تكشف محنة اليسار العراقي عن نفسها بخطوات تشير الى انقلابها على نفسها وايديولوجياتها التي عاشت عليها طوال عقود لتصل الى هذه النتيجة.
اعرف ان هذا التحليل يستفز قوى اليسار ويدفع ببعض اقلامها الجاهزة الى اعطاء هذا الموضوع درجة الاسوأ في التقييمات غير الموضوعية في اسفل المقال، لكن ذلك لايعفينا جميعا من الاعتراف بان الماركسية هي وراء تفسير ظاهرة صعود القوى الاسلامية وتحول المجتمع العراقي الى مجتمع ديني،ومن الغريب ان حملات المطالبة بدولة مدنية قد تناست الماركسية وطابعها الجدلي وحتمياتها الكثيرة التاريخية والمعاصرة.
في مظاهرة الاول من ايار عام 1959 كنت محمولا على كتف احد اقاربي الشيوعيين وانا في التاسعة من عمري اهتف في تلك المظاهرة التي قدرت بمليون شخص من العمال والفلاحين والكسبة والطلبة والمعلمين والموظفين والشقاة والرثين والمهمشين والتجار والجنود والشرطة والسواق والعاطلين، اي نفس الطبقات والفئات التي تحولت الى التيار الديني السائد. فالرجل الذي حملني على اكتافه لاهتف في شارع الرشيد اصبح من اتباع المرجعية وهو على استعداد للتضحية من اجلها كما كان مستعدا للتضحية في الثامن من شباط عام 1963 في مقاومته الانقلاب او في سجنه فيما بعد. والمليون عراقي الذين خرجوا في مظاهرة الاول من ايار هم عراقيون يعيشون في العراق ولم يستوردوا من الخارج، اي هم انفسهم اليوم او اولادهم او ربما احفادهم ايضا الذين يخرجون من اجل تاييد القوى الدينية.واذا كان اليسار قادرا على ان يجمع مليون توقيع للمناداة بدولة مدنية ليؤكد الخيار الديمقراطي فان القوى الدينية قادرة على ( سحق) هذا الخيار بخيار ديمقراطي اخر هو جمع سبعة او ثمانية ملايين توقيع للمناداة بدولة دينية تحسم الخيار الديمقراطي الذي يميل لشرعية الاغلبية الرقمية. فما العمل؟

لقد مر العراق بتحولات جذرية مأساوية الطابع وكارثية النتائج.تبدأ من تبعيث المجتمع والدولة والمؤسات المدنية والعسكرية بالترغيب والترهيب والتهديد والقتل والاعادام والسجن ولاتنتهي بالحروب ونتائجها الماساوية واشاعة عبادة الفرد وثقافة ابادة الاخر ومعاداة دول الجوار والمجتمع الدولي ونسف الاسس الثقافية للمجتمع وزرع الالغام تحت ماتبقى من اسس لم تنسف بعد.ذلك يعني ان الخيار المادي الملموس للمجتمع العراقي كان الموت والترمل والتيتم والرحيل والخوف واللجوء الى الحمايات الروحية الموجودة اصلا في المجتمع في مواقع محدودة، خاصة وان الملجأ الوحيد للهروب من الجحيم المادي المعاش قد وفره النظام البعثي نفسه وهو اللجوء الى الخيار الديني بمفرداته السائدة كالايمان( الحملة الايمانية) والتمييز المذهبي وقطع رقاب النساء بحجة ممارسة البغاء وقطع اذان الشباب بحجة السرقة او الغش والغاء الضراب عن الاغنياء الذين يبنون الجوامع فضلا عما اشاعة صدام من خيار ديني طوال ثماني سنوات هي سنوات الحرب العراقية الايرانية، ثم في تديين حرب الخليج بعد احتلال الكويت ووضع عبارة الله اكبر على العلم العراقي الذي اصبح مشكلة دينية ووطنية اليوم واعلان (الجهاد) ضد الولايات المتحدة مما يفسر امكانية تحالف القاعدة والبعث.


لقد بدأ الاقتصاد العراقي يتدمر منذ السنة الاولى للحرب مع ايران. فقد دخل العراق الحرب وهو يملك احتياطيا من العملة الصعبة مغطى بالذهب بمقدار ستة وثلاثين مليار دولار باسعار نهاية السبعينات. واصبح العراق يستدين قبيل نهاية العام الاول من الحرب وسادت ظاهرة شحة المواد الاستهلاكية وارتفاع اسعارها الجنوني وتحول الفرد العراقي الى وقود حربي حتى وهو على قيد الحياة وقتا معيلو مئات الالاف من الاسر. فبعد تصور نزهة الحرب مع ايران التي شهدت عشرة الاف دينار وسيارة لكل قتيل في الاسابيع الاولى اخذت السلطة تستوفي اجور الذين تعدمهم من الفارين من جحيم الحرب وبرزت ظواهر جديدة في المجتمع العراقي معادية للانسانية مثل استيفاء ثمن الرصاص الذي يعدم به المواطن ومنع اقامة مراسم العزاء عليه وتزويج ارملة القتيل للعرب المقيمين في العراق وتحويل ثقافة الطفل من ثقافة ترفيهية ومعلوماتية للسعادة والفرح الى ثقافة حرب وعنف ودم وقتل انتجت ميليشيات الشباب السائدة اليوم.


لقد سعى نظام صدام لانتزاع كرامة الفرد العراقي خلال سنوات الحصار عبر الامعان في تجويعه واستخدام هذا التجويع استخداما سياسيا خارجيا بعد ان استخدمه داخليا عبر خلق الازمات منذ استلامه السلطة في انقلاب تموز 1968 فهو نظام حلق الازمات وفق ايديولجيته التي تقوم على خلق الازمات واستثمارها.وقد جاء هذا المسعى بعد سحق الانتفاضة وضرب الاماكن المقدسة واضرحة ائمة الشيعة باسلحة الدمار الشامل مثل الصواريخ بعيدة المدى الامر الذي لحقته اعدامات جماعية ومذابح وابادات طالت مئات الالاف من العوائل التي فقدت ابناءها في مقابر جماعية مريعة اصبحت عار النظام المنهار.وكانت جريمة تجفيف الاهوار ماساة هي الاخرى لعشرات الالاف من العوائل التي وجدت نفسها تعبر الحدود مع ايران للنجاة في تيه اخر سار فيه العراقيون منذ مجئ البعث الى السلطة وحرمان الجأ العراقيين الى مأثرة(الصبر مفتاح الفرج) في عجز عن نيل لقمة الخبز او المسكن ومقاومة الاعدامات والجوع والمطاردة والتهديد والعزلة والحزن والوحشة والعودة الى الماضي والقرون الوسطى والظلام الذي خطط له صدام عن طريق القطع المبرمج لتيار الكهربائي رمز الحضارة التكنولوجية الحديثة ورمز الكومبيوتر والانترنيت والتلفزيون.


لقد تقدست الحرب العراقية الايرانية وتقدست حرب الكويت وتقدس الحصار لتتقدس عبادة الفرد ويتقدس الجوع وتتقدس الاعدامات فتقدس الصمت والخوف والانتظار والعوز. تقدس نهب عائلة صدام للاموال وتقدست الرشوة الرسمية وتقدست انتهاكات عدي وقصي والاغتصابات وتقدست حتى التصفيات داخل العائلة الحاكمة.كل ذلك التقديس تم بقيادة ثقافة التقديس التي يخطط لها صدام وطارق عزيز ومكتب الثقافة والاعلام القومي واعلام دعائي مرتبط بالمؤسسة الامنية والقمعية ينشر الارهاب الفكري في كل مكان مركزا على وقف المعارضة الدينية المتزايدة عن طريق التركيز على (ايمان القائد الضرورة) ورسالته الغيبية في الحرب و(بناء مجد العراق العظيم)
في هذا التقديس المستمر برزت القدسيات الدينية لتحل محل جميع الاوهام الايديولوجية التي انهزمت امام واقع مادي مرير لم يستطع نظام صدام تغطيته الا برداء ديني ليخفي تحته ملايين الالام والمخاوف والمحاذير والترقبات ويبعد الوقائع الدامية الى الوراء.
هذا هو الواقع الذي ساهم في تفريغ السياسة العراقية من السياسة وشحنها بالدين بديلا عن السياسة ليتحول بعد ذلك الى سياسة محظة لم يستطع اليسار العراقي مع الاسف الاستعانة بالفلسة الماركسية لتفسير نمو هذه الظاهرة خاصة في مرحلة شهدت صعود وتنامي النفوذ الديني المسيحي والاسلامي واليهودي والبوذي وشيوع الوثنيات الاسيوية والافريقية القديمة في مختلف بقاع العالم قبل ان تظهر اطروحة صدام الحضارات، هذا الصدام القائم على الصراعات الدينية.


لقد وقف اليسار من الولايات المتحدة الامريكية موقفا سلبيا رفض التعاون معها قبل الحرب وان كان التزم الصمت تجاهها ليتقدم ويقطف ثمارها بعد سقوط صدام ويساهم بالعملية السياسية ويشترك في الحكومات التي اعقبت سقوط صدام. لكن هذا اليسار اصيب بالفزع والذعر بعد الانخابات التي اكدت طبيعة التحولات التي ضربت عمق المجتمع العراقي خلال ربع قرن كان اليسار بعيدا عن رؤيتها ومعتمدا على الحتمية التاريخية ذات البعد الواحد وليست ذات الابعاد المتعددة. فالحتمية التاريخية من وجهة نظري تحمل التناقض نفسه الذي نادت به الفلسفة الماركسية فجاءت الحتمية التاريخية هذه المرة طبيعية وذات بنية اجتماعية واقتصادية على النمط الاسيوي لعب فيها الدين دورا تاريخيا كبيرا.
ان وسائل النضال التي يدعو اليها اليسار العراقي وسائل فوقية وفق المصطلح الماركسي وهذه الوسائل تتنكر لجوهر الفلسفة الماركسية وشرعيتها الفلسفية في تاريخ الفسلفة العالمي.


ان الحملة من اجل دولة مدنية ييستدعي بالضرورة اتهام الدولة العراقية المكونة من قوى دينية وقومية ويسارية وعشائرية بانها دولة دينية.وهناك حقيقة هي ان القوى الدينية تهيمن على الحياة السياسية العراقية اليوم وقد كانت قوى اليسار تسعى الى التحالف مع القوى الدينية التي تشكل قسما اعظم من الدولة العراقية الان خلال مرحلة المعارضة اعترافا بان القوى الدينية اوسع نفوذا على الحياة السياسية المعارضة. لكن مهما كانت الدولة العراقية القائمة اليوم دينية فهي افضل بدون قياس من دول العراق الاسلامية التي يقيمها امراء القاعدة والوهابية في اماكن من العراق او يسعون لتحويل العراق اليها.ومع هذا لم نجد حملة منظمة من قبل اليسار تندد بهذا الانحدار والانزلاق اللذين كانا يمكن ان يجرا العراق اليهما تحت سيطرة القاعدة والسفلية المتعصبة.
لقد انشغل اليسار بموضوعة الوعي كانشغال المسلمين بالسنة والايمان. ومع هذا فان اليسار تناسى هذه الموضوعة وهو ينادي بالدولة المدنية عبر التواقيع التي تشير من جديد الى محنة اليسار العراقي الذي لم يستطع مع الاسف ان يكون علمانيا با شموليا ضد العلمانية التي تشترط ايمانين هما الايمان المطلق بالحقوق الطبيعية والايمان بحرية التعليم وخلوه من اية عقيدة او ايديولجيا ونحن نعرف ان التعليم اليساري يقوم على عقائدية واحدية وعلى توجيه ايديولوجي اسوأ من التوجيه الديني وان الحقوق الطبيعية واولها الحريات كانت ضحية الانظمة اليسارية في العالم مع الاسف، فضلا عن اتصاف اليسار بانانية وموقف الغائي لكل ديمقراطي وليبرالي.
الغريب اننا تجد في النداءات من ساهم في صنع الواقع المدمر بيده وقلبه ولسانه وسوطه وقلمه ورشاشه وبدلته الزيتونية ومنصبه في المنظمات الدولية وفي مؤسسات صدام في الداخل والخارج الامنية والحزبية المدنية والعسكرية والدبلوماسية ليساهم في بناء دولة مخابراتية عسكرية قمعية ليست مدنية ولا ديمقراطية ليطالب اليوم بدولة مدنية!

اننا بحاجة الى جدل واختلاف وحوار ونقاش وتمييز بين الامور لكي نعرف من يستطيع تغيير الوعي وفي اي اتجاه.

نبيل ياسين