ليس هناك من عراق أخر ينهل منه العراقيون ويحصل من فاته الوليمة على مايشتهي. هناك عراق واحد بحدود جغرافية محدودة ناقصاً تلك النتؤات التي باعها صدام تخلصاً من مشاكل سببها هو للعراق وللمنطقة. هناك عراق واحد فقط بالامكانيات التي يزخر به وبالمعوقات التي تعتري طريق تقدمه. هناك عراق واحد لاغير بعمقه الحضاري والنكبات التي تعرض لها خلال العهود المختلفة جراء الغزوات والاحتلالات ومعارك (التحرير) وماأكثرها. وحده هذا (العراق) يمثل كفاية العراقيين وكيانهم المعترف به وساحتهم في النجاح والفشل.


وعلى هذا (العراق) فليتصالح العراقيون وهو مالم يفعلوه الى الان أو يتقاتلوا كعهدهم منذ تأسيس الدولة الحديثة.
توفر لهذا العراق بعراقييه فرصة نادرة لاعادة صياغة التشكيلة بما يؤمن قاعدة متينة للاستمرار الى أجال بعيدة بعمر الحياة في الدنيا الفانية. بدا لحين أقرار الدستور وكأن هذه الصياغة قد أكتملت وهذه القاعدة قد تصلبت.. ولكن التأكلات المتتالية على أمتداد قصة الدولة العراقية الحديثة أصابت قاعدة العراق الذي شرع فيه حمورابي أول قانون لتنظيم العلائق بين الجماعة، بالرخاوة والهوان ماجعل الدستور نفسه بحاجة الى دستور أخر يحميه من الذين جعلوه بقرة حلوب تدر عليهم الخيرات ومن الذين أعتبروه شاهد زور على ترتيبات حدثت في غفلة من مشاركتهم. ولايحتاج المتابع الى الكثير من المعاناة والبحث ليكتشف ان كل الموضوعات المختلف عليها بين المجموعات السياسية وفي مطبخ التعديلات الدستورية هي نفس الموضوعات التي تشكل جوهر المعضلة العراقية:السلطة، الارض، الثروة. ولمن يحب قراءة اليوم من الزمن العراقي بمنظار التأريخ (الامس) فأنه سيصادف الثالوث نفسه على القارعة. ولمن تستهويه لعبة البراغماتية التي جاءت مع قوات جون أبي زيد ولايريد الاستغراق في التأريخ (كما قالت كونداليزا رايس للكركوكين في زيارتها العاجلة الى المدينة) فأنه مطالب بفك العقد الثلاث بطريقة براغماتية كما يشاء. ومن يريد موعداً مع المستقبل فأن عليه أن لايغفل الثغور الخفية الثلاث التي تصادف مسيرته كى لا يلاقي مصير الجيش الذي يزحف نحو العاصمة فيما نتوءات الاقاليم تشكل قوة أرتداد قوية أن أجتمعت من جديد.
ليس هناك من عراق أخر يتم فيه حسم الثالوث المعضلة، على حسابه. هناك هذا العراق الذي ورثناه بحدوده الحالية التي تظهر في كتبنا المدرسية و على الكبار في البلد و الفقهاء في مطبخ التعديلات أن يصفوا حلولا مركبة تأتي على مقاس الوطن (لا أفراط فيه ولاتفريط). كفانا مكابرة في مواجهه الحقيقة العراقية. فلايجب أن نخجل من القول أننا عدنا الى المربع الاول في العملية السياسية،بل في صناعة الكيان نفسه، فالعيب في الهرب من المعضلة وليس الاقرار بها كمقدمة للبحث عن منفذ الخلاص. ولمن لايقر بهذا التشخيص عليه أن يسمي عناوين الموضوعات المختلف عليها كي نصنفها له على الحقول الثلاث.


أو ليس المأزق في المشاركة السنية هو حجم السلطة و المشاركة في صناعة القرار؟ ماذا يريد الكرد في حسم مسألة كركوك سوى تحديد حدود الارض الكردستانية ضمن الكيان العراقي؟ وماذا تعني دعوة الشيعة الى أقليم الوسط والجنوب سوى حسم بعبع السلطة المركزية عن طريق تفتيته ودمقرطته فدراليا؟ والامر نفسه ينطبق على أدراج الصراع حول العقود النفطية بين بغداد وأقليم كردستان في حقل الثروة. وللتذكير فأن هذا الثالوث كان حاضراً خلف الستار في الصراع البرلماني على أقرار الميزانية، الانتخابات المحلية، قانون المساءلة والعدالة والعفو العام. ماأضطر البرلمان الى حسمه برزمة تصويت واحدة.


ولاضير في معارك النفوذ بين العراقيين سوى أن يبقى هذا التصارع في دهاليز السياسة ولا ينتقل مرة أخرى الى الشارع ليخلق كانتونات فدرالية محلية على أساس الفرز الطائفي. بدلا من الفدراليات المعتبرة على أساس الدستور وأن يدرك العراقيين أن أدارة التصارع في الحقول الثلاث ينبغي أن يكون بأدوات السياسة وفي العراق نفسه. ففيه حصتنا جميعاً. ومن يبحث عن حصة فقدت منه فليبحث جيداً عند أخيه لعله أخذها مع ماأخذ من حصته ولايبحث عند الجيران فحصتهم هم أيضاً محدودة لاتكفي أطراف المتصارعين عندهم. فحين تبغي منح وزارات أخرى للسنة فليس هناك من بلد عربي سني مستعد أن يمنحنا من حصته في كابينة بلاده. ولكي تمنح وزارة للمسيحيين أو التركمان فعليك أن تحجب واحدة عن الكرد. فلا لبنان مستعدة أن تعطي من حصة مسيحيها ولا تركيا التي تخلت عن تفردها ونفوذها في الحوزة السوفيتية ndash;التركية عن طيب خاطر تمنح شيئاً للتركمان. ولكي ترضي الكرد في المادة (140) فأنك مضطر أن تراعي الشيعة في الحدود الادارية لكربلاء والنجف وكي تفعل ذلك فأنك مطالب أن تعوض غبن الانبار بالتعاطي البناء مع مجلس صحوتها وليس بأقتراض الارض من الجوار. ولاعزاء لشيعة أهل البيت في الظلم التأريخي الذى تعرضوا له سوى فتح أفاق المستقبل العراقي أمامهم وهو مايتماشى مع تأريخهم المشرف و وطنيتهم الوثابة.


أذا هو صراع السلطة والثروة والارض في أطار (العراق) وحده والتأقلم مع هذا هو دعوة للمعالجة وليس رغبة في التذاكي أو التشفي. هو دعوة للشراكة وليس للاحتكار. ومع الاسف فأن خطاب النخبة العراقية على أختلاف الاطياف تتحاشى الاشارة الى هذا الثالوث رغم أرتباطه ب (ثالوثين) أخرين أحدهما يأتي ذكره في الخطاب الاعلامي المباشر وهو ثالوث أبطال هذا الصراع نفسه (السنة، الشيعة والكرد) وألاخر حاضر بقوة في التفسيرات التي تقدم للحالة العراقية (عراق الماضي، عراق الحاضر وعراق المستقبل) وهذا ماعنينا به القراءات بمنظار الامس واليوم والغد.


فهناك من يشدد على ماضي العراق ألازلي الذي لايأتيه الباطل من خلفه ومن أمامه. (وطناً أزلياً غير قابل للتغيير في مواجهة كل العاتيات) وهناك (عراق الحاضر) الذي ينظر اليه جمع من العراقيين كمحطة نحو أفاق لكيانات أخرى تشطب عملياً الخصوصية العراقية.


ربما يظن البعض أنني أقصد بهذا الجمع القوميين الكرد المتهميين دوماً بالعمل على تقسيم العراق والاستقلال بأقليمهم. لا! لا أقصد القوميين الكرد الذين يأتون في ذيل قائمة طويلة من الراغببن في جعل العراق محطة لكيان قومي أو أسلامي أو عالمي أكبر. وهؤلاء الجمع ينظرون الى كل التركيبات الحالية للحالة العراقية وكأنه أسباب العدة لأستراحة محارب سرعان ماينطلق من جديد لخوض معارك عروبة العراق أو أسلاميته أو حتى امميته بحسب التعبير اليساري. رغم أن التيار اليساري قدم في العهود الماضية جهداً متميزاً في الوطنية العراقية نحن ألان أحوج مانكون اليه: وطنية عراقية تحتضن الهم الكردستاني.


وهناك (عراق المستقبل) الذي يبدو أن الطريق اليه مازال محفوفاً بالمخاطر طالما أن أدواتنا في العمل تفتقر الى الكفاية والمنعة التي نحتاج اليهما في الصراع.


والسؤال الذي يجب أن نعمل من أجل الحصول على أجابته هو: هل نعتبر نحن العراقيين، كل العراقيين، العراق وطناً دائماً لنا ونعمل على التصدي لثالوث الصراع وفقا لهذا التصور.أم نظل أسرى الماضي المجيد والحاضر الذي نتحاشى فيه مواجهة الاستحقاقات الوطنية؟ وطبعاً دون هذا لا مستقبل نذهب اليه.
أن العراق قديم قدم الحضارة البشرية ولكن ليس الى درجة (الازلية) التي تحميه من مواجهة أشكالات (الهوية). عظمة الاولوية التأريخية لقانون حمورابي ليست غطاءاً كافياً لحل الاشكالات الدستورية و لاتنفع في التغطية على دورات العنف والابادة والتطهير العرقي في مسيرة العراق الحديث. كما أن مشكلاته في اليوم ليس مسوغا كافياً لتقسيمه من قبل من يرغب فيه. والاشكال العراقي لمن يرغب في خوض مغامرة المستقبل هو مدعاة للعمل والمثابرة نحو (وطن دائم) نحن معنيون بجعله وطناً ازلياً برسم أزلية الحياة على البسيطة طالما لم نكابر في مواجهة واقعه. والبداية لكل هذا الجهد أن نكف عن أحتكار الوطنية وجعله حكراً على هذا الطيف دون غيره. ولانني أكتب بالعربية فخطابي موجه الى الشركاء العرب في الوطن quot;بأعتبار أنني أتكفل ببني جلدتي بمخاطبتهم كردياًquot;: لا مستقبل لاحتكار الوطنية بل ولا خير في وطنية عراقية لاتحمل في ثناياها مكاناً للهم الكردستاني.
ولاقلها بصراحة لانجد في معظم الخطاب العراقي الحالي وعداً يغري بالتواصل. والاستثناء الوحيد هو مارود في الدستور الذي يحاول الكرد أبقاءه كما هو منعاً للردة والارتجاع. وفي هذا المجال يبدو وكأننا بحاجة الى تعديل برامج الاحزاب والتيارات العراقية قبل الحاجة الى تعديل الدستور. نحن بحاجة الى لجنة لتطوير الادبيات السياسية العراقية ليكون بمستوى المعضلات العراقية.


ليست العلة في (العراق) بكيانه الحالي بأعتباره مركبا من جزء من وطن الكرد وجزء من (الوطن العربي). فألى جانب الاوطان التى تتحد فيها الجغرافيا مع التأريخ هناك أوطان حديثة ومصطنعة ولكنها تتطلع الى المستقبل بزخم الاوطان التي تلتفت الى الوراء لانها أسيرة ماضيها العريق،ولكن العلة في أفتقارنا الى الخيال، العلة في أفتقارنا الى ارادة أبتكار الحلول المركبة التي تجمع مابين الهوية الوطنية الشاملة والخصوصيات الفرعية.

ستران عبدالله

كاتب وصحفي من كردستان