بعد التوغل التركي في شمال العراق
الكردي المبعثر، العربي المشتت

ترددت وأنا أكتب العنوان، هل أكتب شمال العراق، أم كوردستان العراق؟ وكل مفهوم له دلالاته وشحنته في الحقيقة، سواء عند العرب أو عند الأكراد. في كل مرة حدث، وفي كل مرة نجد أنفسنا نعود إلى البدايات، وللبداية تنحاز الخاتمة عموما، ولكننا يبدو أننا لم نعد نعرف أين هي الخاتمة وأين ستكون وفي أي زمن؟ هذا جانب من تشتتنا، وتبعثرنا، والأطرف من كل هذا أن البداية لم تعد أيضا معروفة بالنسبة لنا؟ هل هي قبل الإسلام أم من بدايات الإسلام؟ من بداية الإمبراطورية العثمانية، أم من بداية الاستعمار الغربي للمنطقة في نهايات القرن التاسع عشر؟ أم منذ احتلال أمريكا للعراق؟ ضاعت البداية، والاجتهادات تبحث عنها، لتؤصلها في الحاضر! وهذا أيضا جزء آخر من تبعثرنا. كل يوم عنف جديد وطاقة مفتوحة على جهنم في كل لحظة من عمر المنطقة. والدم البريء لا يجد مساحة له دوما هنا في هذه المنطقة، لكي يتأصل حضورا، بحيث يوقف نزيفه، ولكن بلا طائل كل المحاولات تذهب عبثا أدراج المكاتب. لهذا سندخل على الحاضر، دون العودة إلى بداية ما، والحاضر في قضية هذا المقال هنا، التوغل التركي المتجدد في شمال العراق. لن أتحدث عن الموقف التركي كثيرا، والسبب بالنسبة لي: أنه من الصعب بل من المستحيل، أن تقبل تركيا بحل سياسي والسلاح موجود بيد حزب العمال الكردستاني. تركيا ليست العراق، مع ذلك الحل الذي تقوم به الحكومة التركية، لا يمكن أيضا أن يكون حلا! وأي تعامل عسكري مع حزب العمال هو خطأ جربته الحكومات التركية المتعاقبة، ولم يؤدي إلى أية نتيجة تحسم الموقف نهائيا. كما أنه بالمقابل حزب العمال الكردستاني لم يستطع أن ينتقل بنضاله إلى حالة سلمية، إلى نضال سلمي- نعتقد أن الوضع الديمقراطي في تركيا يسمح بمثل هذا الأمر- لأن حزب المجتمع الديمقراطي مرخص له وله نواب في البرلمان التركي، ومعروف أنه الجناح السياسي لحزب العمال، ومعروف أيضا أن نوابه وقيادته، يجب أن يوافق عليها الزعيم التاريخي للحزب. أن ندين الحلول العسكرية هذا أمر مفروغ منه، لأنه لا يمكن لحل عسكري أن يغطي على حقوق قومية مضطهدة. إننا نترك خطاب البيانات والشعارات، المتضامن منها والمندد، والذي يقف مع الحكومة التركية أيضا، باعتبار أنها استطاعت أن تغطي اجتياحها لشمال العراق بموقف دولي واضح يساندها. يجب الحديث عن أن قرار حزب العمال بالتخلي عن الخيار العسكري، قرار له مردود لازال حزب العمال غير قادر على دفعه أو القبول فيه حتى، وأول أمر هو أن الحزب يطرح نفسه بديلا عن كل الأحزاب الكردستانية. ولهذا أسس فروع له في الدول الأربعة، سورية وإيران والعراق وإضافة إلى ما يعتبره هو الساحة المركزية والتي يجب توظيف النضال الكردي الأساسي فيها، وهي الساحة التركية، وبحكم أن التواجد الكردي هو أكبر من حيث السكان والمساحة. فكيف سيتخلى عن فروعه هذه التي بدورها لن تقبل بأن يتحول حزب العمال إلى حزب سلمي في تركيا. وهذه معضلة أولى يجب أن يؤشر عليها أحدا ما من كوادر ومثقفي هذا الحزب. من المعروف أن جزء كبيرا من ميزانية الحزب وكوادره تأتي من الساحات غير التركية. إذن الحزب أمام معضلة بحاجة إلى حل، وكنت قد كتبت عن هذا الأمر سابقا. ثم من جهة أخرى هذا التوزع للحزب وطريقة بناءه التي ذكرناها، تفرض بداهة أن هذه الفروع لم تتشكل ويشكلها الحزب لكي يدعم نضاله في تركيا فقط، وإنما تشير بلا مواربة إلى أن الحزب يريد في النهاية إقامة دولته الخاصة في الأجزاء الأربعة. أعتقد أن هذا واضح في منهج الحزب وتكتيكاته السابقة والحالية. هذا أمر يجب إعادة قراءته من جديد. يجب رسم إستراتيجية جديدة للحزب تتماشى مع كرديته التركية، وتعتمد على أكراد تركيا. لأنه سمح بهذا التوزيع بدخول أطراف إقليمية عربية وكردية على خط تحويل وجود الحزب إلى بند في أجندة ربما لا تخدم كثيرا برنامج هذا الحزب، والذي يدرك جيدا أن القيادة الكردية في شمال العراق، لا يمكن لها أن تسلم مفاتيح القضية إلى قيادة حزب العمال. ولكن ربما تستفيد من زخمها. لنكن واضحين حتى نخدم وقف هذا التدهور الذي يصيب في النهاية الشعب الكردي الأعزل. كما أنه ربما نسي وينسى الكثير من مثقفي الكورد، أن ما كان لكثير من الأحزاب الكردية أن تتحول إلى مؤسسات راسخة لولا وجود دعم إقليمي ودولي في السابق. وهو دعم منه عربي ومنه غير عربي. هذا الآن هو في حالة تراجع كبير، والسبب في أن الوضع العراقي بات فيه الكورد سادة أنفسهم، ويشاركون في حكم العراق بلدهم. وليس سرا أن الرئيس الراحل حافظ الأسد هو من أعطى هذا الزخم الكبير للقضية الكردية في تركيا، وهو من وفر الحركة اللوجستية للحزبين في كردستان العراق. ولولا هذه القاعدة اللوجستية، ما كان لحزب العمال أن تكون له هذه القاعدة المادية القوية خارج تركيا وداخلها. كل هذا الوضع تغير الآن، ولكن الحزب لازال محتفظا بأسلوبه وبنفس إستراتيجيته الخطابية والسياسية والعسكرية، وهذا أمر يحتاج كما قلنا إلى حل. من جهة أخرى القيادة التاريخية الكردية في شمال العراق، لم تساهم في دفع حزب العمال إلى هذا التغيير بل، يبدو كما يرى بعض المثقفين الكورد أنها أرادت تواجده ورقة تفاوض مع أنقرة، ومع إيران. أما الطرف العربي الآن، فهو مشتت في مواقفه أكثر مما الطرف الكردي مبعثر، ويتعرض لحملة عسكرية قاسية. لا يمنع أبدا أن نقوم بنقد الحزب وإستراتيجيته كلها، أن نقف أيضا ضد التدخل العسكري، ولا يمنع مطالبة تركيا بحل عادل وديمقراطي للقضية الكردية في تركيا. لكن السؤال يبقى في أن الطرف العربي أيضا غير موحد إزاء الموقف من القضية الكردية، التي انعكس تبعثره على العلاقة بين شعوب المنطقة، وبتنا نرى خطابات سياسية، باتت تضع كل العرب شعوبا وحكومات وأحزاب ومثقفين مهما كان موقفهم في سلة- شوفينية- واحدة. في النهاية رغم رفضنا الكامل لما تقوم به الحكومة التركية، لكن على حزب العمال أن يقوم أيضا بوقفة نقدية حقيقة مع مشروعه السياسي، ورؤيته للقضية الكردية. لا تفيدنا العودة للتواريخ، ولكننا نتمسك بحق الشعوب في أن تنال حقوقها وفق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، بناء عليه، يمكننا الحديث وفق قوانين التطور المتفاوت والمركب، بأن لدينا قضايا كردية ثلاث، لأن في العراق الموضوع بات شبه محلول. ولكل قضية خصوصيتها وتاريخيتها وتستوجب بالتالي تعاملا مختلفا بين ساحة وأخرى. وعلى كل المعنيين العرب في الساحات البقية أن يكون لهم موقفا واضحا من القضية الكردية في كل ساحة.
غسان المفلح