يتناسى الشيوعيون دائما أن السياسة علم بورجوازي يضطر الشيوعيون لاستخدامه لأنه السلاح الوحيد المتاح في صراعهم ضد الطبقات المعادية، مثلها مثل النقود إذ يستخدمها الشيوعيون أيضاً مضطرين كوسيلة وحيدة لتوفير مستلزمات الحياة في المجتمعات ما قبل الشيوعية. خطورة سلاح السياسة تكمن في الغواية، فيغوي الشيوعي إلى استخدامه في كل آن وحيث لا يستوجب. فلولا غواية عامة الشيوعيين في العمل السياسي لما quot; غويت quot; أنا أيضاً وكتبت هذا عن غوايتهم. كنت حذّرت كل الماركسيين والشيوعيين من أن يغويهم العمل السياسي بعد انهيار مشروع لينين من جهة والنظام الرأسمالي العالمي من جهة أخرى في سبعينيات القرن الماضي، يغويهم فلا يتوقفوا تماماً عن الانهماك في السياسة. فالسياسة هي تحديداً أدب الصراع الطبقي. ولمّا لم يعد الشيوعيون يتعرّفون على عدوهم الطبقي بعد انهيار النظام الرأسمالي، فذلك يقضي بأن يتوقفوا عن العمل السياسي ويحاذروا من أن تغالبهم قوة الاندفاع فيه بعد أن ظلوا طوعاً لها لعمر طويل. مثل هذه الغواية في السياسة تنقلهم بغير وعي منهم إلى جبهات معادية للشيوعية هي غالباً ما تكون جبهة الطبقة الوسطى، طبقة البورجوازية الوضيعة، فيغدو واحدهم معادياً حقاً للشيوعية وما زال في ذهنه أنه الشيوعي الحق. أحزاب كثيرة ما زالت تحمل اسم الشيوعية تحولت إلى أحزاب معادية للشيوعية دون أن تعي ذلك بل وترفض أن تعي حتى وبمواجهة الأدلة القاطعة.

يمر العالم اليوم في مفصل طارئ على المسار العريض للتاريخ حيث انهار النظام الرأسمالي لكن ليس لصالح الثورة الإشتراكية كما كان قد توقع ماركس وإنجلز ولينين بل لصالح quot; نظام quot; هو اللانظام بعينه، نظام يفتقر لأول شروط النظام وهو الديمومة والاستمرارية. فكيما يستمر النظام الإجتماعي ويدوم لآجال طويلة لا بد أن يقوم على دائرة إنتاجية تنتج أكثر مما تستهلك وهو الشرط الذي لا غنى عنه لأي تطور اجتماعي بغض النظر عن هويته ومهما كانت علاقات الإنتاج فيه، وبخلاف ذلك تسارع المجتمعات متراجعة إلى الخلف كما حالها في عصر الإقتصاد الإستهلاكي القائم حالياً. من الحقائق القاطعة اليوم أن العالم المتقدم الذي يرسم العلاقات الدولية ويتحكم بها (أميركا الشمالية وأوروبا الغربية) يستهلك أكثر مما ينتج بكثير. وإزاء مثل هذه الحقيقة الدامغة لا يجوز بحال من الأحوال الإدعاء بأن النظام الاقتصادي في هذا الجزء من العالم، عالم الدول السبع الأغنى، (G 7)، هو نظام رأسمالي وإمبريالي؛ فالسمة المميزة للنظام الرأسمالي هي أنه أكثر النظم الإقتصادية إنتاجاً وأقلها استهلاكاً قياساً بأنظمة الإنتاج الأخرى ـ الإشتراكية والشيوعية ليستا من نظم الإنتاج ـ ولذلك وصفه ماركس بأنه أكثر النظم الاجتماعية استغلالاً. الدول السبع الأغنى المشار إليها كانت جميعها قبل العام 1975 تصدر البضائع ورؤوس الأموال عكس حالتها اليوم فهي أكثر الدول استيراداً للبضائع ورؤوس الأموال. إن أهم عمل يقوم به الماركسيون والشيوعيون اليوم هو أن يقنعوا أنفسهم، قبل كل شيء آخر، بأن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا بشكل خاص لم تعد دولاً رأسمالية وبالتالي إمبريالية كما اعتادوا رؤيتها. هذه حقيقة في منتهى الأهمية إذ بدونها لن يترسّم الشيوعيون الخط الشيوعي الصحيح. عليهم اليوم أن يبحثوا عن التناقض الطارئ البديل الذي يلعب الدور الرئيس على المسرح العالمي.

كان لدى الشيوعيين مشروع للثورة الإشتراكية العالمية هو مشروع لينين الذي تجسد بالإتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي. فكان أن واجهوا بكل قواهم الأعداء الألداء لمشروعهم وأهمهم كانت الدول الأربع المذكورة آنفاً كونها دولاً رأسمالية إمبريالية. اليوم لم يعد هناك اتحاد سوفياتي ولا معسكر اشتراكي ولا حتى ثورة اشتراكية، كما لم يعد هناك بالمقابل أيضاً معسكر رأسمالي إمبريالي يقاوم الثورة الإشتراكية، فأي سياسة تلك التي على الشيوعيين أن يتبنوها اليوم؟! على الماركسيين والشيوعيين أن يمتنعوا حالاً عن العمل في السياسة حتى يتبيّنوا بصورة قاطعة الخيط الأبيض من الخيط الأسود، حتى يتعرفوا على عدوهم الطبقي الجديد ويحددوه بدقة متناهية. إن أهم ما جاء به quot; البيان الشيوعي quot; (Manifesto) في منتصف القرن التاسع عشر هو تحديد التناقض الرئيس في المجتمع الرأسمالي والذي تجلّى في الصراع ما بين الرأسماليين مالكي أدوات الإنتاج من جهة، والبروليتاريا من جهة أخرى التي تنتج بطريقة النمط الجمعي للإنتاج الذي لا يتفق مع الملكية الفردية الرأسمالية لأدوات الإنتاج وهو النمط الوحيد الذي لن يضاهيه أي نمط آخر حتى في المستقبل البعيد من حيث توفير سعة العيش والرخاء للبشرية جمعاء في مجتمع شيوعي، وهي البروليتاريا التي كرّس الشابان العبقريان كارل ماركس وفردريك إنجلز حياتهما من أجل تحريرها والدفاع عنها ووجها نداءهما الشهير.. quot; يا عمال العالم اتحدوا فليس لكم ما تفقدون إلا أغلالكم! quot; ـ التناقض الرئيس البديل الجديد كما أراه بكل جلاء ووضوح هو اليوم ليس بين الرأسماليين والعمال كما كان الحال منذ 1775 وحتى 1975 حين صدر إعلان رامبوييه (Declaration Of Rambouillet) ينعي النظام الرأسمالي، بل بين منتجي الخدمات من الطبقة الوسطى من جهة والبروليتاريا من جهة أخرى، بين ما يسمى خداعاً باقتصاد المعرفة (Knowledge Economy) من جهة واقتصاد العمل (Labour Economy) من جهة أخرى، حيث يجري التبادل الحيوي بينهما بصورة جائرة تستنزف اقتصاد العمل والعمال بصورة وحشية.

مع بداية ازدهار ما يسمى مجازا بالإقتصاد الإستهلاكي (Consumerism)، تبعاً لإعلان رامبوييه وتورّم الطبقة الوسطى في مراكز الرأسمالية الكلاسيكية في العالم، أخذت الصناعات الكبيرة في هذه المراكز تهاجر إلى الأطراف فيما يسمى بظاهرة العولمة فانعكس ذلك في إنكماش حاد لطبقة البروليتاريا في البلدان المتقدمة وهو ما غيّب شبح الثورة الإشتراكية عن الآفاق المنظورة لهذه البلدان وبالتالي في العالم كله. مع غياب شبح الثورة الإشتراكية من مختلف البلدان المتطورة تغيب بالضرورة آفاق العمل الشيوعي وفق الطراز الذي عرفناه عن ماركس وإنجلز ولينين.

إزّاء مثل هذا الغياب ترتّب على كافة الأحزاب الشيوعية القائمة حتى اليوم، والتي كانت قد قامت أصلاً تلبية لنداء الأممية الثالثة استكمالاً لمشروع لينين الذي لم يعد موجوداً ليتم استكماله، ترتب عليها أن تختار واحداً من ثلاث خيارات محددة: الخيار الأول وهو أن تحل نفسها وتتقاعد كوادرها مستنكفة من كل عمل سياسي؛ والخيار الثاني هو استبدال العمل الشيوعي بالعمل الوطني، ليس من أجل الوطن أو الشعب، بل من أجل عدم تقاعدها واستمرارها في امتهان العمل السياسي؛ أما الخيار الثالث فهو حل الحزب من أجل أن ينتظم الشيوعيون الذين يحافظون على التراث الماركسي اللينيني من كل الأطياف في فدرالية تأخذ على كاهلها كتابة بيان شيوعي جديد يحدد مسار وهوية الصراع الطبقي وفق شروط الإنتاج الجديدة. الشيوعيون الذين يدفنون رؤوسهم في الرمال اليوم كيلا يعترفوا بأن إنتاج الخدمات، الطاغي اليوم في العالم كله باستثناء شرق آسيا، ليس له أدنى علاقة بنمط الإنتاج الرأسمالي، هؤلاء الشيوعيون لا يستحقون على الإطلاق شرف الإنتساب إلى ماركس.

ما نود أن نبحث فيه في هذه المقالة المقتضبة هو الخيار الثاني وذلك لأن كافة الأحزاب الشيوعية تقريباً قد اختارته مستبدلة العمل الشيوعي بالعمل quot; الوطني quot; وقد غشتها رائحة مصطنعة لكعكة حلوة لذيذة، وما كانت لتغشها لو لم يكن عامة القادة في هذه الأحزاب من أصول بورجوازية وضيعة لديهم رغبة خفيّة في تذوّق الكعك.

حتى ستينيات القرن الماضي ظلت القضية الفلسطينية هي قضية العرب المركزية في العمل الوطني وما ذلك إلا لأن الإمبريالية، حال اجتياح جيوشها المشرق العربي لدى نهاية الحرب العالمية الأولى، قد اصطدمت بالمشروع القومي للبورجوازية الشامية المعروف باسمrdquo; المملكة العربية المتحدة ldquo;، مشروع الشريف حسين، فعمدت إلى اتخاذ إجراءات مختلفة أهمها إقامة كيان للصهيونية يلعب دور قاعدة متقدمة للإمبريالية لمواجهة المشروع القومي. شعوب المشرق العربي وشعب مصر فيما بعد واجهت الإمبريالية خلال نصف قرن طويل 1917 ـ 1967 تحت راية القضية الفلسطينية. بعد انهيار ثورة التحرر الوطني في السبعينيات، بسبب الردة السوفياتية وانكشاف حركة التحرر الوطني تبعاً لذلك، تحولت القضية الفلسطينية إلى نزاع على أراضي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية ولم تعد تجتذب الجمهور السياسي إلى مداراتها. لكل ذلك، ترتب على الأحزاب الوطنية أن تطوي راياتها وتعود لتستقر ساكنة وادعة في بيوتها. لكنها عوضاً عن ذلك، وقد قيّض لها القدر بديلاً عن القضية التي لم تعد مركزية ألا وهو quot; احتلال العراق quot; وخاصة أن المحتل هو الولايات المتحدة الأميركية الحليف الاستراتيجي لإسرائيل، راحت هذه الأحزاب، من باب الغواية في السياسة، تتاجر بالقضية العراقية. وهنا تستحق حكمة كارل ماركس إذ يعود التاريخ بصورة هزلية. بقدر ما كانت القضية الفلسطينية قضية حقيقية تتمركز فيها حركة التحرر الوطني، فإن القضية العراقية هي قضية مصطنعة جوفاء لا يمكن أن تستدعي إلى مداراتها أية قوى شعبية، ولن يفلح نفر محسوب على الشيوعية أو على القومية في استدعاء مثل هذه القوى. لن يستدعي هذا النفر سوى الإرهابيين المتأسلمين من الذين يحلمون بحوريات الجنة كما يقص إسلامهم.

ثمة حقائق كثيرة لا تحتمل الإشتباه تفقأ عيون الداعين إلى تحرير العراق وتكذب دعاواهم. أولى هذه الحقائق هي أن الشعب العراقي ولأول مرة في التاريخ يتنفس الهواء النقي ملء رئتيه ويشارك في انتخابات حرة ونزيهة لممثليه في المجلس التشريعي بحماية الحراب الأميركية رغم كل التهديدات بالقتل والتفجير من قبل الإرهابيين الذين يجهدون في تلويث هواء العراق بالدم ودخان المتفجرات. وليس أدل على ذلك من أن الأغلبية البرلمانية تشكلت من أحزاب إسلاموية صديقة للنظام الإيراني الذي هو العدو الشرير رقم واحد للولايات المتحدة الأميركية ـ لم يترك الطاغية في العراق أية قوى ديموقراطية أو ليبرالية يفضلها الأمريكان. كما أن أول هيئة سلطوية شكلها الأمريكان حال احتلال العراق كان مجلس الحكم وقد تمثلت فيه جميع القوى السياسية المتواجدة في العراق ومنها الشيوعيون وقد تمثلوا بعضو واحد من مجموع 24 عضواً رغم أن نسبة تمثيلهم من الشعب العراقي هي أقل من واحد بالمئة. كل الوزارات التي تشكلت في ظل الإحتلال الأميركي ضمت وزيراً شيوعياً، بل إن وزارة الثقافة بعهد الحاكم المدني بول بريمر كانت الوزارة الأولى التي منحت حق اتخاذ القرارات دون الرجوع إلى الحاكم الأمريكي وكان وزيرها شيوعياً. وهنا لا بد من استذكار توزير الشيوعية الدكتورة نزيهة الدليمي عام 1959 من قبل عبد الكريم قاسم وكيف احتفل الشيوعيون بذلك التوزير باعتباره النقاء الثوري للسلطة ـ وهو لم يكن كذلك ـ مع أنهم كانوا يشكلون القوى الجماهيرية الأولى في العراق. فلماذا الكيل بمكيالين؟! لأول مرة في تاريخ العراق الحديث عرف الشعب العراقي من هو الأمين العام للحزب الشيوعي العراقي وأعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية، كل ذلك وفقط تحت quot; الإحتلال quot; الأميركي! ـ يتواقح بعضهم ويدعي أن الشيوعيين قد أصبحوا في العراق من عملاء الإمبريالية رغم أنهم رأوا بأم أعينهم الشيوعيين ينظمون مظاهرة كبرى في بغداد، أمام فندق فلسطين، بعد ساعات قليلة من احتلال بغداد، تطالب بخروج المحتلين من العراق.

الحقيقة الأولى التي تتحدى كل القوّالين بالتحرير من الإحتلال وبالعدو الإمبريالي وما إلى ذلك من مثل هذه التخرّصات هي أن يثبت هؤلاء القوّالون صدق تخرصاتهم. هل بوسعهم أن يجيبوا على السؤال المحوري بخصوص الأهداف الأميركية من احتلال العراق؟ ما الذي جاء بالأمريكان لاحتلال العراق؟ معظم القوّالين يقولون البترول هو السبب، لكن الوقائع تكذّبهم فالولايات المتحدة الأميركية أخذت تعاني من أزمة الوقود بعد احتلالها للعراق مباشرة وظهرت طوابير المركبات أمام محطات الوقود صفوفاً طويلة وقد تعالى صياح ركابها يشتمون الرئيس الأمريكي وحربه على العراق. كما أن فاتورة النفط اليومية للولايات المتحدة أخذت تشكل عبئاً ثقيلاً غير قادر ميزان المدفوعات الأميركي على احتماله، إذ تضاعفت قيمتها أربع مرات فبدل أن كانت حوالي نصف مليار دولاراً يومياً قبل احتلال العراق هي اليوم مليارين وهو ما حدا بنائب الرئيس الأميركي أن يتوجه مؤخراً بالرجاء الحار للملك السعودي للمساعدة في خفض أسعار النفط. ثم ألم يعتبر هؤلاء القوّالون أن كل نفط الجزيرة العربية كان تحت أيدي الأمريكان بعد حرب الخليج الثانية؟ لئن كان الأمر كذلك فما حاجتهم إلى نفط العراق إذاً؟ ألم يعرض صدام حسين على الأمريكان بعد إحتلال الكويت في العام 1990 أن يؤمن لهم نصف نفط الكويت والعراق بأسعار تفضيلية لكنهم رفضوا العرض؟ فلماذا يحارب الأمريكيون إذاً؟ ثم أن تنفق الولايات المتحدة في حربها على العراق تريليوناً، أو ثلاث تريليونات من الدولارات كما إدّعى أحدهم، فذلك يعني أن النفط سينضب من العالم قبل أن تسترد الولايات المتحدة خسائرها! وعليه فإن السياسيين الذين يتفوهون بمثل هذه التفوّهات الغبية إنما هم قوم مفلسون ويعتقدون مخطئين أن مثل هذه التفوّهات قادرة على تغطية إفلاسهم.

وثمة نفر من هؤلاء المفلسين يزعم أن الولايات المتحدة إنما حاربت العراق تأميناً لإسرائيل. بالرغم من أن مثل هذه المقولة تافهة ولا تستحق التعليق إلا أن فضحها من شأنه أن يفضح الإفلاس الشائن لغواة السياسة الذين لديهم الاستعداد التام للمتاجرة بدماء شعوبهم كيلا يعلنوا إفلاسهم السياسي. العراق الصدامي القوي لم يهتم بالقضية الفلسطينية كما تظاهر فيما بعد مثله مثل بن لادن. يتوجب على الفلسطينيين بشكل خاص ألاّ ينسوا أن صدام هو من فتح بوابة شرقية للعالم العربي رغم كل الشروط المعاكسة آنذاك حيث لم تعد فلسطين بعد ذلك البوابة الوحيدة التي يحتشد العرب كل العرب إلى الدخول فيها وتحريرها. بعد حرب ضروس لثمان سنوات على إيران لم يعد في العراق قوة أكثر من تلك التي بها احتل الكويت الصغير. وبعد التدمير الكامل للجيش العراقي في صحراء الكويت لم يكن أمام صدام إلا الإستسلام بمهانة الذليل في خيمة صفوان (3/3/91) وموافقته على تعويض إسرائيل عن كل ما ألحقت بها صواريخه الاستعراضية الدعائية من أضرار. فكيف لمن يدعي بأن عراق صدام قد شكل خطراً على إسرائيل؟! من يدفع 32 مليوناً من الدولارات كتعويضات عمّا ألحق بإسرائيل من أضرار لا يمكن أن يشكل أي خطر عليها. عصابة صدامrdquo; البعثيةldquo; هي العصابة العربية الوحيدة التي قدمت خدمات جلّى لإسرائيل. استبدلت الجبهة واستبدلت العدو وشقت الصف العربي، تلك هي الخدمات المثلى لإسرائيل التي لم يكن يحلم بمثلها الصهاينة!!

عجائز القوميين ومعهم أعداد من الشيوعيين سابقاً يدّعون بأنهم يشكلون اليوم جبهة ممانعة تمنع المشروع الأميركي من التحقق. والمضحك في هذا الموضوع أن هؤلاء الممانعين لا يعرفون بالضبط ما يمنعون! تسألهم عن المشروع الأميركي هدف ممانعتهم فلا يجيبون إلا بكلمات عامة لا دلالات لها كالقول quot; الشرق الأوسط الجديد quot;! ويشرح بعض هؤلاء القومجيين قائلين : يقول الأمريكان quot; الشرق الأوسط quot; ـ كما تعرّفه الجغرافيا ـ وليس quot; الشرق العربي quot; بهدف طمس القومية العربية!! ويقولون quot;الجديدquot; مستهدفين رسم خارطة جديدة للمشرق العربي مناظرة لاتفاقية سايكس ـ بيكو بحيث يكون لإسرائيل في المنطقة العربية دور قيادي ورئيسي!! ولذلك نادى بعض المتطرفين الأميركيين بسياسة عنوانها quot; الفوضى الخلاقة quot;!! مثل هؤلاء السادة من عجائز القومجيين ليسوا مفلسين سياسياً فقط بل ومفلسون فكرياً كذلك مثلهم مثل المفتي السعودي الذي ما زال يكفّر الذين يقولون بكروية الأرض وهي باعتقاده منبسطة وأن الأرض تدور حول الشمس والحال كما يرى هو العكس تماماً.

حدث أن قال الأمريكان بالفوضى الخلاقة وهو ما يعني تفكيك الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط التي رسم حدودها المستعمرون، الإنكليز والفرنسيون، بما يتناسب وأهدافهم الإستعمارية آنذاك والتي ارتكزت حقيقة في هزيمة ثورة التحرر العربية بقيادة الشريف حسين. عاش العرب ثورتهم التحررية لستين عاماً 1916 ـ 1975 إلى أن فككها أنور السادات بعد هزيمة (نصر) أكتوبر 1973. الذين نادوا بالفوضى الخلاقة من الأمريكان أرادوا أن يحرروا العرب من آثار سايكس ـ بيكو وسان ريمو وأن ترسم خريطة المشرق العربي من جديد تبعاً للقوى الحية الفاعلة فيه. فأي عيب في ذلك؟؟ أما بخصوص طمس القومية العربية فليس الأمريكان بحاجة لأن يطمسوا القومية العربية حيث أن عصر القوميات كان قد أفل بعد أن اقتسمت مراكز الإمبريالية العالم كله قبل أكثر من مائة عام. لقد عانى القائدان العربيان الكبيران الشريف حسين بن علي وجمال عبد الناصر من فشل دعوى القومية العربية فكان أن باعها أنور السادات بأبخس الأثمان ونادى بفرعونية مصر.

وثمة من يقول أن هدف الأمريكان هو إرساء قواعد عسكرية لهم في العراق. ينسى هؤلاء أن سياسة القواعد كانت صالحة، ظاهرياً على الأقل، لتطويق الإتحاد السوفياتي أما اليوم فالسياسة العامة في أمريكا تنحو إلى تقليص عدد القواعد الأميركية في العالم. ثم ما حاجة الأمريكان لقاعدة في العراق ولهم قاعدة كبيرة في انجرلك على الحدود في تركيا ومثلها على الحدود في الكويت؟ تواجد الأمريكان في العراق مربوط بقرار من مجلس الأمن يلزم الأمريكان بالرحيل حالما تطلب الحكومة العراقية ذلك.

في الصياح المتعالي في الفضاءات العربية حول الإحتلال الأميركي للعراق لم يحدث قط أن أحداً من quot; المحللين الاستراتيجيين quot; وما أكثرهم عند العرب دون الأمم الأخرى (!!)، قد نجح في أن يشير ولو من بعيد إلى السبب الحقيقي لإرسال أكثر من خمسة جيوش أميركية لأبعد من خمسة آلاف ميل لاحتلال العراق. كل الدواعي التي طرحها محللو العروبة هي دواعي فارغة وجوفاء سواء ما تعلق منها بالبترول أو بأمن إسرائيل أو بالقواعد العسكرية أو بنهب الثروة العراقية. الديموقراطية التي أقامتها أمريكا في العراق، وهي ديموقراطية ليبرالية حقيقية ـ طالما تحميها قوات الإحتلال ـ تكذب كل الإدعاءات الباطلة من جانب محللي العروبة الخنفشاريين والشيوعيين من أهل الكهف. أن يقول الشعب رأيه في مسار السلطة وسياساتها بحرية وشفافية تامتين لا يستقيم على الإطلاق مع كل الدعاوى المنبوشة من قبر الإمبريالية القديم. ومن المثير حقاً أن يعترف هؤلاء المحللون أن في الديموقراطية في البلدان العربية حتف إسرائيل؛ فكيف يمكنهم الإدعاء بأن مشروع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير يهدف لحماية إسرائيل وتعظيم دورها في المنطقة والمشروع، ولو ظاهرياً على الأقل، يدعو قبل كل شيء آخر لإرساء الديموقراطية في بلدان الشرق الأوسط؟!

بمقدار ما نحن بحاجة لاكتشاف التناقض الجديد، اللاعب الرئيس على المسرح الدولي، والتعرّف عليه، فإننا بحاجة أيضاً لاكتشاف والتعرّف على السياسة الأميركية ومنطلقاتها طالما أن الولايات المتحدة الأميركية تلعب اليوم دور المتعهد الرئيس الذي يقوم ببناء الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الدولية وعلاقات الإنتاج الوطنية غير الطبيعية التي يتم نسجها اليوم في العالم وفي شتى الدول وهو أساس مصطنع وهش في كل الأحوال. نعود أيضاً وأيضاً إلى إعلان رامبوييه 1975 وهو أخطر إنقلاب في التاريخ وأساس النظام الدولي القائم. أهم ما في ذلك الإعلان هو فك العلاقة الطبيعية بين النقد وقيمته التبادلية حيث اتفقت الدول الخمس الأغنى في العالم على ضمان قيمة عملاتها في أسواق العملات. ذلك القرار الذي نسف كل أعمدة النظام الرأسمالي من أساسها وهو ما جعل من الولايات المتحدة القرصان الأعظم في العالم بدل أن كانت المنتج الأعظم في العالم للثروات الحقيقية ورؤوس الأموال. استحصلت الولايات المتحدة على ضمان عملتها الدولار من أقرانها الأغنياء الأربعة، بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان، لكنها أساءت استخدامها فاستغنت عن معظم الصناعات التي تصنع الثروة الحقيقية واستعاضت عنها بطباعة الأوراق الخضراء من الدولارات من كل الفئات. ورقة المائة دولار مثلاً تكلفها أقل من خمسة سنتات وتبيعها على العالم بقيمتها الإسمية، مائة دولار!! فلماذا توسّخ أيديها بالصناعات الرأسمالية القذرة وتزري نفسها مجهدة بالإمبريالية!!

بعد أن طفح العالم بمثل هذه السندات غير المليئة من الدولارات بات على الولايات المتحدة أن تحد من هذه التجارة التي بالتالي تراكم ديوناً لن تستطيع الولايات المتحدة بكل قدراتها الإيفاء بها. لكن الإدارات الأميركية لا تستطيع الحد منها بعد أن اعتاد الشعب الأميركي على الإستهلاك الواسع والمتزايد باضطراد. فكان الخروج الوحيد ولو مؤقتاً من هذا المأزق الصعب هو استبدال عبارة ( بالله نثق = IN GOD WE TRUST ) المثبتة على الدولار بعبارة ( بالمدفع نثق = IN GUN WE TRUST ) وذلك من أجل أن يثق العالم بالدولار المستند إلى القوة ويقبل بالتالي الإتجار به ويسمح لأميركا باستدانة تريليونات إضافية. وهكذا ترتب على أميركا أن تبحث بين الفينة والأخرى عن رأس فارغة لتحطمها بالمدفع فتثبت أن دولاراتها ما زالت مليئة.

إذاً احتلال العراق لم يكن لاغتنام أية غنائم من العراق بل كان من أجل بعث الثقة بالدولار في أسواق العالم مما يسهل على الولايات المتحدة الإستدانة بيسر وسهولة دون حاجة لموافقة أحد. والعراقيون في هذا السباق هم أقل الأمم عناية بالديون الأميركية.

القومجيون والشيوعيون من أهل الكهف يستبشرون خيراً بانهيار الولايات المتحدة. لكن الصين الشيوعية كانت العدو الأشرس للولايات المتحدة، فليدعُ هؤلاء القومجيون والشيوعيون الصين الشيوعية تتفق معهم على مثل هذا الإنهيار!! الصين الشيوعية أشد الناس حرصاً على سلامة الولايات المتحدة حيث أن انهيارها يعني حالاً أن احتياطي الصين من الدولار والبالغ تريليونا (ألف مليار) سيتحول إلى نفاية تستدعي الإنفاق للتخلص منها. كما يعني حالاً شطب معظم الصناعات الصينية التي كانت أميركا تستورد منتوجاتها وتسريح مائتي أو ثلاثمائة مليوناً من العمال الصينيين وهو ما يعني انهيار الصين. بل إن كل دول العالم ستنهار كما أحجار الدومينو حال انهيار الولايات المتحدة.

على الماركسيين والشيوعيين من غير أهل الكهف أن يبحثوا بحثاً عميقاً وجاداً في هذا المأزق الخطير جداً والذي يهدد حياة البشرية جمعاء بالفناء إن لم يتدبروا سريعاً مخرجاً معقولاً، ولو حتى بخسائر جسيمة، يفضي إلى انتشال العالم منه. المفكرون من سائر الأطياف مدعوون للبحث والتدبير في هذا الخطر الوشيك الذي يتهدد مصير البشرية.

فـؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01