباؤنا توشحوا بك مع خناجرهم وبنادقهم وكنت حاضرة في المضائف والجوامع والصوامع والحسينيات، وتحت سقوف بيوتنا، تنامين مع أحلامنا، وتنهضين مع أول صباحاتنا، وتهرولين مع خطوات أطفالنا في الرياض والمدارس. جامعاتنا وضعتك مع الحجر الأساس، ووضعتك خريطة مطعونة على جدرانها، وخضبّتِ كلَّ مظاهرة ببغداد بدم الشباب العراقي الذي يصرخ باسمك كأنك باب الجنة.


قلِّبي مرة واحدة أوراق تاريخنا الحديث، واحصي بيديك عدد الشهداء الذين جادوا بأنفسهم من أجل عينيك الحزينتين، والجود بالنفس أقصى غاية الجود. واستمعي إلى هذا السرّ أسرّك به وحدك دون سواك: يوم اغتيل الطفل الشهيد محمد الدرة، في ذلك المساء اتخذت قراراً نابعاً من أعماقي أن روحي وروح ابني الوحيد هما نذر وقربان لوجهك الحبيب. وكنا حيئذ نذبح بسكين الطاغية، لكن حبك أرهف من زهرة غاردينيا، كنّا ننزف ولم ننساك، لكنني الآن أريد أن أترك ورقة عتاب قرب رأسك وأمضي.


لماذا يبيع أبناؤك كلَّ العراقيين النازفين برأس الطاغية؟ وهل كنا نحبّ ياسر عرفات وبقية قائمة القيادات الفلسطينية أم أننا نحبك أنت أرضاً وأناساً؟!. لماذا كنا نقبّل كلّ كلمة لغسان كنفاني، ومحمود درويش وفدوى طوقان وسميح القاسم وها هم أبناؤك يبصقون على نزفنا في كلماتنا كأنهم يبصقون على قمامة؟!
هل في سجلاتك أن عراقياً اغتال فلسطينياً؟ تعالي إلى مدن العراق وانظري ماذا فعل ذلك الشاب الذي فجر نفسه في سوق شعبيّ في مدينة بابل فمزق أجساد اخوته فيما كان أبناؤك يحتفلون بشهادته في سرادق عزاء؟، وانظري إلى سرادقات العزاء على أرواح الذين أبادوا نصف الشعب العراقي: عدي، وقصي، وصدام. هل ثمة أمة في الأرض تعبد الطغاة إلا نحن؟!.


فلسطين أيتها الحبيبة، القلب حزين.. حزين..حزين. ماذا أفعل بصور أصدقائي من المثقفين الفلسطينيين الذين أحببتهم لأنهم ولدوا من رحمك؟! ماذا أفعل وخنجر الزرقاوي مازال ينزف بين القلب واللغة؟!.
فلسطين علّمي أبناءك حكمتنا العروبية: إن الشعوب أسمى من الطواغيت. وإنا نحب فلسطين وشعر المقاومة، ونحب الفلسطينيين الذين لم ترفع أيديهم صور الدكتاتور، أو لم تنبسط في الترحم عليه في سرادق عزاء مقام في أرضك الطاهرة.
فلسطين، أنت أسمى من دنس الدكتاتور، ومازلت في عيوننا غصن زيتون أخضر، نحنو عليك كأننا نحنو على أكبادنا، فمدي أغصانك ثانية بين زيتونك ونخيلنا، ولنشرب نخب العشق الأزلي وننسى الطواغيت.

ناظم عودة

[email protected]