قلنا في أكثر من مكان بأن العراق بحاجة الى بروز قوى وعقول سياسية فيه تمارس السياسة والعمل الدولتي إنطلاقاً من مفاهيم وطنية حقيقية تُجَسَد عملياً على أرض الواقع ويتم بها تجاوز الشعارات الرنانة التي لم تعد مُرضية لأحد طالما بقيت عند الكثير من حامليها مجرد خطاب إستهلاكي تقليدي تعود جذوره الى الثقافة الآيديولوجية الديماغوجية التي كان ينتهجها الأنظمة الشمولية بما في ذلك النظام البائد ليزيف بها عقول الناس ويتلاعب بالوعي السياسي لدى المواطن.


عقول خلاقة
كما أن حاجة البلد الى مثل هذه القوى والعقول هي بمثابة حاجة أي فضاء سياسي وإجتماعي للدينامية والتغيير أو المنافسة الفكرية والمنازلة السياسية. وهذه الحاجة هي ليست مرمى بحد ذاتها بقدر ما هي مجرد وسيلة للإحتكام الى الفعل التواصلي بالمعنى الذي نجده، مثلاً، عند الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس و الذي ينهض على الحوار والتفاهم بين مجموعة المتحاورين في مجتمع الأصدقاء. كما و لبناء الإختلافات الفكرية الخلاقة أو التعددية السياسية البناءة أو لإستنهاض البلاد من السبات الفكري والطائفي البنوي الذي يعيشه بسبب غياب الثقافة الديمقراطية و إنعدام الخبرة التاريخية و ممارسة العمل الديمقراطي وتجربته وبالتالي تركيب وإبداع المعايير والمفاهيم الفكرية الناجعة سياسياً و إجتماعياً و على الأسس التي تستقطب الجميع وتحتضن المختلفين وتُنهي طغيان آيديولوجية الإستبعاد والإستعباد وتعيد الثقة بما كان مجرد شعار وبما كان مفردة ميتة بُثَّت فقط للتغطية على حقائق ما كان يجري ويحدث على أرض الواقع إذبان حكم النظام السابق.

مشروطية الديمقراطية
ومن البديهي أن نقر هنا بأن نمو هذه العقول والقوى في العراق ليس أمراً سهل المنال دون شك، سيما إذا علمنا بأننا مانزال نعيش في ظل بيئة إجتماعية وسياسية وثقافية خانقة ماتزال تحت رحمة بقايا وقشور الآيديولوجيات الوحدوية المتطرفة على الشاكلة البعثية أو مثقلة بالأعباء العقائدية الطائفية الإنغلاقية على غرار ما شاهدناها وعاشرناها وما نزال مع بعض القوى وتيارات منذ زوال النظام السابق، فضلاً عن تخلف المجتمع الأهلي كإمتداد طبيعي للبيئة الأقليمية و المناطقية السائدة في عالمنا العربي والأسلامي و الذي يعيق توفير شرط آخر من شروط الديمقراطية كما يقول المفكر العربي جورج طرابيشي في كتابه هرطقات..


كما ليس بالإمكان أن نقدر، نظرياً، تجذر وتوسع، قوى وعقول من هذا القبيل في التربة السياسية والإجتماعية للبلد دون مخاض عسير وصراع مرير مع القوى والتيارات التي تناهض مبادىء الديمقراطية والتعددية والتعايش المشترك التي هي دائماً بالنسبة لهم بمثابة إعلان الموت لطائفياتهم العدائية وقومجياتهم العنصرية وشمولياتهم الفكرية والسياسية. هذا ناهيك عن أن العراق، هو بحد ذاته وبعيداً عن التطورات والأحداث المؤلمة التي تعرض لها بعد سقوط النظام وعمقت جراحاته أكثر، لن يتحرر بسرعة من أعباء الماضي، ولن يتحول الى بلد آمن وسليم من دون تضحية ومن دون خوض الصراعات والنزاعات السياسية والمجتمعية، ولا التجارب الديمقراطية الحقيقية التي شهدتها المجتمعات البشرية كانت هكذا، أي كانت تجارب وردية خالية من الإشكاليات والعراكات أو الصراعات والأزمات، ولا يمكن أن نتصور ذلك خاصة إذا ما سلمنا نظرياً مع المفكر والسوسيولوجي الفرنسي الكبير آلان تورين بأن الديمقراطية هي أصلاً ليست ساحة هادئة كما جاء ذلك في كتابه quot; ماهية الديمقراطيةquot;، و إذا ما أقرنا أيضاً مع المفكر حسن حنفي بأن ليست الديمقراطية نظاما سياسيا صوريا يُنقل من منطقة ويزرع في منطقة أخرى. بل هي ndash; كما يقول حنفي - تطور طبيعي للمجتمعات بنية وثقافة، ونتيجة لصراع طويل ضد الديكتاتورية وهي نظم التسلط والقهر والطغيان والأقلية والطائفية والمذهبية والعرقية.

مكامن دوامة العنف
علينا أن نقبل بأن العراق سيبقى الى أجل بعيد أسير البنى الثقافية والإجتماعية والسياسية المشوهة التي ساهم نظام البعث مساهمة كبيرة في أرسائها سيما من خلال أجهزة الدولة الآيدولوجية/ الشمولية، وجَعّلِها لنا مراجع متحكمة بأنماط تفكيرنا وتدبيرنا على الصعد السياسية والإجتماعية و الثقافية أو في تنظيم وتوجيه المجتمع لحد الشعور أحياناً بأننا لم نتجاوزالحقبة البائدة من حكم نظام صدام، أي أن نهاية دهر الرئيس السابق لم تكن بالنسبة لنا نهاية للثقافة الصدامية التي تبدوا لنا الآن وكأنها باقية قاطنة في بواطن عقول البعض، مما تزيد لنا الطين بلة وتجعل لنا ولادة قوى وعقول سياسية و ثقافية غير متأثرة بهذه البنى وبهذه الثقافة الفاشية المعادية للحياة والسلام أمراً في غاية الصعوبة، بل أمراً يكشف لنا سر من أسرار أستمرار مشاهد العنف في البلاد ومكامن ثقافة الثأر في وجودنا.

الثأر المُعيق
ومع ذلك، ليس هناك أدنى شك بأن إرادة الإنسان والقوى السياسية والإجتماعية التي تعي هذه الإشكالية البنيوية في العراق وتحاول مقاومتها بل العمل على تغييرها،غير معدومة تماماً، ولا أحد يستطيع أن ينفي وجود هذه الإرادة بالرغم من أن التعثرات المتتالية للعملية السياسية ونكباتها التي شهدتها بين حين وآخر بعد 9/4/2003 وتداعياتها على الحياة السياسية و المجتمعية، لم تفسح المجال لبروز هذه الإرادة وظهورها في مظهرها الحقيقي وكسب الدعم المطلوب لتقوية وتنظيم نفسها في أطر سياسية وإجتماعية فاعلة وقادرة على تحويل مسار صراعات البلاد من صراع الطوائف والمذاهب و الأعراق الى الصراع على تجاوز أعباء الماضي وتحديث بنى المجتمع وتغيير أسس النظام والدولة.


وربما أكبر التحديات التي واجهتها وماتزال حتى الآن، هذه الإرادة الديمقراطية التي تسعى دون شك قوى سياسية وأجتماعية عراقية، من داخل وخارج البلاد،أن تمثلها، هي الإرهاب وثقافة الثأر وعدم إعترافنا الحقيقي بحقوق بعضنا البعض ومستحقاتنا السياسية والأقتصادية في هذا البلد الذي كانت غالبية مكوناته مستبعدة عن المشاركة السياسية والتمتع بحقوق المواطنة الكاملة.


كما أن أكبر التحدي يتمثل في العنف بشكل عام، العنف الذي يشكل أستراتيجية قوى الظلام ومآربهم الخبيثة التي ما تزال تسيء لإرادة العراقيين وتشل قدراتهم وطاقاتهم الخلاقة والمحبة للحياة وتكسر ظهر شرائحهم وطبقاتهم المتمدنة سيما ndash; كما يقول السوسيولوجي العراقي فالح عبدالجبار - الطبقة الوسطى التي ماتزال بعيدة عن مسرح الحياة ولا يدعها العنف أن تعود وتمارس دورها الريادي في تشكيل قواها السياسية والإجتماعية الفاعلة.

عدالت عبدالله

[email protected]

bull;سكرتير تحرير صحيفة كُردستاني نوي اليومية ndash; كردستان العراق