1-
كأن الزمن عندنا توقف عند ساعة واحدة، وثقافة واحدة، وطريقة عيش واحدة، لم يعد أيّ شيء يحرك أي شيء، لم تعد أي مصيبة تحرّك أي لوعة ولا تهزّ أي ضمير. في زمنٍ أصبح فيه quot;الضميرquot; من أرخص السلع وأكثرها وفرة ويسراً، في زمن جديد اسمه quot;سوق الضمائرquot;. شكل كل شيء لا يحيل إلا إلى شيء واحد هو quot;الضياعquot;: الضياع الفكري والاجتماعي والسياسي المحزن. لم يعد أيّ شيء يثير الاهتمام، حتى الكتابة لم تعد مغرية، لولا أنها تجلب الراحة للكاتب، وتريحه من آلامه، أكثر الآلام تعذيباً وأكثر الآلام تشويهاً، لم تعد-حتى الكتابة- سوى حيلة العاجزين، أو المتسوّلين، باتت لعبة، الكتابة صارت quot;دكاناًquot; أصبحت quot;متجراًquot; حينما تكتب بضميرٍ حيّ تحت قرع وخزٍ لا فكاك منه تقع تحت قبضة quot;الألمquot; الذي يدفعك نحو quot;الانشطارquot;، في quot;الانشطارquot; نعرف حجم كآبة العالم-كل العالم- وحجم ارتباكه وملله من حمولتنا، من لحومنا الذي نجرها فوقه كل تلك السنين، ملل العالم من ثقافتنا quot;الصخرةquot; المرتجّة صمتاً والمتحجرة نوماً وإطباقاً.

2-
ما الانشطار: إنه تعذيب الذات للذات: حينما تحنّ إلى الحركة في بقعة خارج عقارب ساعات كل العالم، تسير أرضك بإيقاع متكرر، وتحت وطأة وجوه مشوّهة، يصبح حينها الانشطار (إحساس متصاعد بحجم التشويه) نرى لحظة quot;الانشطارquot; كل الذين راحوا ضحية quot;التشوّهquot; بفعل ثقافةٍ ارتجّت على نفسها وضربت رأسها ذات تاريخ فصارت ثقافة quot;التهريجquot; صار رموزها مجموعة من quot;المهرجينquot; بات ضربها أو نقدها يشبه ضرب quot;المجنونquot;، ضرب أساطين التهريج فعل انتحاري بامتياز، أن تقذف بنفسك داخل كومة من المكتملين تشويهاً، هذا يعني أنك تحاول الانتحار، أو تنتحر، أو تبحث عن وسيلة لتجريب الانتحار، لا يقوّيك سوى لحظة quot;الانشطارquot; القصوى، اللحظة الملهمة حدّ الروعة والبذاءة معاً، حدّ التناقض، حدّ الوعي المزعج، أن ترصد كل التشويه يعني أن ترصد كل العاهات كل التفاهات، أن تقابل يومياً كمياتٍ من اللحوم المتكوّرة، أكياس اللحم المتنقلة التي تسمى quot;بشراًquot;.

3-
quot;مساكينquot; ضحايا التشوّه، يرفعون أعناقهم إلى السماء.
يظنون أنهم هم كل العالم، أنهم يسيطرون على العالم، يقعون تحت وطأة التشويه، في كبتهم الجسدي الذي يعبرون عنه بطرق شاذة، أو يحاولون رسمه بطرق هابطة، يعبرون عن كبرياء مفقودة في استعبادهم لكل الآخرين، يظنون أن العالم لهم وحدهم، أنْ لا أحد خارج بقعتهم أنْ لا أحد يعيش خارج أرضهم، ضحايا التشويه، يقضون أعمارهم في quot;الهمسquot; وفي quot;التيهquot; يعيشون لسنوات طويلة من دون حتى أن يدركوا حجم التشويه الذي يسكنهم، أو يدركوا خطر التشويه الذي يسكنونه. لهذا يختلفون دائماً عن كل الثقافات والعالم، في لحظةٍ تتجلى فيها وتشعر معها بالانشطار الحقيقي شاهد هذا المجتمع المريض، المجتمع الموبوء فكرياً ونفسياً وذهنياً؛ المريض بنفسه، وبثقافته، وبعيشه، المريض برموزه الدينية المريض-أيضاً- برموزه الثقافية، والإصلاحية، والسياسية، مريض حد التشوّه، يئنّ من ألم التخبط والتشوّه. ثقافته-المجتمع- لم تسعفه، لقد رسمت له عقارب وقتٍ ضيقة يتحرك داخلها، يعبّر أثناءها عن تشوّهه، إننا أكثر شعوب العالم تشوّها وأكثرها تعبيراً عن التشوّه بإمكان ثقافتنا تشويه أي شيء، كل شيء يأتي يتحوّل إلى مسخ، أي شيء يأتي يمكن تحويله إلى مسخٍ مريب، ثقافتنا ليست مشوّهة فحسب، ولكنها تصدّر التشويه أيضاً، وترعى المشوهين، وتحافظ على ترميز من اشتدّ تشوههم ومن تميزوا بحالات تشوّه كبرى، لذا عمّ التشوّه وساد التشويه، وبتنا في لحظة تشوّه قصوى لا يمكن سترها، أو صدّها، وأنشئت مراكز ومؤسسات لدعم التشويه، ولرعاية المشوهين، ولتنصيب المشوهين.

4-
نحتفظ بأكثر الرؤوس quot;شيباًquot; ونعاني من قلة الرؤوس quot;الناضجةquot; اشتعلت الرؤوس شيباً، لكن quot;التهريجquot; لا ينضج إلا حينما يكبر الكائن في هذه البقعة الجغرافية البائسة، نئنّ من وطأة هذا اللون الأبيض المريض، هذا اللون الذي يصبغ الرؤوس، بينما تسكن quot;الدودquot; تلك الرؤوس، فلا تتحرك إلا على وقع أفكارها المشوهة، وتعاني من الكراهية لكل المجتمعات ولكل الثقافات، تأكل كما تأكل الأنعام وأسوأ، ثم تخلد إلى بيتها المشوّه المحصّن كالقلعة، ثم تذهب إلى عملٍ ممل، عملٍ يسكنه الفساد المطبق، ثم تخرج وتتغذى بأغذية بلاستيكية تثير القرف، ثم تنجب كائنات مقرفة ترضع لبن التشوّه، ثم تنام بشكل مشوّه، وتصحوا على وجع التشوّه، تسير برقاب ملتوية، وأعناقٍ مشرئبّة، تظنّ أنها هي quot;كل شيءquot; ثم يطمرها الزمن وتذهب إلى الأبد.
:
(يا لأحلام الشباب، الحافلة بالأوهام!
أولئك الذين اندفعت نفسي تناديهم،
من حسبتهم مجدّدين مثلي:
لقد رقاهم راقٍ وكبّلهم.
ما زلتُ أسمع أحياناً إذا ما سجا الليل، أصابع تطرق قلبي،
أو زجاج نافذتي!
إنهم ينظرون إليّ ويقولون لي: نحن مازلنا كما كنا) quot;نيتشهquot;.

5-
لحظة الانشطار، حينما تشعر بلذّة التناقض، حينما تعصي quot;الضميرquot; ساعة ضعف، ثم تعود إلى رشدك.
وترصد تشوّهاتٍ جديدة غزت وجهك وفكرك، تطهّر كل التشوه بـquot;الدموعquot; بها نغسل الأدران.
لحظة الانشطار لحظة عظيمة، حينما توازي بين quot;بؤسكquot; و quot;ضميركquot; حينما يكون قلمك هو دبوس الشفاء.
في quot;الانشطارquot; نتحرّك خارج الوقت داخل الذات، داخل النفس، نتعارك مع تشوهات تودّ أن تمسّنا على حين غفلة.
كلماتنا لن تغيّر أي شيء، إنها ndash;الأحبار- quot;دموع الأقلامquot;. إن أحبارنا حالة قصوى من الرثاء لكل من راح ضحية التشوه، أو قدّر له العيش بين كميات من المشوهين.

فهد الشقيران
كاتب سعودي.
[email protected]