منذ فترة وأنا أفكر في إعتزال الكتابة السياسية، وأن أنصرف الى كتابة مواضيع أخرى أنفع لي وللناس، متمثلا بشطر الآية الكريمة ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ). فبرغم أنني صرفت شطرا من عمري في خدمة شعبي بجبال كردستان، والشطر الآخر في تقويم أخطاء السلطة الكردية التي سالت من أجلها أنهار من الدماء، إعتقدت أن الوقت قد حان الوقت لكي أتمتع بما بقي في عمري، هذا إن كانت فيه بقية، وأن أتقاعد عن السياسة ومفاسدها، وعن الكتابة ومتاعبها، فالسياسة والكتابة لا تورثان إلا الصداع ووجع القلب وكدر النفس..

فما نكتبه نحن كتاب هذا الزمن لتقويم الأخطاء، والإشارة الى بعض المظاهر الشاذة في مجتعمنا والتي هي بمجملها من إفرازات عصر الدكتاتورية، لا تلقى لدى الحكام أي نصيب من الإهتمام.


في البدء نهمس، ثم نستغيث، ثم نصرخ بأعلى أصواتنا لمعالجة تلك المظاهر الشاذة، وفي مقدمتها ظاهرة الفساد وقتل أحلام الشباب والكف عن إمتصاص دماء الشعب وقهره وكتم أنفاسه، ولكن كما قال شوقي quot; ورب مستمع والقلب في صمم quot;؟.. فهم يسمعون صرخات المحرومين، بل وحتى همس الثكالى والأيتام، ولكنهم لا يتدبرون لأن على قلوبهم أقفال غليظة؟!..


كدت أن أكسر قلمي، وأعلن إستسلامي أمام هذه السلطة الحاكمة في كردستان، بعد أن مللت الكتابة في مظاهر الفساد والدكتاتورية التي تتغلف بواجهات ديمقراطية مزيفة، لولا أن إستفزني حديث أحد قادة الحزبين الحاكمين في كردستان يوم أمس في مؤتمر صحفي معلن في شاشات التلفاز المحلية والفضائية، ودفعني حديثه دفعا لكتابة هذا المقال.

فكان السيد القائد يغمز من قناة بعض الأحزاب الكردستانية الهامشية الذين ينتقدون السلطة الحاكمة ليرينا العين الحمرة، فيهدد بالويل والثبور لكل من تسول له نفسه أن يوجه إنتقادات لا ترضى عنها السلطة الحاكمة في كردستان بسوء العقاب إن لم يكن بسوء العذاب؟؟!!!.
يتحدث السيد القائد عن الأحزاب الكردستانية الهلامية التي أستخدمت وما زالت تستخدم لتزيين واجهة السلطة التي ينفرد بها الحزبان الحاكمان في كردستان منذ عقود طويلة، ويحذرها بالقول quot; أنه لا يجوز لهذه الأحزاب أن تكون لها قدم في السلطة، وتضع الأخرى في المعارضة؟؟!. يستكثر السيد القائد على هذه الأحزاب مجرد توجيه بعض الإنتقادات البسيطة للسلطة الحاكمة؟.


ويشترط سيادته على تلك الأحزاب الصغيرة، أنه في حال مشاركتهم في الحكومة القادمة المنتظر تشكيلها منذ أربعة أشهر، أن عليها أن تكف لسانها عن قول الحق، وتصم أذانها عن أنين الثكالى، وتعمي بصرها عن رؤية مشاهد جامعي القمامة، وأن تجرد أحاسيسها ومشاعرها عن مظاهر الفساد وإنهيار القيم الإنسانية في هذا المجتمع الكردستاني؟!.


يدعو هذه الأحزاب الصغيرة ما دامت هي مشاركة في العملية السياسية بكردستان أن تتحدث فقط داخل قاعة إجتماعات مجلس الوزراء؟!. ولمن لا يعرف فإن بناية هذا المجلس محاط بعشرات المتاريس وآلاف الأطنان من الكتل الكونكريتية والعديد من نقاط التفتيش المسلحة دائر ما دارت البناية، فلا يمكن لأي مواطن أن يقرب منها مهما كبرت معاناته وتعاظمت مآسيه بسبب الظروف المعيشية الصعبة التي يعاني منها.

ولا يتحرج السيد القائد أن يذكرنا بإنجازات سلطته الحاكمة، ويعيب علينا إعلان ندمنا وتبرؤنا من كوننا مناضلين سابقين بسبب هول ما نراه اليوم من تجاوزات السلطة على حقوق المواطنين، وإثقال كاهلهم بظروف معيشية قاسية جدا، فيما يتنعم أرباب السلطة وماسحي أكتافها بالنعيم المقيم في كردستان؟..


حتى الندم لا يقبله منا السيد القائد، وأنا أحد النادمين على كل ما قدمته من أجل نيل الحرية لشعبي، هذه الحرية التي تحولت الى وبال على هذا الشعب المظلوم، فما كاد يتنفس هواء الحرية الحقيقية بعد زوال الدكتاتورية الصدامية الجاثمة على صدره، حتى تحولت تلك الحرية الى كابوس يخنقه كل يوم رغم إنهمار مليارات الدولارات على رأسه من بغداد؟!. نعم.. الحرية التي سالت من أجلها أنهار من الدماء الكريمة تحولت الى نقمة للشعب، ولكنها أصبحت نعمة نازلة على رؤوس حفنة من الفاسدين يستغلون الظروف الحالية للإثراء على حساب الشعب.


والمشكلة أن الحزبين الحاكمين أعلنا منذ يوم أمس وعلى عناد كل من يحلم بالتغيير ويعقد الأمل بعودة قيم النضال والثورة، أنهما سيخوضان معا الإنتخابات البرلمانية القادمة وتلك التي تلحقها وتينك التي تليها، الى آخر الدهر لأنهما مرتبطان كما قال بإتفاقية إستراتيجية بعيدة المدى، ولا أدري بأي وجه يتحدثون عن الديمقراطية ويرفعون شعارها وهي تعني ببساطة شديدة أن أساسها هو تداول السلطة؟!.


ويبرر السيد القائد الإتفاقية الإستراتيجية بين الحزبين بضرب المثل بالإنجازات الكبيرة والعظيمة التي تحققت للشعب في ظل هذين الحزبين بالأمس واليوم وغدا؟!. ولكن من يقرأ تقارير الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الإنسانية وغيرها المدافعة عن حقوق الإنسان، قد لا يشعر بتلك الإنجازات العظيمة التي تحققت ببناء عدد من العمارات السكنية أو قاعات الحفلات أو إنشاء فنادق الخمس نجوم، أو قرى سياحية ألمانية وسويسرية وتركية وهي بمجملها لأصحاب الكروش المنتفخة؟!..


فقبل بضعة أسابيع فقط، نشرت بعثة الأمم المتحدة في العراق ( يونامي) تقريرها النصف السنوي لإنتهاكات حقوق الإنسان في العراق، ولم يخل سجل إقليم كر دستان عن ما يشين ويدين تلك الإنتهاكات لحقوق الإنسان الكردي، وقبله كان تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش الذي رصد إنتهاكات فظيعة لحقووق الإنسان في كردستان، وبالأمس كان آخر تقرير صدر عن منظمة الصداقة الأمريكية الكردية المعروفة بـ(آسك ) والذي تحدث عن التدخل السافر للسلطات الحزبية في شؤون القضاء بكردستان، منها حتى التلاعب بالأوراق التحقيقية قبل إحالتها الى القضاء؟!.


يتبجح السيد القائد بالقولquot; نحن نقبل النقد الهادف والبناءquot; ويكمله باللاحقة المعروفة في النظم الدكتاتورية quot; ولكننا لن نقبل بالإنتقادات التي تخدم مصالح الإعداء الخارجيينquot;. وبالمناسبة أنا كنت أحد الذين إنتقدت مسؤولا بنقد هادف وبناء، لكن صدر هذا المسؤول لم يكن رحبا بدرجة السيد القائد وهو من نفس لون حزبه، فأحالني الى المحكمة بتهمة القذف والتشهير، ورغم ذلك فأنا شاكر له تلطفه معي بإذاقتي سوء العقاب وأنه لم يسومني سوء العذاب؟! ففي هذا البلد هناك من يسومون معارضيهم سوء العذاب قبل أن يذيقونه سوء العقاب، وللحليم أن يتمعن في المعنى..

شيرزاد شيخاني

[email protected]