المقال السابق حول اوجلان وحزب العمال الكُردستاني قوبل بنمطين متناقضين. نمط صفق له وبارك. الآخر وقف غاضباً يرمي الأحجار من الضفة الأخرى ويرغي اللعنات. إذن هذا هو حال الناس في الشرق ازاء القضايا الحساسة!
ان المقدرة على التفكير خارج فضاءات الشمولية، وخارج المصب الكونكريتي، تحتاج الى مجاهدة كبيرة من لدن الإنسان، أي إنسان كان.
وإن كنتُ قد لاقيت محناً وعذابات كثيرة في رحلة الثقافة والغربة، لكنني احمد الله كثيراً ما تعلمته في ذلك المخاض من أمرين:
الأول عدم بناء موقف، أو الحكم على كينونة ما إلا بعد معرفة مطلوبة.
ثانياً الهدوء في الفوضى، وإبقاء احتمال صحة الوجه الآخر من المسألة قائماً، في التعريب بين الصواب والخطأ، في حال إذا كنا قد اخترنا وجهةً مالت بنا عن سبيل استفتاء العقل والقلب على المسائل ميلاً عظيما.
قبل أعوام كان هناك مثقف كُردي يردد أمامنا مرّات كثيرة أن اوجلان (خائن) لأنه أبدى ليونة وتنازلاً بعد اعتقاله من قبل الحكومة التركية. كان المثقف المذكور صارماً قاطعاً بيقينه أن اوجلان كان عليه أن لا يتفوه بكلمة اثناء المحاكمة. كان يكفي أن يرفع اصبعيه، السبابة والوسطى، أمام عدسات الكاميرات رافعاً رمز النصر (V) وفق تفكير مثقفنا الكُردي!
ما زلت اشعر بفكاهة الموقف كثيراً، وانا اتخيّل زعيماً أقام ثورة كبيرة، قتل فيها الآلاف من الناس وهجّر الملايين، ثم هو يجلس في قاعة المحكمة صامتاً لا يتفوه بشئ، يرفع اشارة النصر!
في غضون ذلك كان هناك أكراد يرددون ادعاءات متضاربة ومتناقضة عن حزب العمال الكُردستاني، كنتُ صدقت بعضها في تسعينيات القرن الماضي، مثل قصف القرى الكُردية والإساءة لأهالي القرى، وتجارة المخدرات، واختطاف الأطفال ومن ثم تدريبهم وتحويلهم الى مقاتلين.
ما زال هناك من يؤمن بصحة هذه الادعاءات. انا اعذر هؤلاء جميعاً، لأنني ايضاً كنت افكر على النحو الذي يفكرون هم عليه في الوقت الحاضر.
في رأيينا استعمال العقل فرض عين على كل ذي عاقل، في تناول اي شأن من شئون الحياة. إن أخطر مآلٍ في موقف الانسان ازاء الكينونات والمسائل، هو التماهي في ما هو مشاع وفي ما هو رائج. إن ميزان الاحتكام الموضوعي في صحة الحال وزيفها، لا يستند على المتوارد والمشاع في فضاء الاجتماع، إنما على مصاديق الأمر في واقع الحال.
حزب العمال الكُردستاني يخوض صراعاً شاقاً وكبيراً أمام دولة ذات امكانيات كبيرة. تركيا التي تحارب حزب العمال ومعها دول متحالفة، وحتى احزاب كُردية، لا شك انها تحاول مع حليفاتها تشويه صورة الحزب على مذبحة العداوة والأحقاد.
إذا سلّمنا جدلاً أن حزب العمال يتاجر بالمخدرات، وهو ما يعني انه يملك حصالة كبيرة من الأموال، فما حاجة الحزب الى طلب الحاجيات البسيطة من أهالي القرى (الفقراء اساساً)، ومن ثم تعذيبهم والنيل منهم؟
وإذا كان الحزب يقدر حشد مئات الألوف في شوارع اوروبا ـ كما شاهدنا ـ وبعضهم أضرم النيران في جسده، فما الحاجة لاختطاف الأطفال؟
فتاة في استراليا، لا تجيد لغتها الكُردية، التحقت بصفوف الحزب. وبما أن القانون الاسترالي يجرّد المواطن من حق الجنسية إذا ما خدم في صفوف احزاب مسلحة في الخارج، فإن الفتاة اصرت على قرارها في البقاء مع حزب العمال الكُردستاني، وابلغت على شاشة تلفزيون أس بي اس الاسترالي وهي تحمل السلاح في جبال كُردستان: ( صحيح انا ولدت في استراليا لكنني انتمي الى كُردستان).
استطاع الحزب ان يكسب عشرات ومئات الكوادر والمقاتلين من شتى القوميات. هناك البلغار والألمان واليونانييون والقبارصة واوروبييون غربييون وشرقييون يخدمون ويساندون الحزب المذكور. إذن ما الحاجة الى سرقة الأطفال؟ أوَ يعاني الحزب من قلّة الرجال والنساء؟
وإذا كان حزب العمال يصارع اشرس دول المنطقة، تركيا العضو في حلف ناتو، والمجهزة باحدث الاسلحة المتطورة فما مصلحة حزب العمال في فتح جبهات أخرى على نفسه؟ ومع من؟ مع أهالي القرى المساكين العزل! من أجل ماذا؟!
إذن يجب ان نبحث عن مصادر هذه الأخبار، وصنّاعها الخبراء. علينا ان نشك في الأخبار حتى تثبت صحتها، لأن الشك مرشد الى الحقيقة.
حين كنت اسأل الأكراد وخصوصاً سكان منطقة بادينان هذه الاسئلة التي سردتها، كانوا يعجزون عن اتيان الجواب. ولو كان الحظ حالفهم لسماع رأي مثقفنا الفذ، لمّا ترددوا ربما في رفع علامة النصر بأصابعهم!
إن الجهة الوحيدة التي تقوم بهذه الادعاءات هي تركيا، والحزبين الرئيسيين الديموقراطي والاتحاد الوطني (الكُردستانيين).
فإذا كان الموقف التركي مفهوماً، فإن الغموض والالتباس يغدو قائماً في الادعاءات المضادة من قبل الحزبين الكُرديين ضد العمال الكُردستاني.
بعد عام 1991 وتشكيل البرلمان والحكومة في إقليم كُردستان، أصبح هناك تعدد حزبي وحرية النشاط السياسي الى حدٍ كبير لم يدم طويلاً. فحين استتب الأمر لهما بالقوة والإرهاب، قام الحزبان المستحكمان بالاقليم، بالغاء الآخرين ومن ثم الغاء بعضهما البعض.
رويداً رويداً بدأ الحزبان يفقدان القاعدة الجماهيرية بموازاة افلاس كبير على الصعيد الايديولوجي والفكري، في وقت كان قادة الحزبين قد بدأوا مشوار الفساد وضربوا به عريضاً.
اللافت ان حزب العمال كان يستقطب جيل الشباب بسرعة وتنظيم مدروسين. فالشابات والشبان تدفقوا وتجمعوا حول العمال في أخذٍ وعطاء مدهشين حقاً.
هناك قاعدة عريضة وواسعة من أكراد العراق وايران تخدم في صفوف الحزب المذكور، لا سيما في اوروبا الغربية. هذا الأمر اقلق كلا الحزبين الكُرديين، فقاما باتخاذ كل السبل من اجل ابعاد الناس عن حزب العمال، وتقبيح صورته عند الناس.
الأمر تكرر مع الاتحاد الاسلامي الكُردستاني بعد تعاظم شعبيته على حساب الحزبين المذكورين. الاتحاد الاسلامي تنظيم لا يؤمن بالكفاح المسلح، وتعرض لاعتداءات كثيرة، ولم يقم حتى بالدفاع عن نفسه. واستراتيجية الاتحاد معروفة، انه اذا منع من العمل السياسي يقعد اعضاؤه في البيت يواصلون عملهم الدعوي والثقافي، دون اللجوء الى العنف والكفاح المسلح.
لكن احد مسئولي الحزبين الكُرديين، في العام الماضي، صرح اكثر من مرّة ان حزبه اعتقل شخصين، كان quot;الاتحاد الاسلامي يريد بعثهما الى لبنان للمشاركة في الجهاد مع حزب الله ضد اسرائيل!!quot; وللقارئ ان يفكر ما حاجة حزب الله لشخصين كرديين، ثمّ ما هي مصلحة الاتحاد في ذلك؟ ولماذا شخصين فقط لقتال كبير وشرس مع دولة هي الأقوى في المنطقة؟
إذن مسألة الادعاءات الرخيصة معروفة، في اوساط الاحزاب الفاسدة والغارقة في الجرائم.
في اوروبا شاهدت بنفسي الأسواق والمتاجر والمطاعم التي يملكها حزب العمال. وسمعت عن امتلاك الحزب لعشرات المعامل والشركات التي تدر الارباح عليه. أما مؤسساتهم الإعلامية والثقافية الكبيرة، فذلك أمرٌ معروف. هل يمكن ادارة كل ذلك بالارهاب والمخدرات؟!
نعم، في منطق المفلسين الذين يعجزون عن تقديم ابسط الخدمات لشعبهم، وهم في الفساد غارقون!
التقيت في العام الماضي اثناء زيارتي لكُردستان باهالي القرى في المناطق المجاورة لجبل قنديل، حيث ينتشر مقاتلوا حزب العمال.
سمعتهم يتحدثون بعفوية عن مقاتلي الحزب: ( لا يؤذوننا. لا يدخلون البساتين ليأكلوا من الثمار. لا يقبلون مساعداتنا وخصوصا الطعام. يمشون ارطالاً من مائة او مائتي مقاتل ليلاً او نهاراً ولا نكاد نسمع طقطقة ارجلهم. لديهم مستوصفهم ويعالجوننا فيه مجاناً. يدعوننا الى مناسباتهم بين الحين والآخر ويتحدثون معنا ويلقون على مسامعنا محاضرات ودروس...).
هل عليّ لكي انال اعجاب وتصفيق الناس، أن أغيّر من شهادة اهالي القرى فأسوق الأكاذيب بدلها، ثم اتناول حزب العمال الكُردستاني بهتاناً وزورا؟!
وحيث سمعت افراداً من الاتحاد الوطني الكُردستاني والحزب الديموقراطي الكُردستاني يشرحون أسباب صفقات احزابهم مع تركيا، لضرب العمال، هل يجوز لي ان اقول عكس ذلك لكي اثبت انني كاتب وناقد مستقل، انقد حتى الحجر والشجر؟
لو افترضنا ان حزب العمال هو الذي اعتدى على الحزبين الكُرديين، فلماذا قدّم وزير العدل التابع للحزب الديموقراطي الكُردستاني ملفاً ضخماً يدين اوجلان بالارهاب والجريمة، الى المحاكم التركية بعيد اعتقال اوجلان؟ هل كان الملف نضالاً قومياً؟

في ما يتعلق بزعيم الحزب المسجون منذ تسعة أعوام، هناك مسألة مهمة جداً ترتبط مباشرة ببنية الحزب ومدى استيعابه لمساره السياسي عالمياً، في إبقاء القضية الكُردية متمتعة بحيويتها عبر تصميم الحزب ومؤازرته لزعيمه المسجون. ينبغي الإشارة الى بعد نظر اوجلان وعقلانية ممارسته للسياسة والفكر وهو يقضي وقته وحيداً في جزيرة محاطة بالمياه. وهو في السجن يواجه العذاب والمشقة والتسميم، لم يتقاعس الرجل ليتوارى خلف حزنه ومأساته. قدّم ويقدّم أعمالاً فكرية راقية وعليّة. ولعلّ في تربيته بتعاليم بديع الزمان سعيد النورسي، وهو فتى، تجربة روحية وفكرية ممتعة أهلت اوجلان لكي يبدع في السجن حيث ابدع النورسي، وهو يواجه العذاب والنفي والتسميم.
السجن هو موت آخر. ينهار النشاط، وتختفي البهجة، وتنكسر إرادة الانسان نحو الظلام والخفوت. لكن اوجلان ألّف أعمالاً في زنزانته الفردية تدهش المثقفين والعلماء.
وأنا من هذا الموقع اعلن انه لو استطاع الحزب الديموقراطي والاتحاد الوطني الكُردستانيين، من اتيان اعمال فكرية لهما على مرّ تاريخهما، تبلغ قامة الأعمال التي قدمها اوجلان في سجنه المتوحش، حينئذٍ اقول ان كلَ ما يقولونه عن اوجلان صحيح، وان حزبه لمن الخاسرين.

اننا نحسب اوجلان انساناً بسيطاً مثل اي واحدٍ منا. ليس بأعلى من اي فرد ولا أدنى، خضوعاً لقانون: الناس سواسية كأسنان المشط. لكنه مجاهد ومناضل كبير وعلينا تسجيل ذلك للتاريخ وانتصاراً للضمير. فضلاً عن ذلك ومن موقع الكلمة الصادقة والشهادة بالقسط، لا نبخس الناس أشيائهم، ونثني على ما هو جميل ورفيع. وفوق ذلك نؤكد ونثبت ما قلناه في المقال السابق بحق اوجلان وحزبه، لأن المقال كان ثمرة تفكير وتجربة طويلين في هذا المضمار.

للذين يريدون معرفة اوجلان عليهم أن يقرأوه. لأنه من المحرمات الثقافية والعلمية الثقيلة، الحكم على شئ قبل معرفته. ولا ريب أنّ كل شيء بعد المعرفة سهلٌ.

علي سيريني

[email protected]