في زحمة الإحداث المتسارعة التي تعصف بالعراق، نكاد ننسى أن محاكمة جرت لقضية الأنفال، أدين فيها عدد من مجرمي الحرب وصدرت أحكام الإعدام بحقهم.
فالوقت يمضي ويكاد النسيان يلف تلك القضية من دون أن يتلمس العراقيون أية نية صادقة من حكومتهم للسعي الى تنفيذ حكم القضاء على المدانين بهذه الجريمة البشعة ضد الإنسانية، وهي التي كانت تتبجح نهارا جهارا بأن للقضاء إستقلالية وأن للقانون حرمة وسيادة، وأن للإنسان حقوقا دستورية مقدسة في العراق الجديد ؟!..

لسنا ندري أسباب التردد في تنفيذ حكم القضاء بهؤلاء على الرغم من وجود نص قانوني لا يجيز تأخيره عن المدة المحددة وهي ثلاثين يوما بعد المصادقة على الأحكام الصادرة،فهل أن المستشاريين القانونيين للسيد رئيس الوزراء عجزوا عن الهمس بأذن دولته لتذكيره بذلك النص، أم أن سيادته لا يأبه لذلك النص القانوني ويصرعلى دوسه تحت أقدامه، أم أن هناك تعمدا من رئيس الوزراء بإستخدام هذه القضية كورقة سياسية يلوحها بوجه بعض الأطراف السياسية التي تهدد حكمه ؟؟!..

فما يجري بهذا الشأن لا يحتمل إلا أحد هذين التفسيرين، لأنه سبق ولأن تمسك دولة رئيس الوزراء العراقي بهذا النص القانوني ( المقدس ) عند تنفيذ حكم الإعدام بالرئيس الأسبق صدام حسين في أول أيام عيد الأضحى،على الرغم من كل تلك الإحتجاجات والإعتراضات الصادرة عن أطراف دولية ومحلية، فهل أن تنفيذ ذلك الحكم كان تشفيا وإنتقاما شيعيا من صدام حسين كما روج لذلك، بحيث ما عادت هناك حاجة لإستعجال تنفيذ أحكام المجرمين الآخرين، أم هي إستهانة متعمدة من دولة الرئيس بدماء مئات الآلاف من ضحايا النظام الدكتاتوري السابق ؟.

كادت تلك القضية أن يلفها النسيان، لولا إطلالة أحد قادة حزب البعث وهو جبار الكبيسي الناطق الرسمي باسم جناح يونس الأحمد في سوريا قبل أيام على شاشة قناة الجزيرة القطرية في برنامج ( أكثر من رأي) الذي أكد خلالها، بأن عمليات الأنفال لم تكن جريمة، بل كانت مجرد خطأ سياسي إرتكبه النظام السابق، وما أكثر أخطاء السياسة في العالم؟!.
وتزامنا مع تبرئة ساحة حزب البعث من تلك الجريمة على شاشة قناة الجزيرة القطرية جرت مراسيم إعادة دفن رفات أكثر من 350 من ضحايا الأنفال نصفهم من الأطفال الذين ضمتهم مقابر جماعية في مدينتي الموصل في أقصى الشمال العراقي والسماوة في أقصى الجنوب العراقي، وهذا يعني إصطباغ الأرض العراقية من شماله الى جنوبه بدماء ضحايا الأنفال. فكيف إستهان ذلك القائد البعثي بدماء كل هؤلاء الضحايا الذين دفنوا مرتين وغابت عن مراسيمهما قناة الجزيرة التي ترفع شعار( الرأي والرأي الآخر)؟؟!!!.

لقد نشرنا أطنانا من الوثائق والمستمسكات الرسمية التي توثق لهذه الجريمة البشعة ضد الإنسانية،وعقدت مئات المؤتمرات وآلاف الندوات في شتى أرجاء العالم لكشف أبعاد هذه الجريمة التي جسدت نوايا البعث في القضاء على الوجود الكردي كشعب، وروى آلاف الشهود وقائع المأساة التي حلت بهذا الشعب أثناء تلك الحملات الوحشية، وجرت محاكمة علنية نقلت صورها مباشرة من داخل المحكمة الى أرجاء العالم لإدانة بعض قادة البعث بالجريمة،إذن هي جريمة متكاملة الأركان لا يستطيع القائد البعثي في الجزيرة إنكارها، كما لا تستطيع الحكومة العراقية الحالية أن تتنصل من مسؤولياتها تجاه تنفيذ حكم القضاء بالمجرمين. فإذا أجاز ذلك القائد البعثي لنفسه أن يستسهل على نظام سيده إرتكاب أخطاء فظيعة الى حد أن يودي بحياة 182 ألف إنسان من الرجال والشيوخ والأطفال والنساء دون جرم، فكيف تستسهل الحكومة الحالية إبقاء المحكومين في هذه القضية على قيد الحياة من دون تنفيذ الحكم؟!.

حتى لو سلمنا بتدخلات اللحظة الأخيرة من بعض الأشخاص والأطراف في قضية تنفيذ الحكم بالمجرمين، وهي تدخلات مدانة منذ البداية، لصالح أحد المتهمين وهو وزير الدفاع الأسبق الذي قيل أنه كان يعمل مع المعارضة العراقية، وهذا أمر مستحيل لمن يعرف طبيعة النظام السابق ومدى تقدم أجهزته الأمنية واستخبارية التي كانت تحصي على المواطن العادي أنفاسه، فكيف بوزير الدفاع الذي يعتبر الركن الأساسي لحماية ذلك النظام، أقول حتى لو سلمنا بحق بعض الأطراف في الدفاع عن وزير بإعتباره مسلكيا مأمورا، فكيف سولت تلك الأطراف لنفسها أن توقف تنفيذ الحكم في أحد أعتى عتاة المجرمين بحق الشعب العراقي وهو المجرم علي الكيمياوي؟. فهذا المجرم لم تتوقف جرائمه البشعة والهمجية ضد الشعب الكردي فقط، بل طاولت جميع فئات الشعب العراقي. أم أنه حتى مصير هذا المجرم العتيد قد أصبح ورقة تلعب بها أطراف سياسية في العراق بما فيها الحكومة الطائفية الحالية!!.

فنحن نعتقد أن الحكومة تساوم فعلا بهذه الورقة مع بعض الأطراف بما فيها الطرف الكردي الذي يتحمل هو بالدرجة الأولى مسؤولية تأخير تنفيذ الإحكام في قضية الأنفال، فالقيادة الكردية التي تجري وراء مشاكلها حول ميزانية إقليم كردستان والعقود النفطية المستخرجة من أراضي كردستان، لا تتحرك بنفس الجدية لإرغام الحكومة العراقية على حسم مسألة الأحكام الصادرة في قضية الأنفال وتنفيذها بالمجرمين، أو حتى بمطالبة الحكومة بفصل مؤقت لقضية سلطان هاشم عن قضية علي حسن المجيد الذي يؤلم وجوده يوما إضافيا على قيد الحياة أرواح مئات الآلاف من ضحاياه الأبرياء.

ولا أدري كيف تجيز القيادة الأمريكية لنفسها أيضا أن تترك هؤلاء المجرمين من دون عقاب القضاء،وهي تدعي أن بلادها قلعة الديمقراطية في العالم ونموذجا يحتذى به في إستقلالية القضاء، فإذا كان الأمريكان ما زالوا يعتبرون أنفسهم قوة إحتلال حقيقية، وأن العراق أصبح ولاية جديدة من الولايات المتحدة، فعليهم أن يطبقوا نفس المعايير القانونية والديمقراطية السائدة في هذا البلد، أما إذا كانوا يعتبرون العراق بلدا حرا مستعيدا لسيادته، فيتوجب عليهم عدم التدخل في شؤونه الداخلية وخصوصا في شأن القضاء العراقي، وأن يسرعوا بتسليم هؤلاء المجرمين الى أيدي العراقيين لينفذوا حكم القضاء فيهم، لأن هؤلاء المجرمين كانوا وديعة لدى القوات الأمريكية بهدف حمايتها في ظرف طاريء، وقد آن الأوان لتعود تلك الوديعة الى أيدي أصحابها..

شيرزاد شيخاني
[email protected]