مقدمة: كان الوجود والثقل اليهودي في الولايات المتحدة منذ أنتهاء الحرب العالمية الثانية ولايزال يُشكّلُ quot; عنصر القوة quot; للدولة اليهودية منذ قيامها عام 1948. وهذا الوجود كما صرح به زعماء الفكر الصهيوني يدفع عجلة النمو والأزدهار والتقدم في أسرائيل ويدعم ماكنة العمل العسكري والتطور الأقتصادي والتكنولوجي ويُسيّرها الى الأمام.


ولاتشجع المنظمات اليهودية السياسية منها أو الدينية في حالات كثيرة، على هجرة المتنفذين من يهود أمريكا، الذين هم في صلب السياسة الأمريكية ووسائل أعلامها للهجرة الى اسرائيل لان بقائهم فيquot; دول مؤثرة quot; كأوربا الغربية وأمريكا هو بقاء لأسرئيل ونصرها الأساسي. quot; فعنصر القوة quot; المؤثر يغذي عروق وحيوية السياسة الخارجية للولايات المتحدة وقراراتها ومواقفها. وقد وصلتْ اليهودية العالمية منذ أكثر من قرن الى قناعات بهذا الشأن ولاغرابة أن تلمس هذا الوجود الثقيل في روسيا والمانيا وفرنسا وتحول هذا الوجود الى الولايات المتحدة لتأمين مصالح الدولة اليهودية وتسرب بعد الحرب العالمية الثانية الى مجلس الشيوخ و مجلس النواب، تسندهُ السيطرة الأعلامية الضخمة لشبكات التلفزيون. فتُصّب القرارات شرعاً وقانوناً في صالح الرعيةquot; شعب أسرائيل quot; وتُوجه السياسة الخارجية من قبل الرعاة في واشنطن الذين أعطوا وباركوا لخصومي وخصومنا في الماضي القريب ومازالوا يعطون مالاً لايملكونه وممتلكات لاتعود لهم وأرض لاتخصهم. وتزود أسرائيل بزخم فريد من القوة لديمومتها وأستمرار تماديها في سلب الحقوق العربية بأستمرار الدعم لجعلها تتفوق عسكرياً وأقتصادياً على الدول العربية جمعاء.
من هنكاريا الى الولايات المتحدة

وبالأمس القريب، في يوم 11 rlm;شباطrlm;rlm; rlm;08rlm;، توفي خصمي اللدود توم لانتوس بالسرطان عن عمر يناهز الثمانين. وجرى له تشييع مهيب أهتمتْ له وسائل الأعلام الأمريكية والحكومة وأُلقيتْ كلمات التأبين لشخصية مهيبة. فمن هو هذا الرجل؟ وماهي خدماته الجليلة للولايات المتحدة؟ وماهو الدرس المُستخلص من سيرة حياته السياسية؟


ولِد توم لانتوس في العاصمة الهنكارية بودابست من أسرة يهودية، وكان عمره 16 سنة عندما دخلت القوات النازية هنكاريا عام 1944. وأستطاع الهرب من معسكرات العمل النازية مرتين. وهيأ الديبلوماسي السويدي راؤل ولنبرغ طريق أخراجه وألاف أخرين من اليهود بتوفير سبل الحماية الدبلوماسية في السفارة وأتم Raoul Wallenberg
تهريبه وأخرون الى الخارج. يتكلم لانتوس عن تلك الحقبة من الزمن في الكتاب الذي نُشر ( آخر الأيام ) وأتخذ منه المخرج اليهودي الأمريكي ستيفن شبيلبيرغ المادة لأخراج فلم وثائقي عن معاناة الهنكاريين اليهود الذين أستطاعوا الأفلات من نار النازية. quot; لقد كان عمري 16 سنة ولكني كنتُ أشعر بأني رجل كبير الوعي quot; ويقول أيضاً quot; أن لجوئي الى أمريكا كان بأختياري، لذلك فأنا أمريكي بأختياري الشخصي quot;. وهو يذكر ذلك لأنه كان مؤمناً بأن حياته يجب أن يكرّسها quot; لخدمة اليهود في العالم وضحايا الأضطهاد العنصريquot;.


والتعرف على مسيرة حياته أعطاني العديد من الهواجس لكراهيتي لهذا الرجل وأعجابي به في نفس الوقت، فقد وصل توم لانتوس الى الولايات المتحدة عام 1947 كمهاجر يهودي مضطَهد وكان فقير الحال وأستطاع بالحصول على مساعدة جامعية من الدراسة في جامعة بمدينة سياتل بولاية واشنطن. وفي عام 1950 تزوج من أنيتا، صديقة طفولته بعد أن لمَّ بهما الزمن بعد الحرب. ثم أنتقلا الى مدينة سان فرنسيسكو ودرس الأقتصاد في جامعة بيركلي بولاية كاليفورنيا. ولِما لليهود من مكانة مميزة بين المنظمات السياسية الأمريكية أستطاع، بعد ترشيح نفسه للأنتخابات الأمريكية، أن يُصبح نائباً في مجلس النواب الأمريكي، وتناقلت الأخبار عنه بألأشارة له على أنه quot; البرلماني الوحيد في الكونجرس الأمريكي الذي نجا من الهلوكست quot;.

توم لانتوس ولجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس الأمريكي
أن المتتبع لجلسات مجلس النواب الأمريكي والقرارا ت التي يصدرها فيما يخص القضايا الدولية عموماً والعربية والتي تمس أسرئيل من بعيد أو قريب يكاد يصل الى نتائج مذهلة. وعندما تم أنتخاب لانتوس كرئيس لجنة العلاقات الخارجية أصبح المنبر والصوت الحاد لكل من هو معادِ ِ لسياسة أسرائيل وكان الجمهوريون يتجنبون تصريحاته المُثيرة وصوته وكلماته الدقيقة واللهجة الأوربية الشرقية ليصبح المجلس الألة الحقيقية للكتل البرلمانية اليهودية الأصل من أعضاء الحزب الديمقراطي التي يمثل عملها وأهدافها تنمية العلاقات مع الدول والمسارعة في تقديم توصيات لخدمات انسانية. وتغيّرت صورة المجلس في سلوكيته وتصرفاته وبتصريحات ممثليه أصبح منبراً للمزايدات و ألعوبة سياسية خاضعة تماماً لأهواء ورغبات عناصر القوة فيه. أن عناصر القوة المؤثرة فيه هي عصبة من الرجال والنساء تقرر مصير الملايين بالتشريعات الأنسانية وغير الأنسانية التي يعترض عليها القلة من الأعضاء. وكان لعناصر القوة أخراج طرق التحضير للمفاوضات الدولية ووضع أسس العلاقات مع الدول وأعداد وتهيئة السلطة التنفيذية في البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية لما هو قادم ولما يجب أن يتم.


وقد لعبَ توم لانتوس كأبرز عضو في لجنة العلاقات الخارجية ورئيسها دوراً مميزاً فاق تصورات أصدقائه وبقية الأعضاء في المجلس كما فاق قدرة خصومه في أتخاذ قرارات مناقضة لما يقترحونه،خاصةً الجمهوريون منهم. فكان له الكلمة العليا والمكانة المميزة بغض النظر عن سلوكيته الشائبة وتصريحاته الملفقة التي كانت تنال الأستحسان والأستهجان في الأوساط السياسية البرلمانية والصحف الأمريكية.


أسسَّ لانتوس لجنة حقوق الأنسان في الكونجرس، كما خرجَ في تظاهرة ضد أدارة بوش الأمريكية ومواقف الجمهوريين المائعة من الحكومة السودانية، لعدم فرض المقاطعة الأقتصادية ضدها فيما يتعلق بقضية دارفور، فسجّلَ بمشاركته في تظاهرة ضد الأدارة الأمريكية وأعتقال الشرطة له لبضع ساعات موقفاً أحتجاجياً رمزياً. وقد عُرف بتنديده بالدول الشيوعية والصين بالذات والتعامل معها، كما أطلق حملة جائرة ضد العراق ومنظمات المقاومة اللبنانية كحزب الله والقيادات الفلسطينية وأعتبرها منظمات أرهابية. كما أنه قام، دون رغبة الحكومة الأمريكية، بزيارة الى ليبيا في تشرين الأول من عام 2007، حيث حذّر وأقنع الرئيس الليبي للتخلي عن برامج تطوير أسلحة نووية مقابل رفع العقوبات الأمريكية عن ليبيا. ولم تخلوا مواقفه من أتخاذ مواقف أنسانية جيدة عندما لم تتعارض هذه المواقف مع مصالح الدولة اليهودية، كما هو الحال عند قيادته الحملة لأتخاذ قرار دولي يدين تركيا في جرائم قتل وأبادة للأرمن، ألا أن مشروع القرار لم ينجح عند التصويت عليه نظراً للعلاقة الأستراتيجية معها.


قد يصل المرء من هنا الى أستنتاجات يدعمها سِجّل من القرارات السياسية التي شارك فيها وروّجَ لها التي كانت تخدم الصهيونية. أن المفاوضات الدولية هي فن من الفنون وأستخدمها لانتوس بكل مهارة وأستغل قوة أمريكا العسكرية لتمرير قرارات مجحفة وخلط الأوراق في غير صالح الدول العربية، فقد أدخل التلويح بأستعمال القوة العسكرية وربطها بالعصا السياسية في التعبيرعن هذا أرائه وألزم نفسه بها. كما أن الأبتزاز والصياغة الفنية للنصوص المستعملة في فن السياسة يأخذ شكلاً واضحاً كما تراه الكتل السياسية واضحاً في ممارسات لانتوس وتعامله مع الأخرين من أصدقائه وخصومه، حيث كان يهابه النواب ويتبعه الأخرون خوفاً من تعريتهم سياسياً أو أتهامهم بأنهم ضد السامية عند التصويت على قرارات لصالح الدولة اليهودية. وقد كتبتْ الصحفية أريكا وارنر بعد وفاته ( لانتوس هو الرجل الهنكاري الذي أستطاع الأفلات من معتقلات النازية وكرّس كل حياته النيابية في أمريكا لخدمة ودعم أسرائيل ).


لقد أعتبرتُ هذا الرجل ذو الأبتسامة التي لاتدل على أنه يشاطرك الرأي عند محادثته، من ألد خصومي السياسين، فعنصريته كانت تفوق أنسانيته، وسوء ظنه المسبق وتصلبه السياسي يظهر في تشنجه عند الحديث عن أسرائيل والوضع الفلسطيني، ومعتقداته بالنسبة للعراق وأيران. وكان مُراوغاً وصياغته للكلام والأفكار السياسية المتزمتة التي يعتقد بها توّلدُ الأنطباع وكأن العرب وليست المانيا الهتلرية من وضعوا اليهود في المحارق النازية.


quot; أن الفلسطينيين هم مَن في الخيام مشردين وليس اليهود quot;. ويُجيب لانتوس على ملاحظة صديقي عندما ألتقينا به في أحدى القاعات الأكاديمية في التسعينات quot; أن العرب لايحبون السلام ولايقبلون بوجودنا هناك quot;.


يقدم جواباً مُخالفاً للسؤال وبعقلية أنتهازية مُزيِفة لحقائق التاريخ. لقد نال هذا الرجل أعجابي لصلابته وشجاعته السياسية، فهناك شيئ مختلف فيه يميزه عن الأخرين، وكانت أولوياته غير قابلة للتغّير، وقد كان عموداً من أعمدة الديمقراطيين في مجلس النواب والصوت الذي يحترمه البيت الأبيض عند أتخاذ قرارات تتعلق بالسياسة الخارجية. وأكاد أكون على يقين عندما يوزن السياسيون من أمثاله فأن منزلته لاتقل عن منزلة مناحيم بيغن أو أي رئيس وزراء أسرائيلي آخر. ومع أن ولاءَهُ كان يجب أن يصب في مصالح الولايات المتحدة التي منحته اللجوء والعيش ألا أنه كان يبدي الولاء التام لأسرائيل أولاً. وأكاد أن أكون على يقين أن أسرائيل تعتبره عَلمُ ُ من أعلامها و تَرفع أسمه بنوع من الهالة والمجد في أضرحة أسرائيل أو ساحاتها العامة أو مكتباتها.

ملاحظة: لأسباب تتعلق بأصول النشر، يرجى عدم الأقتباس دون الرجوع الى الكاتب.

[email protected]