المضحك المبكي أن معظم الدول العربية ومصر بالذات هي التعريف العملي للعلمانية ورغم ذلك نجد بعض المصريين وطبعا الكثير من السلفيين يعتبرون أن العلمانية هي نوع من السبة يتم وصم أي كاتب ليبرالي مصري بها..رغم أن الدين في مصر هو في الحقيقة اختيار فردي والقوانين فيها هي قوانين مدنية مشتقة اساسا من القانون المدني الفرنسي.. الا فيما يخص الأحوال الشخصية.. بها قضاء مدني.. ونظام حكم رغم كل عيوبه نظام مدني.. يفصل بين الدين والدولة.. وهو نظام سيتحول تلقائيا مهما قاوم الي نظام مدني كامل مثل أي دولة أوروبية..لأن هذا هو التقدم الحقيقي.. لاالأزهر ولاالمفتي ولا البابا شنودة.. يستطيع أن يفرض أي أمر دنيوي خارج القانون المدني ومن ضمنه قانون الأحوال الشخصية.. وحرية العقيدة يمارسها المصريون رغم أنف الجميع منذ عشرات السنين..

فمصر بها كل أنواع المذاهب الاسلامية وكل أنواع المذاهب المسيحية.. ولا يحتاج أصحاب أي مذهب أو طريقة صوفية مثلا تصريحا من شيخ الأزهر لممارسة شعائر مذهبه.. أو عدم ممارسة شعائر أي دين حتي لو كانت خانة البطاقة تقول أن هذا الشخص مسلم أو مسيحي.. المصريون في الحقيقة يعتبرون هذه الخانة خاصة فقط بقوانين الزواج والوراثة.. العلمانية لا تحتاج أن يكون لها خانة في البطاقة لأنها ليست دينا أو عقيدة.. ولا تعادي اي دين أو عقيدة.. والأهم أنها واقع..مصر.. كمجتمع ونظام هي دولة علمانية حتي النخاع.. الدين فيها هو دين.. والدولة فيها هي دولة.. والإنسان فيها حر تماما في اختياراته.. يستطيع أن يذهب الي المسجد بحرية... لا أحد يستطيع أن يجبره ولا أحد يمنعه.. ويستطيع أن يتبرك بمساجد أولياء الله ويتمسح في جدرانها.. لا يستطيع أحد أن يمنعه.. ويستطيع أيضا أن يشرب الشيشة ويلعب القهوة بجوار مسجد الحسين والميكروفون يعلن إقامة الصلاة حاضرة.. لا يستطيع أحد أن يجبره عن التوقف.. والذهاب للصلاة..ليس عندنا مطوعين.. مثل بعض البلاد التي يؤدي فيها المصلون الصلاة جماعة في معظم الأحوال دون وضوء ولا نية..المجتمع المصري ومنذ عشرات السنين بل ومئات السنين هو مجتمع علماني بالسليقة والفطرة دون أن يتعب نفسه في تعريفها.. في الريف والحضر... يمارس بتلقائية الاختلاط بين الجنسين والمرأة فيه سافرة في القرية قبل المدينة.. ويمارس بتلقائية شديدة الحرية الدينية قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقبل الدستور.. موسي نبي... عيسي نبي.. محمد نبي.. وكل من له نبي يصلي عليه..تجد في كل قرية أو مدينة مسجدا وكنيسة وقهوة.. من يريد أن يذهب الي أي منهم.. لا يستطيع أحد منعه.. في اي وقت.. الحرية متروكة للإنسان المصري بتلقائية شديدة.. اين يحب أن يتواجد..في مصر.. كانت دائما هناك الموالد الشعبية لمن يعتبرهم الشعب المصري أولياء الله الصالحين.. مسلمين كانوا هؤلاء الأولياء أو مسيحيين.. وفي هذه الموالد.. كان وسيظل المصريون يمارسون الحرية الكاملة.. يصلون ويرقصون ويلعبون الثلاث ورقات.. تمتزج في هذه الموالد أصوات الأدعية الدينية والصلوات.. واصوات الموسيقي والغناء والرقص.. هل هناك حرية دينية وفصل بين الدين والدنيا أكثر من ذلك... في نفس المكان ونفس المناسبة.. التي قد تكون مناسبة دينية او سياسية ..الشعب المصري كله تقريبا.. يحتفل بالمولد النبوي ويحتفل بالكريسماس.. ورأس السنة الميلادية الجديدة.. يحتفل بشم النسيم وهو احتفال فرعوني.. ويحتفل بعيد الغطاس وخاصة في الريف.. مسلمين ومسيحيين..المضحك المبكي.. أن الشعب المصري في الواقع هو شعب علماني حتي النخاع.. ثم نجد من يعتبر العلمانية سبة..والمضحك المبكي أنه كلما كتب أي منا في السياسة والثقافة مطالبا بالحرية وإعمال العقل وتأكيد حقوق الانسان تكالبت عليه جوقة من نصبوا انفسهم متحدثين رسميين باسم الله دون وجه حق متهمين إياه اتهامات ما أنزل الله بها من سلطان ومشككين في دينه ووطنيته رغم أن ما يكتبه ليس له علاقة إطلاقا بأي أصل من أصول الاسلام ولم يحلل فيه حراما ولم يحرم فيه حلالا.. ولكن ما يكتبه قد يمس من قريب أو بعيد مفهوم البعض منا للدين وعلاقته بالسياسة رغم أن هذا المفهوم ليس بالضرورة هو صحيح الدين..

وكل هذا يحدث نتيجة لحالة غريبة تفشت في مجتمعاتنا منذ عقدين أو ثلاثة.. ولم تكن أبدا موجودة في مصر.. أصبحنا نضع فيها يافطة الاسلام عل كل شيء..علي المستوطفات الطبية ومحلات الجزارة بل وبعض المنتجات بعينها، وشركات توظيفالاموال والبنوك وقنوات التليفزيون وبرامجه والأهم الكتب والمجلات والمقالات وشرائط الكاسيت.. لنكسب قلوب العامة الذين يحبون الله والاسلام والرسول.. وهذه الظاهرة هي في الحقيقة لا تسعي لنصرة الاسلام كما يحاول البعض الإيحاء ولكنها في الأساس طمعا في الدنيا ومكاسبها.. وهي ظاهرة مستوردة حديثا..فهذه اليافطة تمنع الانسان العادي من التساؤل عن جودة المنتج والخدمة وهل التعامل المصرفي سليم اقتصاديا أم لا وهل الكتاب او المجله او المقال يحتوي فكرا حقيقيا أم مجرد رص لآيات قرآنية وبعض الاحاديث يستطيع اي طفل في العاشرة من عمره ان يأتي بها من علي الشبكات الاسلامية المنتشرة علي الانترنت أو أي مسلم مهما كانت درجة ثقافته أن يأتي بها من الذاكرة.. والمفاجأة لهم جميعا..لكل من نصبوا أنفسهم امتحدثين رسميين باسم الله واسم الإسلام ... أنهم هم من يريدون أن يضعوا قيدا من حديد علي عقول البشر باسم الدين والثوابت .. وهم فعلا من يؤخرون نهضة هذه الأمة.. وهم من يصبون في النهايه في مصلحة الاستعمار والصهيونية..الحجة الثانية لتكميم افواهنا ومنعنا من التفكير للخروج من نفق التخلف المزمن وهم لا يفقهون أن المشروع الذي ننادي به هو الامل الوحيد للخروج من الهيمنة الاجنبية الي الابد..لأن المشروع الذي ننادي به هو السبيل للأستقلال الحقيقي..الاستقلال الاقتصادي والحضاري.

أما الشيء المضحك المبكي في نفس الوقت فهو اتهام كل من يحاول الدعوة الي الدولة المدنية والي الديمقراطية أنه مؤيد لامريكا واحتلالها للعراق وتأييدها لأسرائيل وهي فريه ومحاولة ساذجة يلجأ اليها كل من لا يملك الحجة.. لا يا سادة ليست هذه الحقيقة.. معظمنا إن لم يكن كلنا ليس مؤيدا لاحتلال أمريكا للعراق وهو معارض لتأييد أمريكا علي طول الخط لإسرائيل.. وهو يدعو الي حل القضية الفلسطينية حلا عادلا ونهائيا يحفظ للشعب الفلسطيني حقوقه العادلة وأهمها حقه في دولته المستقلة القابلة للحياة والازدهار.. اعتمادا علي القرارات الدولية و المبادرات العربية.. ولكننا في نفس الوقت ضد أن تملأ جثث العراقيين الغلابة المقابر الجماعية و ضد أن يتحولوا الي أشلاء بالسيارات المفخخة كما يحدث كل يوم والمصداقية هي أن ندين جميع أنواع الارهاب وخاصة الارهاب الذي تستغله اسرائيل حجة لممارسة أرهابها علينا..

مقاومة حنود الاحتلال هو حق مشروع في كل القوانين الدولية والشرائع السماوية ولا تستطيع حتي أمريكا نفسها إدانته ولكن المقاومة هي لجنود الاحتلال وليس قتل الغلابة من المدنيين وليس قطع رؤوسهم وليس الاعتداء علي وخطف وقتل عمال الإغاثة الدولية والدبلوماسيين وليس قتل الشرطة العراقية المنوط بهم حفظ الأمن وليس بخطف الصحفيين وقتلهم وليس بقتل المدنيين في أي مكان..في العراق أو أفغانستان.. في اسرائيل أو غزة.. في السعودية في الرياض أو مصر في طابا ودهب وشرم الشيخ.. قتل المدنيين هو ارهاب سواء حدث في نيويورك أو مصر.. في بغداد أو تل أبيب.. فهل نعي ما هو الحلال والحرام وما هي المقاومة المشروعة وكيف تكون.. هل نعي ما هي الديمقراطية والليبرالية.. وما هو الدين.. وما هي الدولة.. الفرق بين البشر.. وبين الله.. بين الاسلام وبين من يدعون بدون وجه حق أنهم الممثلين له والمتحدثين الرسميين.. أما المضحك المبكي فعلا فهو اعتبار العلمانية تهمة وخاصة في مصر.. رغم أن مصر هي دولة علمانية حتي النخاع .. لنا الله

عمرو اسماعيل