باستثناء عدد محدود من الصادقين مع أنفسهم، تنسجم الجمهرة الغالبة من الأدباء والفنانين العرب مع الحالة السياسية القائمة، لا سيما حين يرتبطون مهنيا بهذه الحالة. وحين تقبل عاصفة كبرى تنسف الوضع القائم عن بكرة أبيه فان هذا لا يعني نهاية العالم للأديب والفنان العربي، حيث سرعان ما يجد له موطئ قدم في الوضع الجديد بمساعدة مهاراته الاستخذائية. الأمثلة كثيرة جدا. في مصر فضح سلامه موسى في كتاب quot;مقالات ممنوعةquot; بعضا ممن كانوا يكيلون المديح للملك والأخير يكيل لهم الترقيات والجوائز حتى إذا ما عصفت الثورة بالملكية استعار هؤلاء لغة الثورة لكي يحافظوا على مستوياتهم الاجتماعية السابقة. سلامه موسى لم يعش ليشهد التحول الثاني لبعض كتاب مصر وفنانيها عندما انقلب السادات على مبادئ الثورة فانقلبوا معه. كذلك في العراق، سوريا، السودان، اليمن وبلدان عربية أخرى كانت الفئة المرفهة من الأدباء والفنانين العرب يبدل افرادها معاطفهم دائماً حسب اتجاه الريح.


حضر هؤلاء في ذهني وأنا أقرأ عن احتفال كاتب الاطفال الروسي سيرجي ميكالكوف بعيد ميلاده الخامس والتسعين يوم 12 آذار هذه السنة، ففكرت بأنه يمكن أن يكون مثلا أعلى لهذه الفئة من فناني وكتاب العربية!


أول كتاب صدر لميكالكوف كان وعمره 15 سنة. وتتالت نجاحاته حين ركب الموجة السائدة آنذاك، فحاز مبكراً على إعجاب ستالين وquot;نشرفquot; بلقاء الأخير في الكريملين. وطوال فترة quot;الواقعية الاشتراكيةquot; المقررة على الأدب الروسي كان هو من الأسماء اللامعة، وشارك في هجمة الدولة ضد quot;شكلانيةquot; بعض المبدعين كالموسيقار شوستاكوفيتش، وكتب الى الأخير رسالة نشرتها الصحافة الرسمية ينصحه فيها بالعودة الى وحدة الحزب والشعب! كان مترفا بالأضواء من حوله في الوقت الذي كان فيه الأحرار من الكتاب والشعراء والفنانين يعدمون وquot;يختفونquot; ويطردون من أعمالهم (ميخائيل بولغاكوف، مؤلف quot;المعلم ومارغريتاquot;، على سبيل المثال الذي انتهى به المطاف بلا عمل بسبب استقلاليته) أو حتى يدفعون الى الانتحار (مايكوفسكي مثلا). وجزاء تملقه ذاك نال جائزة ستالين ثلاث مرات.


وحين تم القضاء على الستالينية لم تكسد تجارة ميكالكوف فقد ألف قصيدة هجاء ضد بوريس باسترناك الذي كان وقتها مُقصى من نعيم الدولة السوفييتية.


وتتالت الرئاسات التي قام سيرجي ميكالكوف بخدمتها: بريجنيف، آندروبوف وتشيرنينكو، سواء بقلمه أو بوظيفته. وخلال هذه السيرة العطرة كان يوصف بأنه كان من السهل أن يحقد على زملائه، الأمر الذي يقف وراء quot;تقاريره السريةquot; ضد العديد منهم مما تسبب في إلقائهم الى المنافي.
في 1985 كان صاحبنا ممن اعتمد عليهم غورباتشوف في البيروسترويكا، وقال أنه انتظرها دهراً طويلاً! وفي التسعينيات، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، تذكّر فجأة بأنه كان من النبلاء، وبأنه كان قد أضاف عبارة الى النشيد الوطني، الذي كلفه ستالين بتأليفه، تمجد الرب. ويبدو أنه نسي أنه هو من كتب النشيد المدرسي الذي يوصي فيه الأطفال بعدم الوقوع في شرك الدين!


اللافت ان صاحبنا لم يمدح بوتين الى الآن. وعندما احتفل بعيد ميلاده الخامس والتسعين يكون قد بدّل ولاءه وأفكاره أربع أو خمس مرات على الأقل.. رقم قياسي ولا شك. فلنرى أي كاتب أو فنان عربي سيحطم هذا الرقم.

سمير طاهر

[email protected]