1-
جورج طرابيشي وفي الجزء الثاني من كتابه quot;هرطقاتquot; (دار الساقي 2008) يعرض لظاهرة الامتداد الشرس لظاهرة quot;إعادة تديين الثقافةquot;، يصف حالة quot;التديينquot; هذه بأنها (أهم ما يميز المشهد الثقافي العربي في العقود الأخيرة) وهي ملاحظة ذكية من مؤلف سبر تاريخ التحولات العربية ولئن اقتصرت ملاحظته على رصد حالة التضخم الديني الشعبي الخرافي فإن هذه الملاحظة يمكن توسيعها على نحو آخر؛ من الممكن التعبير عن الأسف لانتشار حالة من quot;تديين الثقافةquot; عبر طرقٍ شديدة المكر من قبل بعض المثقفين حيث تستخدم الآن المصطلحات الفلسفية وشعارات التحرير الأوربية التي نضجت بالنضال والدم لتستخدم على نحو تحذيري من قبل صغار الكتاب الذين وقعوا ضحية قراءات مبسطة ونشبوا في مغالطات جذرية في توظيف المصطلحات المعرفية والفلسفية والسياسية من الأساس لكن لهذا الخطأ تناولات كتابية أخرى (ولديّ الأرشيف الهام لنماذج من استخدام مضحك لمصطلحات معرفية في غير موقعها، ولخلط فاضح لمفاهيم فلسفية وسياسية سأتناولها في وقتٍ لاحق).


غير أن المؤسف أن هؤلاء راحوا يضخّون أمراضهم الأساسية عبر ابتلاع ناقص للمصطلحات والأفكار ثم يسومونها في آخر الأمر سوء الشرح، وهي تأتي من نبتة ذات فكر متطرف مضاعف وتلتجئ خلف هوامات من المصطلحات الفلسفية العلمية الرصينة من أجل تمرير مبتغياتهم الإرهابية، وإرادات تكريس الانحطاط التي تسكن أضلاعهم الرخوة، إنه quot;توظيفquot; صبياني لمصطلحات سياسية أو اقتصادية حديثة ووضعها في سياق ديني لا يمكن أن تنسجم وإياه، فهم لا يفهمون من المصطلحات الضخمة إلا ما تعرّفها به الموسوعات الناقصة، أو القراءات الصغيرة التافهة، حيث تختصر مشاريع كبيرة نهضت بالعالم إلى مجرد محتوى لمواعظ حسنة تضمن كتابات هشة، ومقالات مليئة بالدس والتحريض ضد كل جديد.

2-
برزت بعض الدمى التي تتدحرج فوق منابر حديثة، لبست مؤخراً أزياء عصرية، وقرأت بعض الشيء عن المفاهيم والمبتكرات العلمية التي ساهمت في تفجير النور في الغرب، قرأتها ثم لم تفهمها ولكنها حاولت توظيفها من أجل ادعاء ممارسة تنوير توفيقي، وفي آخر النهار تطلع علينا الكتابات المهزوزة رغم وفرة الديكورات التي يسْترون بها الكتابات المدججة بألغام التخلف والرجعية الجنونية. هذه هي الحالة القصوى من quot;تديين الثقافةquot; وهي تستشري الآن بعد أن تم إطلاق النار الحادّ على المبادرات الثقافية الدنيوية ذلك أنها تتعاطى مع جوانب علمية بحتة بعيداً عن الهوامش والنزاعات الضيقة التي ينشغل بها بعض السفهاء.

3-
رأى ابن رشد أنه من المثير للسخرية أن يضيع المرء الوقت فيخترع بنفسه ما تحقق أساساً على يد الآخرين. فاستلهام التجارب التي يمكن أن تضيف إلى حاجاتنا الأساسية ليس عيباً، والأعنف أن توضع إرادة الاستلهام في خانة quot;الكفرquot; أو quot;الخيانةquot; ليس من قبل بعض فطريات العنف والإرهاب، وإنما من بوازغ ثقافية صغيرة تود الانكباب على الآخر بطريقة مقلوبة، إنها quot;الخصخصة الثقافيةquot; التي أصيب البعض بمحنتها فلم ينفك عن الدوران الهستيري حول أوهامها، لقد جعلوا من مفاهيم معرفية كبرى مجرد خربشات ساذجة تشوه سيرورة بعض المفاهيم التي نضجت على مدى قرون، من هنا يأتي التصريح الضروري بأهمية الوعي بهذا الخلل الثقافي الذي أخذ ينخر في أدمغة البعض ممن ينتشي بأداة مهزوزة وبضع ثناءات تأتيه من بعض الحاشية، فيأخذ من الثقافة quot;مقلباًquot; ويقع فريسة لتنصيب أعور لمكان هو ليس أهلاً له.


هذا مع أنني لا أعني أشخاصاً بأعيانهم فلقد بُليت-وبعد كل نقد- أن يظن بعض من تنطبق عليهم الظواهر التي أنتقدها أنني ألمزهم بينما أنا أمارس رسم الصورة الكاملة وقد يظهر في الصورة الواحدة عشرات الأشخاص ممن يشملهم التصويب. كتبت تلك الأسطر تعليقاً على ملاحظة جورج طرابيشي والتي كانت ملاحظة سريعة لم يشملها بالبحث والتوضيح، وإن كان قد تناولها -وإنْ من زوايا أخرى- في كتبه النقدية الأخرى.

فهد الشقيران
كاتب سعودي
[email protected]