تمر منه كل الاغاني الهابطة سريعا


عندما كنت صغيرا، كانت جدتي، التي تضع المذياع قريبا منها دائما، تصرخ بي كلما ظهرت اغنية (جبار) : (تعااااااااااال.. هذا المغني يريدك!!)، ولم اكن اعرف من هو هذا المغني الذي يناديني، فلم أأبه بنداءاته ولا نداءات جدتي، واذهب الى ماشئت، وما ان ترعرعت قليلا حتى عرفت من هو صاحب هذه الاغنية وصرت ألبي نداءاته واصغي اليه، وان كنت لا افهم من كلماته الا القليل، وصرت ابحث عنه في الاذاعات والمجلات والصحف واحاول ان اجد كلمات اغانيه التي انتشرت في العراق آنذاك على شكل كتيبات صغيرة، صرت لا اعرف من المطربين سواه، وحفظت اغانيه عن ظهر قلب، وارددها غناء وقتما شئت، وصعدت بي السنوات ليكون وجه عبد الحليم حافظ يطالعني دائما واغانيه تغفو على لساني، كانت اغنية (جبار) المصافحة الاولى لي مع عبد الحليم من تلك النداءات التي تطلقها جدتي، ومع اول حب في حياتي كانت كلمات اغنية(جبار) : (جبار.. في رقته جبار، في قسوته.. جبار) عتابا لطيفا بيني وبين من احب، وتوغل حليم ليكون مطربي المفضل.


ولم اكن الا واحد ا من عدد كبير في العراق يعشقون حليم، يعشقون اغنياته التي لاتخلو اذاعة من بثها يوميا وما تزال تزرع شجيرات الحب في النفوس، التي تزهو وريقاتها بأخضرار لم يعرف الذبول وان نبتت حولها حشائش اغنيات (الفيديو كليب) السريعة الراكضة الراقصة، وما زالت تشير الى زمان الفن الجميل وغناءاته الحسية التي لاتضاهى، ومع كل حلول لذكرى وفاته نستذكره مستمعين الى سيرة حياته واغانيه بأحساس مختلف.


وفي ذكراه الحادية والثلاثين نرانا نتحسر من جديد على غياب اللحن الخالد ونقف بأصغاء الى ذلك النغم الذي يرتله العندليب الاسمر عبد الحليم حافظ (1229-1977)، سيد الغناء التعبيري العربي، فيملؤنا حزنا يظل يكبر امام امتداد عطائه ودفء ادائه وألق الذكرى الذي يوصلنا الى نقاط العاطفة المضيئة، فنغمض عيوننا وتسرح افكارنا في فضاءات الخيال، ومن ثم تستدير راجعة الى تلك الايام والليالي الخوالي التي كان لعبد الحليم حافظ فيها حضور ملتهب وصدى يظل يرن على الدوام في ذاكرة الزمن، وحيث كل شيء يلوح له بالسيادة على قلوب الشباب وعواطفهم وامانيهم.

اراني استعيده كاملا واقول : لقد ارسى عبد الحليم دعائم فن الطرب في التعبير المؤثر الذي يصل الى الوجدان وينبش في ارضه،مبتعدا عن حالات التلاعب في المنقامات الصوتية وما يحيط بها، فقد انشأ الاحساس وراح يلغي ما للاخرين من فنون التطريب العديدة، ووقف عمادا مهما في الاغنية العربية الى جانب العمالقة ام كلثوم وفريد الاطرش، وصار قياسا الى كل صوت يدنو من ساحة الغناء، فتبوأ مركز الصدارة في الاغنية الوجدانية التي تستمد افكارها من عواطف الجيل الذي عاصره والتي نسجها نخبة ممتازة من الشعراء الغنائيين وسواهم، فكان يبعث الصوت بهمس حساس يترنم في الاذن ويشرق في القلب وينثر لهفته في الوجدان والشعور، وانه يرسم الكلمات خافقة.. معبرة عن المكنون والمعاناة الانسانية التي في نفسه ونفس الشباب من ابناء جيله.
نعم.. ان عبد الحليم.. وقف على قدميه مغردا بصوته بمواجهة الجمهور الصعب بفضل حالة التحدي والاصرار على النجاح التي زخرت بها نفسه، فحول الهزيمة الى نصر لاحدود له، فصارت مأساة غنائه الاولى حين رماه الجمهور بالطماطة والبيض الفاسد بعد ان غنى اغنية (صافيني مرة) لاول مرة الى نجاح باهر بعد سنتين،حين عنى الاغنية نفسها ومن المكان نفسه زامام الجمهور ذاته،فذلك الصوت التعبيري الذي حاك خيوطه من دفء احساسه باللحن والكلمة والانسان، فقد اوصل حالته الانسانية بصوته الهامس الرخيم المغرد الذي كان غير كل الاصوات الاخرى التي كانت تعتمد على الصراخ وتلونات الزعيق اللاموسيقية، فراح يبلور المعاناة..، يقدم الحزن واللفرح على طبق الاحساس بلا تصنع وبلا تزويق كلامي او لحني يفجر الملل عند المستمع او بخلق النشاز، فكان صوته رقراقا ينحدر بعذوبة تؤسر المتلقي وتحرك احاسيسه وتفجر في راسه التخيلات المبهرة التي لاتبتعد عن عالم الحقيقة، فبنى لنفسه مقاما حفرته الاجيال التي استمعت اليه في وجدانها، وظلت تكابد عذابات فراقه امام اغنية ترسل في الاثير ادران النحيب واللوعة الزائفة، انه يفتح الموصدات من ابواب الاحساس ويسكن العواطف التي لم تقدر على اخفاء دمعة تطفر من الاثار العميقة الى ترنيمة هادئة.


قالت لي السيدة ابتهال عدنان معدة برامج في اذاعة شهرزاد : : ( حيرة غريبة تأخذ المستمع وهو يتأمــل صوته، ربما يكون مصدره ذلك الغموض العابث الذي يحيط بمصيره، هو ليس فرحاً، ولا تحاصره الكآبة، يتألم ولا يتالم، يلعب صوته دورا في قلوبنا تماما كما في حياته وكأن اصابع القدر أمتدت لتنقش ذكراه على ممر الاجيالواضافت : (من يستمع الى حليم لابد من أن يقف عند ذلك الشعور الجميل الذي يدعو الى الاعجاب والاندهاش... معاً، لكل عشاق الزمن الجميل.. وكأن ارواح هذا الزمن تسكن لياليها وتملؤه بهذا الاحساس)
ما زال حليم يطربني، يحملني على جناحي صوته ويحلق بي الى عالم ساحر جميل،لذلك سألت شابا : هل تستمع الى عبد الحليم؟ فأستغرب سؤالي وقال : كيف لا استمع اليه، ولا اخفي انني استمع اليه يوميا على قناة (روتانا)، اشعر انه مازال حيا ويتجدد كل عام، وكل طوفان الاغاني الحالية والمغنين لم يصلوا الى جزء من احساسه الجميل).


فتعال.. اذن نستمع اليه وهو يصدح بعاطفته للوطن وللشباب، مر على اغانيه المعبرة التي وعت صفحات التاريخ وراحت تنشر احلامها، تعلق وعي الشباب، تعبر عن احساسه، فيغني الاغنية الوطنية بعاطفة يهتز لها قلب المستمع، تحمله الى حقيقة النشوة والى صدق الامنية، فكانت اغانيه الوطنية جسورا الى الناس لم تنكسر، عبر اليهم وعبروا اليه عليها، انه واحد في غنائه، مخلص في ادائه، وحينما قضى.. طلت الرؤوس التي ما طاولته بخجل وكأنها تريد ان تعيد اسطورته ولكنها ما قدرت، مثلما اختفى منافسوه، وليس هنالك ابلغ مما قاله الموسيقار الراحل محمد الموجي بعد رحيل العندليب : ( بعد رحيل عبد الحليم حافظ حدث في الوسط الغنائي شبه حالة توقف للجميع سواء كان هذا من جهة التلحين او الغناء، لانه كان بمثابة الشرارة الاولى التي ينطلق من خلالها كل ابناء الجيل من ملحنين ومطربين وحتى المطربات )، وتلك اغنية (من غير ليه) التي كتبها مرسي جميل عزيز خصيصا لعبد الحليم ولحنها له محمد عبد الوهاب، تزاحم المغنون بالمناكب لغنائها وما نجحوا، اقول لو ان القدر امهله لغنائها لسجلت روعتها على الغناء بخلود.
انه لازال حيا بصوته في النفوس المتدفقة بالشعور والتي تتسع على مر الاجيال، فهو ذلك الصوت المميز وهو ذلك الفنان الذي ترك اثرا واضحا في مسيرة الاغنية العربية لايمكن ان يمحى رغم المعاناة التي يعيشها وحيث الداء الذي استوطنه وبدايته التي سجل عنها (فوق الشوك مشاني زماني)، وهكذا بعد المعاناة الطويلة التي انتهت في لندن يوم (30) اذار / مارس 1977، بوفاته، كان تاريخه من اغنية (لقاء) الى اغنية (حبيبتي من تكون) حافلا بالمجد الغنائي والتمثيلي الذي الغى الكثير من حالات الغناء والطرب في الغناء العربي.
وانا اجيء الى ختام الموضوع توقفت امام عمر عبد الحليم وتخيلت : لو كان حيا الى الان لكان عمره (79) عاما، هل يمكن ان نتخيل حليم بهذا العمر؟ اعتقد انه سيكون شيخ الشباب!!.

عبد الجبار العتابي

بغداد