في الشأن اليمني


في هذه اللحظة الفارقة من سفر التكوين اليمني: يدخل المجتمع العالمي في المابعديات ( ما بعد الحداثة، ما بعد الصناعة، ما بعد الدولة، ما بعد... )
ونحن في اليمن، الدولة اليمنية والأمّة اليمنيّة، نعيش كل الماقبليّات: ما قبل الدولة، ما قبل الحداثة، ما قبل الصناعة.. نعيش هذه الماقبليات وبصورة بدائية أيضاً.


ومع ذلك فنحنُ،وبمعادلة أعترف أني أعجز عن فهمها تماماً، نعيش: اليمن الحديث، المستقبل الأفضل.
في السابق كان يقال: لا يمكن أن نتنبّأ بمستقبل اليمن، وكان هذا القولُ يحملُ الكثير من التهوّر. وبفعل الزمن اليمني النوعي تشكلت معادلة جديدة، مقولة بها قدر عالٍ من الدقة، تقول: لا يمكن أن نتنبّأ بالماضي اليمني، وليس المستقبل.

وفكرة التنبؤ بالماضي تفترض أنه إذا أمكن تقسيم التاريخ إلى مجموعة من الفترات المتلاحقة فإن فحص جملة الأحداث والمعادلات التي أخذت مكانها في الفترة ( أ - ب) سيدلنا بدرجة ما، بهداية أوّلية، إلى معرفة أحداث الفترة ( ب - ج ) قبل قراءتها.
في التاريخ اليمني غالباً ما تكون الأحداث غير مترابطة، وغير متناسقة. بوضوح: هو تاريخ غير دال. غير منتج لمستقبل. والمستقبل بدوره هو ما قبل الماضي وما بعد الحاضر. مجرّة دوّارة، ليس لها علاقة بالزمن، شبكة من العدم والوجود، من الحضور والغياب. ألمْ تفرز الثورة اليمنية وضعاً جديداً: خصومها ومناهضوها،وسلالاتهم، إلى الآن هم من يتفيّدوها. وكذلك الوحدة، ألم تفرِز نقيضاً كاريكاتوريّاً: أشد المتحمسين للوحدة، على المستوى النظري والعملي، هم مطاريد الوحدة وجياعها وقتلاها.. أين يمكن أن نضع الماضي والمستقبل؟ ماذا لو قلبنا الأحداث، وصعدنا من الآن إلى الماضي لصناعة تاريخ بالمقلوب، لن تتغيّر الصورة كثيراً. على الأقل: لن نجد فيها مفاجآت طبقاً للاعتياد اليمني.

نحنُ الآن، في 2008، نعيش في التاريخ بالنسبة لأولئك الذين سيأتون في الغد. نعلمُ بيقين لا بأس به أن ما حدث في الثمانينات لم يكن هو الذي أفرز أحداث التسعينات. وأن أحداث التسعينات لم تكن هي التي صنعت أحداث الآن، العقد الأول من الألفية الجديدة. وما كان بمقدور أيٍّ كان أن يتنبّأ بمعادلات هذا الزمن منذ عشر سنين مرّت. لنقُل: الماضي القريب لم يصنع هذا الحاضر. إن حاضرنا هو صناعة ذاتية التدعيم. حاضر يصنع نفسه بنفسه. وبتعبير بلدي: بلد تمشي ببركة أرحم الراحمين (التعبير البلدي سمعته من صديقي أ. د. وديع العريقي، أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة صنعاء)
ماذا لو أمكن لجورج أورويل أن يكتب عن اليمن؟ هل كان بمقدوره لو عاش بيننا أن يهجس بمثل رائعته quot; 1984quot; التي تنبّأ من خلالها بوقائع العالم الجديد، علاقاته وولاءاته ومعادلاته، في زمن روائي يقع في المستقبل، بعد أربعين سنة من الزمن الكرونولوجي، المادي، الذي عاشه لحظة الحدس، الهاجس.
حتى أنت يا أورويل، لن تستطيع. فهُنا، في بلدي، يمكن لأي إنسان أن يكون خاطفاً، أو مخطوفاً في طرفة عين. لن يستوعب عقلك المرن هذه الظاهرة: التاريخ اليمني في الأربعة عقود الأخيرة من القرن العشرين تمت سرقته في العلن الصاااااافي.

فأنتَ، يا أورويل، ستندهش بحق حين تقرأ quot; خمسون عاماً من الرمال المتحرّكةquot; لإحدى شخصيات هذا التاريخ الأخير، محسن العيني. وستجده في كتابه يسرفُ في الحديث لدرجة الإملال عن أول مرة في حياته رأى فيها زجاجة الكوكاكولا. وعندما يصل به السرد التاريخي إلى يوم الثورة،26 سبتمبر، إلى ساعة الانفجار العظيم، يكتب هكذا: وصلتُ إلى بيروت قادماً من القاهرة فأخبروني أن الثورة قامت في اليمن.

هكذا ببساطة متناهية.. لأنه لم يكن موجوداً في اليمن في تلك اللحظة، وأصبح صعباً عليه الآن أن يدرج نفسه بين مجموعة الخاطفين الشداد ليتحدّث عن عبقريته الشخصية المسؤولة عن صناعة المستقبل اليمني، في تلك الليلة بالتحديد. إما أن يكون هو صانع ذلك اليوم، الذي لم تصنع أشعته شمس الضحى ndash; بتعبير الزبيري العظيم، وإلا فإن هذا اليوم بكامل حوادثه لا يساوي أزيَد من نصف سطر ضمن كتاب يتجاوز في ضخامته الـ 353 صفحة. هو حدث أقل إدهاشاً من شرب كوكا كولا، لأول مرة في العمر!

يا لحظ الكوكاكولا! كان يريد أن يقول: كنتُ أنا من أطلق أول قذيفة على قصر البشائر وصنعت بتلك القذيفة التاريخ القادم. تمنّى أن يقول هذه العبارة التي يبدو أن كل كتاب السير الذاتية في اليمن قالوها بمعنى أو بآخر. حتى الرئيس الحالي، رغم أنه كان يافعاً في ذلك اليوم ولم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره، إلا أن هناك من يؤسس الآن لدور تاريخي ضخم في يوم الثورة يتناسب مع ما يُعتقد أنه دور راهن تخطّى المعجزة في صناعة مجد الإنسان اليمني ( دمت للتاريخ محراباً مهابا... فاصل ودّي للاسترخاء، عزيزي القارئ). الرئيس الحالي، في السياق ذاته، الوليمة إياها، يوزع الآن شهائد الثورة ونياشين الدفاع عنها، ويحتفظ لوحده بالوحدةِ، ويصرّ بشكل عجيب على أن يشطب رفيقه الجنوبي من صورة رفع العلم، الشهيرة. لقد كان يتفق على أسس وإجراءات الوحدة، طيلة الفترة التي سبقت مايو 1990م، مع نفسه، أليس كذلك؟

وهكذا.. عمليات خطف على مدار الساعة. مثلاً: أنت مسترخٍ الآن، ولا تفكّر بشيء لأن التفكير في اليمن هو فعل غير أخلاقي بالمرّة. وعندما تفيق من استرخائك تسمعُ عن كتابٍ ما كتبه مناضل كبير. تقول لنفسك: أين أنت يا أورويل، ادركني بربّك، إنها عملية خطف جديدة للتاريخ. كيف لم تتنبّأ بهكذا عمليات أيها اللئيم!


أورويل، عزيزي، هل بمقدورك أن تكتب فصلاً روائيّاً بهذه الركّة: أدليت بتصريح لم يعجب الإمام، فغضب مني وقال لأصحابه quot; احلقوا له، أي اقتلوهquot;.. فغضبتُ لذلك، وأعلنتُ الثورةquot;..
أسألك يا أورويل عن ممكنات كتابة رواية بهذه الركة، لا عن التاريخ فذلك شأن مختلف للغاية. هذه العبارة يقولها مؤرّخ يمني، عبد الرحمن البيضاني، في محاولاته المستميتة لاختطاف التاريخ. تعالَ نندهش يا أورويل!

هاتفني صديقٌ، طبيب. قال لي: في المستشفى الذي تعمل به الآن يرقد شقيق لمناضل يمني كبير، أرجو منك أن تعتني به. وعدته خيراً. في اليوم الثالث كان يسألني: هل مررت عليه، ما وضعه الآن؟ قلت له: لا، لم أفعل. حاولتُ أن أتذكّر النضالات التي صنعها شقيقه، أن أفهم معنى النضال من جديد.. ففشلت، لذلك تأخرت عن زيارته. على أيّةِ حال، سأزوره في الغد، وسيقول لي هو ما لم يكتبه بعد عن تاريخه المجيد. مرّة أخرى: أورويل، عليك اللعنة، لماذا لم تسم روايتك: 1962م؟


ستقرأ يا أورويل كتاباً مملّاً، يحمل عنوان: مذكرات ضابط مخابرات يمني. وسيقال على الغلاف أن مؤلفه هو quot; نصر البتول quot;. لن تتذكر هذا الاسم، صديقي أورويل. أنت لا تعرفه، رغم أنه يقدم نفسه: ضابط مخابرات يمني ndash; روسي. هكذا، معاً. ستقرأ الكتاب وأنت متردد، فأنت يا أورويل لا تتحمّس للأسماء المجهولة مثلما كان يقال عنك. حسناً، هل اكتشفت أن هذا الاسم الجديد هو الذي صنع التاريخ اليمني في الأربعين عاماً الأخيرة؟
هو كذلك، ولديه أدلته السردية البليغة والمؤثرة. وطيلة كتابه التاريخي لا يريد أن يقول: هناك حدثٌ ما بالخارج، كما يكتب البشر. بل يقول: هناك شخص ما في الداخل. لاحظ أننا إلى الآن نتحدّث عن مذكرات. هل كنت تتخيل، يا أورويل، أن تكون المذكرات حيلة جديدة للاختطاف، اختطاف التاريخ، ومؤخراً: التاريخ والجغرافيا والبشر؟


وهكذا، وهكذا. صدّقني، أنا لا أستطيع أن أتخيل هذا الإصرار الشرس لسرقة تاريخ بلد يدخلُ كل يوم في المتاهة الوجودية الكبيرة، وما الغنيمة في سرقة هكذا بلد. موتٌ وخراب ديار.. هل يوجد معادل لهذا المثل لديكم، في بريطانيا. ألم تسمعه من معلميك الكبار: جورج برنارد شو وسومرست موم وصاموئيل بتلر؟


لا بأس.. نحنُ هنا، نحاول أن نتنبّأ بالماضي، وبالكاد نستطيع أن نتنفس بين جماعة الخاطفين، سارقي التاريخ الأنيقين.. ذلك الحشد الوسيم المليء بالقتلة.

مروان الغفوري