أثارت الكلمة التي ألقاها الرئيس الليبي العقيد معمر القذافي، والتي أشار فيها إلى الأصول الإيرانية لشعوب الخليج الفارسي، شجوناً كامنة، وموجة عارمة من ردود الأفعال المستنكرة، والمؤيدة لتلك الإشارة quot;الاستفزازيةquot; العابرة. وبغض النظر عن البواعث، والتضمينات المختلفة لتلك الإشارة وتفاعلاتها السياسية والإعلامية، والمواقف المتباينة منها، سلباً أو إيجاباً، فإنها، في الواقع، لا تخلو من حقائق هامة بقدر ما هي مؤلمة وجارحة، وتلامس مسكوتات طال التعتيم عليها ومداراتها.

ويحاول العرب، اليوم، الذين لم تكن لهم أية هوية أو رسالة حضارية ما مؤثرة، عبر التاريخ، بقدر ما كانت هويتهم وسلوكهم مدمراً للكثير من القيم والمفاهيم التي أعطبت عقل الإنسان quot;العربيquot; عبر انشغالاتها السفسطائية الدونية والإشكالية، نقول يحاولون التمظهر بأنهم سليلو حضارات راقية وعظيمة، وبأنهم أنداد حضاريون لحضارات عظيمة وخارقة كاليونانية والفارسية والرومانية والغربية الحديثة. وبأن لهم حضارة وتاريخ مشرف يعول عليه، وكان لهم إسهامات في ما وصلت إليه المدنية الإنسانية الحديثة من رقي وتمدن وشأن عظيم. وتحقيقاً لتلك الغاية يسوقون الكثير من الخرابيط والأوهام والأكاذيب والتلفيقات غير المسنودة لا علمياً ولا مادياً، يؤازرهم في ذلك رهط من الكتبة الذين يحاولون رسم صورة مغايرة لواقع العرب الحضاري وتاريخهم .

ولنعترف بادئ ذي بدء أنه لم تقم حضارة يعول عليها، يوماً، في محيط ما يعرف بشبه الجزيرة العربية على الإطلاق. فلا وجود، البتة، لأية أوابد تاريخية وحضارية في طول الجزيرة العربية وعرضها كما نرى في بلدان أخرى قريبة، كالمسارح الرومانية الرائعة مثلاً، أو حدائق بابل وإهرامات الجيزة، على سبيل المثال لا الحصر، ولم يكن لعجائب الدنيا السبعة The Seven Wonders أي نصيب تاريخياً في أي مكان من جزيرة العرب أو حضارتهم التي يطنطنون بها ليل نهار، وبمناسبة أو من غير مناسبة. وهذا ما ينسف أية فكرة عن وجود أي شكل من أشكال الحضارة هناك. للحقيقة والتاريخ، نقول، ربما كانت هناك أنماط متفرقة من أنشطة سكانية رعوية وقبلية وتبادلات مشاعية وبدائية مختلفة وبسيطة، غير أنها لم ترتق يوماً لتكوّن نواة لتشكل حضاري إنساني شامل بالمفهوم الحرفي للكلمة. وعندما قامت ما يسمى بالحضارة الإسلامية فلقد كانت، تماماً، خارج حدود تلك البيئة الصحراوية القاحلة غير الصالحة، حتى اليوم، للحياة البشرية. وظهر العرب دائماً، قديماً وحديثاً، كأقوام متناحرة ومشتتة ولا رابط يربط بينها، وخارج كل السياقات التاريخية المتعارف عليها، وعن التفاعل الحضاري الإيجابي السليم.

ولو نظرنا إلى الضفة الأخرى من الخليج الفارسي، بلاد فارس قديماً، وتحديداً إلى ما يسمى اليوم بإيران، لوجدنا أن سبل الحضارة لم تنقطع يوماً عن هذه الأرض وتمتد الحضارة الفارسية لأكثر من ألفي عام وكانت تسمى بعرش الطاووس وكان الشاه محمد رضا بهلوي آخر أباطرته الذي أطاح به الإمام آية الله روح الله الموسوي الخميني ذات صبيحة من شباط فبراير 1979 قدمت خلاله هذه الحضارة للبشرية معالم حضارية وتراث أدبي وفني وموسيقى سيبقى على مر الزمان. وما انفكت الحضارة عنها يوماً، لا بل كانت تمد وتهب ما سمي بالحضارة العربية بكل أسباب القوة والبقاء من علماء وفكر وفلسفة. فقد كان علماؤها وفلاسفتها وحتى أئمتها ورواة أحاديثها ومفسريها ونابغة العربية الأكبر سيبويه مثلاً، هم العصب والعمود الفقري لما أطلق عليه زوراً وبهتاناً وديماغوجياً بالحضارة العربية.

وتثار اليوم معركة حامية الوطيس لنسبة ذاك الممر أو الخليج المائي الذي يفصل إيران عن شبه الجزيرة العربية Arab Peninsula. وحلاً لذاك الخلاف والإشكالية يقترح بعض المتفائلين والطوباويين تسميته بالخليج الإسلامي، كحل وسط وتصالحي يصب في مصلحة العرب، بكل ما فيه من ظلم وإجحاف ونكران تاريخي وهروبا من استحقاق حضاري وجغرافي. فلو أخذنا التركيبة السكانية، مثلاً، كأحد عوامل الاستنساب المنطقية تلك لرجحت، وبكل أسف، الكفة لصالح quot;المجوس الفرسquot; أو ما يسموا بالإيرانيين في القاموس السياسي الحديث، حتى ولو كانت هذه النتيجة مصدر خيبة أمل لكل العروبيين. فـquot;الفرسquot; يذرعون ضفتي الخليج تاريخياً بالسكان وهم وراء ازدهاره التاريخي. وهم عماد ما يسمى بالنهضة العمرانية والتجارية الخليجية، التي تقوم اليوم، وتحديداً على أيدي الهنود والباكستانيين والإيرانيين، وبقية الجنسيات، ويقتصر فيها دور العنصر العربي على احتلال المناصب الشكلية الرفيعة وشغر الواجهات الإعلامية والظهور أمام الكاميرات فيما الشارع الحقيقي كله غير عربي. وباتت هذه التركيبة السكانية تنذر بالكثير من عوامل الانفجار الاجتماعي والديمغرافي في تلك البلدان، ولا يشكل quot;العربquot; إلا ما مجموعة 15% من عدد السكان في بعض الدول الخليجية حسب إحصائيات رسمية ومعتمدة، وأصبح العنصر quot;العربيquot; عنصراً أقلاوياً يعاني الغربة والفراغ والتهميش الاجتماعي، وليس ببعيد ذاك اليوم الذي ستفرض القوانين، ومن أصدقاء الخليجيين بالذات، والتي تصب في صالح توطين الجيل الثالث أو الرابع من أولئك المهاجرين الإيرانيين والهنود والباكستانيين وغيرهم.

ولو قارنا اليوم وضع بلاد فارس، quot;إيرانquot;، مع وضع الدول الخليجية سياسياً، فلن تكون النتيجة إلا أكثر خيبة للعروبيين ومن الراقصين على أنغام عروبتهم . فإيران استغلت ثروتها وإمكانياتها لتصبح دولة قوية في النادي النووي الدولي وتقارع أمريكا وأوروبا، وتهيمن إيران على سياسات المنطقة، ولها نفوذ واسع على الأقليات الشيعية المضطهدة والمهمّشة في الدول الخليجية. وهذا ما حدا بالرئيس مبارك لإطلاق تصريجه الشهير عن ميول الشيعة العرب لإيران، والتحذير الأكثر خطورة عن تبلور هلال شيعي الذي أطلقه الملك عبد الله الثاني وضرورة التصدي له. وصواريخ وأساطيل وقوة إيران في quot;الخليج الفارسيquot;، وعذراً لدقة المصطلحquot;، ليست معادلة أو رقماً سهلاً يمكن تجاوزه من أي متابع استراتيجي.

ويستعمل الإعلام والخطاب الغربي ومنظريه وكتابه وأدبياته، رسمياً، وعفوياً، لفظة الخليج الفارسي The Persian Gulf للإشارة أو حين التحدث عن هذا الموضع الجغرافي دون اعتبار لما يتركه ذلك من سخط ومضض وإحراج في نفوس quot;عرب الخليجquot;. وقد سمعت بإذني هاتين، اللتين ثقبتهما فتاوى شيوخ الإسلام المجاهدين كوندي ورايس ورامسفيلد وبوش وريغان وكلينتون وبلير وشميدت وثاتشر وغيرهم كثيرين من عتاة الغربيين وأحباب العروبيين، وهم يطلقون عليه اسم الخليج الفارسي في تصريحات صحفية وأحياناً، غير آبهين، بوجود مسؤولين عرب وخليجيين.

وبالعودة إلى تصريحات القذافي المثيرة وquot;الاستفزازيةquot; طبقاً للخليجيين، إذ يمكن، عندها، إطلاق أية تسمية أخرى على هذا الخليج كالخليج الهندي، أو الباكستاني، أو الأمريكي، وربما الفارسي أو الإيراني وهو المرجح والأصح تاريخياً ومنطقياً، فأما العربي فلا وألف لا. ولأن في إطلاق تسمية الخليج العربي، في واقع الحال، الكثير من الغبن والتجني، والقفز فوق حقائق الجغرافيا والمنطق والتاريخ.

نضال نعيسة
[email protected]