يعكس النهج السياسي الهجومي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيادة مشاعر مهانة مستترة ونزعة منفلتة لاستعادة قوة مفقودة ورغبة جامحة لاسترداد هذه القوة التي كانت في حقبة ماضية تحيط روسيا السوفياتيةبهالة امبروطورية تقوضت كليا مع انهيار الشيوعية ليس اوروبيا فقط ولكن عالميا.
فيدور لوكيانوف رئيس تحرير (روسيا في الشؤون الدولية)وهي الدورية الابرز العاكسة للسياسة الخارجية يؤكد( ان المذهب الجديد للكرملين يذهب الى ابعد من مجرد القسوة) و يمثل) محاولة من بوتين لتسليط الضوء على ايديولوجيا جديدة في العلاقات الدولية.
وكان العرض الاكثر جوهريةلطريقة التفكير الروسية الجديدة صدر عن وزير الخارجية سيرغي لافروف في مقال كان يفترض ان ينشر في عدد يوليو الماضي من مجلة (فورين افيرز)الامريكية ولكنه سحبه فجأة وسط اتهامات بفرض رقابة امريكية رفضها رئيس تحريرها.
في مقالته هذه كتب لافروف ان الاحادية الامريكية فشلت و ان روسيا تتناقس معها في سوق افكار دولية اذ مع توسع العولمة الى خارج الغرب اصبحت المنافسة عالمية بكل معنى الكلمة.
وكان المحلل ديمتري ترينين نائب رئيس مركز (كارينغي)في موسكووصف بوتين بأنه(قيصر بكل معنى الكلمة،ليس هناك ما يخشاه وهو يتمتع بسلطة كاملة في البلاد).
يشعر بوتين بالغضب من تجاهل واشنطن لروسيا التي وفق مسؤول روسي( روسيا ينبغي ان تعامل معاملة طبيعية بعد ان اختارت الديمقراطية و اقتصاد السوق ولكنها وبالرغم من مساهمتها بتغيير العالم و جعله اكثر آمنا القى الغرب بها جانبا).
ويقول المحلل الامريكي تشارلز كروتامر ان ما يريده بوتين هو بعض الاعتراف الدولي بدور ما لروسيا من دون الرزمة الايديولوجية.
اللهجة الجديدة لبوتين اذن هي رد فعل وخيبة امل من التعالي الامريكي واستقطاب حلفا ئها السابقين من الدول الاشتركية السابقة في الحلف الاطلسي وفي اتفاقيات عسكرية ثنائية وتوسيع الامتداد العسكري الغربي ليلاصق حدودها وكذللك تثوير شعوب المنطقة في حركات لتغيير انظمتها المتحالفة مع الكرملين على غرار ما حدث في اوربا الشيوعية.
من هنا يأتي سعي بوتين عبر لهجته الجديدة لاستجذاب المؤيديين لانتقاداته للولايات المتحدة و محاولاتها الرامية للهيمنة على العالم ليس بين الاوساط الشعبية الاوربية الناقمة هي الاخري على هذه الساسة وانما ايضا العالم العربي الذي ينتاب شعوبه اصلا هوس معاداة امريكا لانحيازها لاسرائيل واسقاطها الديكتاتورية في العراق و ما خلفته من فوضى عارمة وحرب طائفية و لسيادة اعتقاد خاطئ يروج له بقوة عبر الفضائيات بمحاربتها للاسلام.
ولعل الصورة الحقيقية للسياسة البوتينية وفق كروتامر حتى الان هي علاقاته مع الصين وتعاونه النووي مع ايران و تزويده النظام السوري بالتقنيات العسكرية المتطورة و دعمه نظام البشير في السودان الذي يشن حرب ابادة ضد المدنيين في دارفور.
وفي سياق سياساته الجديدة زار بوتين دولا عربية هي السعودية و قطر و الاردن واخيرا دولة الامارات المتحدة وسط ضجة اعلامية اثارتها وسائل الاعلام الروسية عكست ارتفاعا في حدة التاجيج ضد الغرب حيث اطلقت جريدة(فريميا نوفوستي) على زعيم الكرملين لقب(بوتين العرب)على غرار ( لورنس العرب) الجاسوس الانكليزي في اوائل القرن الماضي موضحة ان الاولوية الروسية مع العالم العربي تتجسد اصلا في التعاون الاقتصادي لا في الايديولوجيا او السياسة كما كان الوضع ابان الحقبة السوفياتية الا ان هذا لم يمنع موسكو من استقبال قادة حماس نكاية بالامريكيين اومواصلة الدعم لايران و السودان وغيرها من الدول التي تنعتها واشنطن بالمارقة او في مواصلتها موقفها السلبي من العراق الامريكي اذا صح التعبير.
لقد رأى العديد من المراقبين في هذه الزيارات مؤشرا على عودة الدب الروسي الى الشرق الاوسط عبر بوابة الخليج من خلال اصدقاء واشنطن التقليديين وبواسطة الاقتصاد والتسليح.
وبالتأكيد ان عودة روسيا الى الشرق الاوسط بعد غياب نسبي اعقب انهيار الاتحاد السوفياتي هو نقطة مفصلية في الوضع الذي تشهده المنطقة العربية منذ الاطاحة بالديكتاتور العراقي والازمة اللبنانية المتفاقمة و الانقسام الدموي الفلسطيني وبروز الدور الايراني وامتدادته الخطرة في الجسم العربي وسعيها المستميت لامتلاك السلاح النووي.
وكان بوتين شدد خلال وجوده في الرياض على ان البلدين حليفان و ليسا متنافسين في سوق الطاقة العالمية ومن هذا المنطلق يتطلع الى انضمام السعودية الى منظومة (غلوناس) العالمية للملاحة الفضائية التي تعمل موسكو لنشرها في المدار.
وكانت روسيا بدأت بتشغيل هذه المنظومة الشبيهة بنظام جي بي اس الامريكي في عام1993.
وستكون هذه المنظومة للاغراض العسكرية و المدنية و ستضم 24 قمرا وستعمل في روسيا اواخر العام الجاري وعام2009 في بقية العالم.
ويستند بوتين في زحفه نحو المنطقة العربية على الشركات النفطية التى ترتبط مباشرة بسلطته وتدعمه بالمطلق في سياساته الداخلية و الخارجية و احداها (لوك اويل) التي تاسست عام 1996 وتحولت الى عملاق نفطي تمتد استثماراته الى مناطق عديدة في العالم بما فيها الولايات االمتحدة.

من الواضح ان الكرملين تستخدم لوك اويل و الشركات النفطية و الغازية الاخرى كأداة وسلاح جديد في معاركه و صراعه مع الولايات المتحدة لاستراد النفوذ المفقود وتعزيز الوجود الروسي في الشرق الاوسط ولعل قيام لوك اويل بافتتاح مكاتب لها في دبي و عمان خطوة في هذا السياق اضافة الى دخولها سوق الاستثمار النفطي في دول عربية عديدة منها مصر و السعودية وشروعها في مفاوضات للاستثمار في الامارات و الجزائر و الاردن وقطر.وكان نائب الرئيس التنفيذي للشركة رافائييل ماغانوف كشف عن ستراتيجية جديدة للشركة للتوسع في الشرق الاوسط وشمال افريقيا للسنوات المقبلة.
وفي الوقت الذي تتعارض فيه اراء و تصورات المراقبين حول الاهداف الفعلية التي يسعى لتحقيقها بوتين من وراء سياسته الهجومية ضد الغرب والولايات المتحدة خصوصا اذ قال تونين ( ان اهدافه اقتصادية لا سياسية)ذكرت مؤسسة (هيرتدج) الامريكية المحافظة للابحاث( ان روسيا اختارت السياسة بدلا من الاقتصاد لانها تعمل الان لتحيط نفسها بمنطقة عازلة من خلال ارتباطها بانابيب نفطية و غازية مع بلغاريا و هنغاريا و تركيا و اليونان و جعل كل هذه البلدان معتمدة عليها لكي لا تقع تحت النفوذ الامريكي) مشددة في تقرير اصدرته مؤحرا على ( ان ليس هناك طريقا افضل لكسب الحروب من الاستخدام الاقصى لسلاح الجيوبولتيكا بدلا من اطلاق حتى رصاصة واحدة).
بالتأكيد ان العرب بحاجة الى روسيا ولكن اي روسيا؟ هل هم بحاجة الى روسيا التي كانت تستخدمهم في ايام و سنوات الحرب الباردة في العهد السوفياتي البغيض ورقة في صراعاتها مع الغرب و بالتحديد الولايات المتحدة؟ ام هم بحاجة الى روسيا التي تدعم انظمتهم الاستبدادية و تقف ضد طموحات القوميات و الاقليات العرقية و الدينية التي تريد ان تتمتع بحقوقها المدنية و الانسانية ورغبة شعوبها في الديمقراطية و التداول السلمي للسلطة؟ ام هم بحاجة الى روسياالتي تشجع القوى و الحركات المتطرفة مثل حماس وحزب الله اللبناني ومن على شاكلته من الاحزاب التي تريد القضاء على مستقبل اجيالنا من خلال التغييب الديني و الايديولوجي؟ ام هم بحاجة الى روسيا التي تدعم دولا مارقة مثل ايران الساعية الى النووي و سوريا التي تصدر الارهاب و القتل الى العراق و فلسطين و لبنان؟ لا.. بالتاكيد العرب بحاجة الى روسيا ديمقراطية تدافع عن مصالحها العربية بالشكل الذي تدافع فيه مثيلاتها من الدول الاوروبية التي لا تتوقف عن انتقاد الانظمة الاستبدادية و ممارسات الحكام الديكتاتوريين حتى حينما تستقبلهم ضيوفا رسميين ولعل ما فعله ساركوزي خلال زيارة الديكتاتور ( العريق ) القذافي افضل دليل.
لا احد يستطيع ان يتجاهل اهمية ان يكون لروسيا دورا عالميا وعربيا و لكن لكي تبقى روسيا قريبة من الشعوب العربية و غيرها، ينبغي عليها ان تنسى ماضيها الاستبدادي ودورها التعطيلي السابق للتقدم ليس في المنطقة العربية فقط،،أنما في العالم كله، لان العكس سيعيدها الى الوضع الذي عاشته في التسعينات عندما انهارت امبروطوريتها التي ظهر انها كانت من ورق.

د.محمد خلف