حكم السنة العرب العراق لمرحلتين، الاولى، كانت، في ايام بني العباس. والثانية، في فترة حكم التكارتة. وفي كلتا المرحلتين، اسلم البلد الى احتلالين، مغولي ؛ ذكراه طرية في الذاكرة، لم تزل. وامريكي، نشهد اليوم فصوله الدامية.


كتب المؤرخون، الذين كانوا قريبين من موقع الاحداث، آن سقوط حاضرة الرشيد، ان صراع الاهالي من سنة وشيعة، حينذاك، كان قد بلغ الاوج، قبيل سقوط الدولة، فالغارات التي كان سكنة المناطق الشيعية يشنونها، على سكنة المناطق السنية، او بالعكس، لم تتوقف، الا لتبدأ، مرة اخرى، واخرى، بشكل اشد ضراوة وغوغائية.


كان الشيعة هم الاكثرية، وهذا هو قدر العراق المذهبي والثقافي، والذي تعاملت معه الحكومات المتوالية بغباء وتمييز كبيرين. كان رئيسهم العلقمي، من اكثر الوزراء قربا الى الخليفة المستعصم بالله. في المقابل، كان الدورادار الصغير التركي، السني المتشدد، هو القائد العام للجيش والشرط العباسيين، وجل المنتسبين اليهما من المماليك، مع قلة من العرب السنة.
وفي كل مرة، كانت ظروف الصراع الاهلي، تستدعي تدخل الدولة للقيام بواجبها في وأد الفتنة المتجددة، فقد كان انحياز الشرط والجيش، واضحا، لا لبس فيه الى جانب اهل السنة.


بينما التقارير، كانت تصل، اولا باول، الى ديوان المغول؛ البلد يرزح تحت وطأة صراع بين مكونيه الكبيرين، حينذاك.
كانت بغداد، ترتجف من دوي انتصارات الجيش المغولي، فقد اسقط المغول العاصمة كييف ، وارمينيا، وبكين عاصمة الامبراطورية الصينية المقدسة. كانت خطة المغول، مواصلة الزحف الاصفر العظيم، حتى احتلال برلين وباريس ولندن. بيد ان موت الخان العظيم، استدعى من رائسي جيوشهم، العودة الى منغوليا الام، لانتخاب الخان الجديد.
هكذا، وبمحض الصدفة القدرية، تغيرت الخطط ؛ فقد تقرر الاتجاه الى ممالك الشرق، هذه المرة، وهكذا انقذت اوربا الغربية من مصائر تاعسة، كانت قاب قوسين او ادنى.


جرف المغول في زحفهم الجرادي العظيم، والذي لم يشهد له التاريخ مثيلا، دولة المسلمين الخوارزميين العظيمة، والواسعة الاطراف، في زمن قياسي.


ترى، اكانت بغداد قادرة، بجيشها المؤلف من ثلاثة الاف مملوكيا، على صد السيل المغولي المرعب؟
كان من دأب المغول، انهم اذا ارادو التوجه الى بلد ما، لاسقاطه، ان يرسلوا الرسائل، تترى، الى اولي الامر فيه، مطالبينهم بالاستسلام، طوعا، لارادة الخان المغولي المعظم، فان اجيبوا الى ما ارادوه، ابقوا على كل شيء، كما كان قبيل دخولهم البلد، شريطة ان يدفع الجزية صاغرا، والا ركبوا اليه ظهور الخيل، وادالوه، جاعلين منه واهليه احاديث، واضعين السيف في رقاب الشيخ والطفل والمرأة الحامل، وغير مبقين على بناء واحد منتصب قائم، على الارض.


وهكذا، كان ؛ رسلهم تترى الى حضرة الخليفة العباسي، الممزق الرأي بين وزيرين يمقت احدهما الآخر اشد المقت.
كان من رأي العلقمي، ان تفتح اسوار بغداد، للقادمين اليها، وذلك لقاء الابقاء على كل شيء، كما هو قائم ؛ الخليفة على عرش اجداده، والدماء ستحقن، وبغداد ستظل قائمة بمن فيها من الاهلين، وبعمارتها العظيمة المدهشة، فلا بأس، اذن، من دفع الجزية الى من دانت لهم اعظم الامبراطوريات، واشدها منعة وقوة.


بينما كان رأي المملوك التركي، العكس تماما. كان يقول بضرورة التصدي لهم. كما كان يحاول، جاهدا، ايغار صدر الخليفة على وزيره العلقمي، متهما الثاني تهمة التراسل، سرا، مع المغول.


كان يحاول ايهام الخليفة، ان الايام التي ستلي دخول المغول بغداد، ستشهد تنصيب العلقمي كبيرا عليها، وطرده، هو الخليفة، او قتله.
كان جواسيس الخان المغولي، في كل مكان في بغداد، وجلهم مسلمون من ايران والاناضول والصين، مع قلة من عرب الموصل، التي سقطت في يد المغول، قبل سقوط بغداد.


كان هؤلاء الجواسيس، يشيعون بين الناس خطل اراء القائلين بالحرب.
كانوا يشيعون بينهم، ما هو حق ؛ ان الخليفة لم يعد العدة اللازمة لقتال من دانت لهم شعوب الارض.
قرر الشيعة عدم خوض معركة الدفاع عن بغداد، استجابة منهم لرأي خليفتهم الفعلي، اي العلقمي، وكرها من لدنهم للمماليك المستبدين بامر الخلافة والدولة.


امتلأت بغداد بعوائل النازحين اليها من عراق العجم، اي كردستان. وايضا، امتلأت باللصوص وقطاع الطرق الكرد والتركمان، والذين فرو من ديارهم، بعيد وصول انباء تفيد ، تجهيز الخان المغولي حملة تأديبية عليهم، جراء غاراتهم المستمرة على قوافل المؤن القادمة من شتى ارجاء اسيا، الى قطعات الجيش المغولي المرابط في تلكم الانحاء، اي حدود العراق الشمالي، كردستان وديار بكر.


كان الخليفة المستعصم بالله، لين العريكة، تقيا، غير مهاب الجانب، محبا للطرب والغناء ، ضعيف الرأي. وتلكم شروط، اذا وضعنا التقى جانبا، ينبغي بالنسبة للترك المماليك، توافرها في الخليفة، منذ استبداهم بالدولة. فقد كان الخليفة راض، اشد الرضا، في قرارة نفسه، برأي وزيره وصاحبه العلقمي. ولكنه، من جهة اخرى - وكما دلت عليه الميتات الشنعاء، تلك التي حلت ببعض اسلافه - كان يعلم اية ميتة تنتظره، ان هو غلب رأي الوزير على رأي صاحب الشرط والجيش ؛ من فقء للعينين، وقطع الاير الملكي وحشره ثم في الاست، ثم يلي ذلك كله ؛ رمي الخليفة، اي ابن عم النبي، الى الشارع، عاريا، لا كما ولدته امه، بل كما فعلوا، هم الاتراك، به. وعلاوة، فانهم سرعان ما سيجلبون دمية، فاقدة اللون والكرامة اخرى، لتنصيبها خليفة على رقاب العراقيين، دمية ليس لها الا الرضى بشروطهم.


ولان الخليفة، كان يعلم ذلك، وما هو اسوأ منه، فقد غلب رأي صاحبه المملوكي، على رأي نفسه الموافق لرأي العلقمي.
على هذه الشاكلة، عزم القوم على القتال، بجيش قوامه عشرين الفا من الترك، وخمسة الاف من قطاع الطرق الكرد والتركمان، مع قلة غير مسلحة بالسيوف من الاهالي.


وقد جاوز الجيش المغولي، المسلح والمدرب كجيش امبراطوري عظيم، المئتي الف جنديا، نصفه، بل وقيل اكثر، من المسلمين الذين سقطت دولهم وممالكهم في قبضة المغول، في فتوحاتهم السابقة على فتح بغداد.
لم تدم المعركة التافهة اكثر مما قدر لها بحق، ايامٍ معدودات، أبيد فيها جيش المسلمين عن بكرة ابيه.
وكما يحدث، دائما، وكما هو حادث، اليوم، وكما حدث في الامس الصدامي التكريتي القريب، فقد حاول القائد المملوكي الفذ الهرب، متخفيا، وهو في زي جندي عادي، غير زيه البطولي العسكري. ولكن، يقظة المغول، وتشديدهم الحصار على اسوار بغداد، اوقعتاه في أسرهم، ولم يطل البقاء به اسيرا، فقد قتل شر قتلة.


استسلم الخليفة، المغلوب على امره، هو وافراد عائلته، والحاشية. ودخل المغول بغداد ، فلم يفرقو في همجيتهم الشهيرة، بين الشيعي والسني، والشيخ والطفل الرضيع. خربت المدينة، ودكت عمارتها العظيمة، وملأت الجثث الازقة والدروب.
لم تكن قسوة الاخوة المسلمين، المنخرطين في صفوف المغول، طوال ايام المقتلة الشنيعة تلك، لتقل عن قسوة المغول انفسهم، ان لم تكن فاقتها ؛ ربما لكي يثبتوا لاسيادهم الجدد، وكما يفعل المغلوب دوما، انهم ليسوا اقل ولاء للخان، وحبا له، من المغول انفسهم.
اخرجت للخان، كل ما كدسته العصور الغابرات،، من نفائس الكنوز العجيبات العظيمات في خزائن خلفاء بني العباس، في قرون حكمهم الطويلة. مدخرات ملكية تجمعت طوال قرون من السيادة والمنعة، لو ان القائمين عليها، احسنوا التصرف بها، في ايام نحسهم، لكان من شأنها ان ترد عنهم، ورعاياهم، دوائر هذا الوباء الاصفر الوبيل.


جيء بافراد عائلة الخليفة، وهو واقف بين يدي السيد الشرقي الجديد، غير عالم بالامر المبيت له ؛ امر الخان بهم، فذبحوا فردا فردا، امام عيني ابيهم. اما هو، اي الخليفة، فقد امر به الخان، فوضع في كيس، فجعل الجند يطئونه بخيولهم المطهمات، حتى قضى رفسا ووطئا.


لم يذبح الخليفة بالسيف، بسبب من ايمان المغول، ان قطرة دم واحدة تسقط من ملك على الارض، ستجر عليهم ويلات ولعنات وكوارث طبيعية، هم في غني عنها، بانتصاراتهم العسكرية المدوية.


امر الخان، رب الجنود، جنده بالكف عن البغدايين، بعد رجاءات الطوسي له بالكف عنهم، وحقن دماءهم العبيطة. والطوسي، لمن لا يعلم، هو من مستشاريه المقربين اليه، وممن قدموا معه في حملته تلك.
تم الابقاء على حياة العلقمي، والذي سبق للخليفة ان بعث به غير مرة، بمثابة رسول منه، الى الخان، في فترة المفاوضات الطويلة، تلك التي سبقت بزمن طويل نسبيا، يوم الاجتياح . كان الخان يعلم ان الوزير نصح الخليفة، غير مرة، بعدم المقاومة غير المجدية، وبدفع الجزية، لتجنيب الدولة والخليفة الهلاك المؤكد.

2
خلاصة: يكاد كل امرىء ان يكون قد لاحظ، ان حكم الاقليات لا يرحم، من شاء لهم القدر التاعس الوقوع، تحت براثنه. وما الابادات والقبور الجماعية، واصطناع الحروب الخارجية المهلكة، اصطناعا، سوى حلقات في سلسلة طويلة ممتدة، قد تكون آحر الحلقات فيها زوال الشعب ذاته.
ان حكم الاقلية لجلاب لشتى المحن والكوارث. انها، وفي سبيل الحفاظ على امتيازاتها، لعلى استعداد كامل، ان تذل كرامتها، وكرامة الشعب، في الف خيمة صفوان وصفوان. لا كرامة، ولا مستقبل، لشعب تحكمه الاقلية فيه. ولا بناء، ولا عافية، لشعب تستبد باقلياته الاكثريةُ فيه، برغم ان شر الثانية، على ما فيه من الم وتخلف، اهون، واقل شرا من الاولى.
ان المغول، ومن بعدهم الامريكان، الذين غزوا بغداد، هم انفسهم من يترقبون، الآن، قرب اسوار سوريا، ذلك البلد السيء الحظ، والذي شاء له سوء حظه، ان تحكمه الاقلية العلوية الشيعية فيه.


ما حدث في بغداد العباسيين، تكرر بعد اكثر من الف سنة ؛ اذ رفض سكان بغداد الدفاع عن مدينة اذلتهم، واذاقتهم الويلات، وحصدت، من دون وجه حق، شبابهم، وخربت اجيالهم، بأسم الوحدة العربية، واسترداد فلسطين والاحواز والاسكندرون السليب ومرتفعات الجولان وسبته ومليلة. وما هي الا كذبة شيطانية، حاول عبرها مغول بادية العراق، واعرابه المنافقون، الابقاء على امتيازاتهم القرقوشية المثقلة بالقرابين البشرية، وبدماء العراقيين . وكأنه كتب على شيعة العراق تقديم زهرات شبابهم، قربانا، لوحدة امة، اثبتت الوقائع التاليه، كرهها لهم، وتعطشها لدمائهم، وقول معمميها بهدر كرامتهم، واستحلال اعراضهم ، وتنجيسهم، وجعلهم في منزلة دون منزلة الصهاينة - اعداء العرب ومذليهم. اقول للعرب: كونو منصفين، ولا تحاولوا اعادة عقارب الساعة الى الوراء، وذا لان في اعادتها قدوم آخر لمغول، باسماء وعناوين اخرى، بعد قرن او قرنين او الف سنة، من الآن، اي بعد خروج اسيادكم الامريكان من العراق، وهم، عاجلا ام آجلا، سيخرجون. واقول لحكام سوريا الاقليين: اللهم احفظ السوريين من شر حكامهم، ومن شر تشبثهم بالسلطة، ومن شر مخططاتهم الشيطانية لاستردادها، ان هي افلتت منهم.

ملاحظة: يجري الخلط احيانا، بين المغول والتتار، والتتار، لمن لا يعلم، هم قوم غير المغول، وقد جرت بينهما وقائع حربية طاحنة، انتهت بانتصار المغول، واحتلالهم بلاد التتار.

معتز رشدي
شاعر عراقي مقيم في تورنتو - كندا