بعد انهيار عصر القوميات، وأفوله إلى غير رجعة، بحمد الله وشكره، لتسببه في غير حرب كارثية ومدمرة جربت الخراب والدمار والويلات وعشرات الملايين من الضحايا والأبرياء، نرى أن العقل العربي البدوي الذي لا يموت له ميت، كما تقول الأمثال، والذي يستهويه الفخر بالنسب والأجداد، يحاول أن يتصابى فكرياً وثقافياً، وما زال منشغلاً عن كل هموم الأرض بروابط الدم، ووشائج القربى، ويرطن بفكرة واهية وخرافية حول أصالة الانتماء، ويعول عليها بوجدانية محزنة لبعث هذه الأمة من سباتها الأزلي المذهل، مستبعداً، في نفس الوقت، كل العوامل الاقتصادية والسياسية الأخرى التي وحدت كيانات قوية كالاتحاد الأوروبي مثلاً، تختلف في العرق والدين واللغة والانتماء والتاريخ، وتفكر بقبول تركيا الإسلامية كعضو فيه، والذي أتمنى ألا يحصل وأعتقد بأنه سيفسد رونق ذاك الاتحاد الجميل وسينسف أسسه التسامحية والتصالحية الإنسانية لاصطدامه مع موروث بدوي وسلفي متزمت سيكون بداية النهاية له فيما لو تم. أي أن القوميين العرب وتجمعاتهم الكاذبة يتاجرون ببضاعة بالية أكل عليها الدهر وشرب وخرجت فعلياً من قاموس التداول السياسي، وربما أصبحت فاسدة ومنتهية الصلاحية ومهلكة بالتأكيد. ومع تسليمنا بإمكانية وجود تداخلات قبلية وعصبوية عربية إثنية فيما بين بعض العرب الموجودين اليوم، ولكنها بالتأكيد لا تنسحب على كل العرب المفترضين، وإلا فأين ذهبت كل تلك الشعوب والأمم التي كانت موجودة قبل الغزو البدوي لدول الجوار في العراق، ومصر والشام وشمال إفريقية؟ هل أبيدوا عن بكرة أبيهم كما فعل الأمريكيون بالهنود الحمر عندما غزوا القارة العذراء؟ وهذا يعني، بالتالي، أن هناك مذبحة ومجزرة وعملية إبادة جماعية تطهير عرقي كبيرة Genocideقد تعرضت لها تلك الشعوب لها على أيدي أولئك الغزاة المسلحين بالسيف وعقيدة من السماء، وهذا ما يتطلب، حكماً، اعتذاراً ومحاكمة تاريخية لتلك الفترة بقضها وقضيضها ورموزها الكبار وتقديمهم للقضاء بمحاكم العدل الدولية بتهم القتل والإبادة الجماعية. أو أن أولئك القوم استسلموا لعقيدة الغزو وللغزاة الجدد وذابوا في الوضع الجديد وكبسوا الجرح ملحاً، ونسوا أصولهم وفصولهم ومصيبتهم الكبرى مع تعاقب الأجيال، وهذا ينفي نظرية نقاء العنصر العربي المزعوم وانتماء أعاريب اليوم وفطاحلهم لجد واحد هم جميعاً من نسله، وهذا زعم فاشي وعنصري وألترا نازي حسب التصنيف والرؤية الإنسانية والعلمانية العصرية لطرح بائس ومشؤوم ومهزوم كهذا. أي أن هناك، وبين ظهرانينا من quot;العربquot; ممن هم من أصول فينيقية، وكنعانية، وآرامية، وفرعونية، وبابلية، وآشورية، وكلدانية، وعبرانية إلخ والعياذ بالله وأستغفر الله على كل حال، ولكن أعطيت لهم هوية quot;عربيةquot; غير هويتهم بقوة السيف والعقيدة السماوية.

وكما أسلفنا سابقاً، وفي أكثر من مناسبة ولقاء ناري هدر لأجله دمنا من نفس أحفاد أولئك العرب الغزاة وسلالاتهم، لا يمكن النظر إلى ما يسمى بالفتح العربي الإسلامي بمعزل عن عملية عولمة الغزو البدوي التي كانت تجري بين القبائل البدوية العربية في مجاهل الصحراء العربية. فحين ضاقت الأرض بأهلها، ونظراً لنقص الموارد وشح الأرض بالماء، وبخل السماء بالأمطار، صارت عولمة الغزو فرض تاريخي وبيئي لا يمكن الفرار منه بعد تراكم كمي وزمني طويل، ولذا اتجهت أنظار الغزاة العرب إلى ما وراء حدود هذه الصحراء الفسيحة طلباً للماء، والخضرة، وبحبوحة الحياة، والوجه الحسن. وما يؤكد هذا أن مهد الإسلام، مكة والمدينة اليوم، لم يكن يوماً عاصمة للإمبراطورية الإسلامية التي وصلت حدود الصين كما يرطن فقهاء القومية والإسلام ويتباهون به، ي أنه يفخرون باستعمارهم للآخرين واعتباره رسالة خالدة ومقدسة فيما quot;يزعلونquot; ويسهجنون ويرغون ويزبدون لبقية أنواع الاستعمار غير quot;العربيquot; طبعاَ. وما جرى في عملية الفتح تلك كان عبارة عن فرض بالسيف لعقيدة ولغة وسلوكيات البدو الغزاة على الدول التي احتلوها (فتحوها) وكانت سبيلهم ووسيلتهم لتعميم فكرة الغزو وترويجها بالأرض الجديدة. ألم تكن المدن المفتوحة تستباح أياماً بلياليها وتسبى فيها النساء ويؤتى بهن إلى أسواق النخاسة ليبعن كجاريات عند هذا البدوي أو ذاك، ويستمتع بهم هذا الخليفة المسلم أو ذاك؟ ألم يكن في أحد قصور كبار الخلفاء في بغداد ثلاثة آلاف جارية وغلام في يوم من الأيام يقال بأن قداسته قد وطأهم، وليس وطأهن، جميعاً quot;هدفاًquot; تلو الآخر؟

وبفعل هذا الغزو فقد انتشرت لغة الغزاة، كما هو الحال مع اللغة الإنكليزية التي صارت لغة رسمية للكثير من بلدان الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغب عنها الشمس. فهل يكفي أن يتكلم النيوزيلندي والأسترالي والجنوب أفريقي والهندي والباكستاني والكندي والأمريكي.....إلخ، اللغة الإنكليزية التي هي رسمية في هذه البلدان أن يجعل من هؤلاء الأقوام المتنافرة الخصال والأنساب قومية وأمة واحدة يجب أن تتوحد في كيان واحد كما فعل يفعل أباطرة التفلسف القومي في تسويق أكبر خدعة في التاريخ الحديث؟ وإذا كان عامل الأرض هو ما يميز العرب عن غيرهم كما يدعون، فلم لا يشركون أقاليم الصين، والأندلس وبلاد فارس (إيران الصفوية المجوسية كما يسمونها)،...إلخ في الدولة القومية المزعومة علماً بأن الفتح (الغزو) قد وصل إلى تلك البلدان؟ لِمَ الالتفاف على الوقائع والحقائق ومحاولة نسف أبجديات المنطق المعروفة؟ ولِمَ استحال أي شكل من أشكال التوحدة والوحدة والاندماج العربي المزعوم إذا كانت اتلك الخرافة والبدعة كافية ووافية لوحدها وموجودة أصلاً على أرض الواقع؟ بل على العكس كان هناك نفور، وتصارع، وتضاد وحروب بين العرب المزعومين لم يصل ما وصل يوماً بين الفرنسيين والألمان، وبين الهوتو والتوتسي، أوالأرمن والأتراك على سبيل المثال لا الحصر؟ ألا تعش العلاقات العربية اليوم أسوأ وأحط أشكالها على الإطلاق؟ وإن التآمر البيني العربي العربي وصل إلى ما لم تخطط له يوماً السي. آي. إيه، والموساد، إذا ما جارينا البعض بنظرية المؤامرة المزعومة.

وهناك سؤال quot;بريءquot; جداً في هذا الصدد، وعلى هامش الموضوع، هل إتقان اليهودي البولندي، واليهودي الروسي، واليهودي التشيكي، والأمريكي، والبريطاني، والسوري والمغربي والعراقي، للغة العبرية التي هي هي إحدى اللغات السامية القديمة ومنها العربية، يجعل منهم قومية وأمة واحدة مع توفر أرض إسرائيل التوراتية؟ وما هو حكم quot;الشرع القوميquot; بالنسبة لبعض من هؤلاء كالمغربي والعراقي والسوري هل يمكن اعتباره قومياً عربياً لأنه يتقن العربية، أم صهيونياً تورلاتيا وقومياً إسرائيلياً لأنه يتقن العبرية؟ كيف ينكر القوميون العرب على اليهود ذلك ويقبلون به على أنفسهم ويروجونه على أنه حقيقة خالصة؟ وهل اتقان المرء للغة أجنبية يجعله ينتمي لتلك لـquot;قوميتهاquot;؟ ألم تتطور اللغة العربية من لهجات محلية كانت سائدة في جزيرة العرب ولم تكن وقتها لغة خالصة ومجردة ومتكاملة؟ وحين quot;نزلquot; القرآن لم يكن منقطاً؟ أي أن اللغة ليست مفهوماً مجرداً بل وسيلة وضعية تتطور بفعل الزمن والارتقاء التاريخي. ولا يعلم إلا الباري عز وجل إين ستتوقف وكيف سيكون شكلها النهائي؟ ألم تترك البيئة واللهجات واللكنات المحلية الأصلية التي اندثرت بعد الغزو العربي بصماتها على اللغة العربية الأم بحيث يمكن القول هناك لغة عربية مصرية، وأخرى مغربية، وثالثة شامية، وواحدة بدوية أصلية، وسودانية مميزة ومحببة على القلب ويميزها أعمى البصر والبصيرة، وقد يكون من الصعوبة بمكان التفاهم فيما بينها، أحياناً، وهذا ما يحصل اليوم حين يتابع الشامي تونسياً يتكلم؟ أو ما يحصل بين بدوي عربي ومصري اسكندراني؟

لا يمكن الجزم بتاتاً بانتماء معظم سكان هذه المنطقة التي يطلقون عليها زوراً وبهتاناً بالوطن العربي إلى أصل واحد. فقد تداخلت الأعراق والأنساب والدماء بفعل الاستعمار والتزاوج والاحتلالات التي تعاقبت على المنطقة بدءً من الاحتلال الروماني واليوناني والعربي البدوي وحتى الآن، وصار من الصعب التأكد من الأنساب والسلالات في ظل انعدام توثيق رسمي ومعتمد، وغرق المنطقة في ظلام دامس وجهل مطبق، وفرض تعتيم لأربعة عشر قرناً من الزمان؟ ألا تكذب الفروق والتمايزات الديمغرافية والإثنية بين عرب اليوم أزعومة الانتماء القومي الواحد؟ فهل العربي البدوي الذي يعيش في الربع الخالي يحمل نفس السمات الديمغرافية والإثنية التي يحملها الجزائري من حيث لون البشرة، ولكنة الكلام، والطول والوزن والعرض؟ ألا يتميز الفرعوني المصري بسمات خاصة تجعلك تميزه من بين آلاف الناس وهذا ما ينسف نظرية الانتماء لعرق أو جد واحد، ولا يجمعه جامع مع الصومالي وابن الصحراء الغربية مثلاً؟ هل أصبح الأمازيغي والبربري والكردي بعد التعريب القسري عرباً من نسل عدنان وقحطان كما يزعم. وهل quot;العربيquot; السوداني هو من نفس عرق وفصيلة quot; العربيquot; السوري في غرب وشمال سوريا وفي بعض أنحاء الجزيرة السورية ذي العينين الزرقاوين، والشعر الأشقر، والبياض والنقاء الآري المشهور، وأرجو ألا تحتمل هذه الأسئلة أي تضمينات، أو تأويلات عرقية أو عنصرية مقيتة أبغضها ولا أميل إليها، ولكن من باب الوقائع الدامغة التي لا يريد عروبيو اليوم الاستماع إليها؟ قابلت السوري (ن. إ) في مطار أوربي، وكل اعتقادي بأنه من العرق الآري أو الاسكندنافي الأبيض الصافي، فلا يمكن تمييزه عن الألماني من أبناء برلين وهامبورغ نفسها، وظللنا نتحدث الإنكليزية إلى أن تعرفت في سياق الحديث إلى أصله السوري وانتقلنا بعد ذلك للحديث بلغة القرآن الكريم طيلة الوقت ومسافة الرحلة.

وسنسلم بقضية اللغة والعرق العنصري الإثني كعوامل لتشكل الأمم والقوميات، فهناك سلالات قبلية خالصة من دم وعرق واحد وتتكلم لغة واحدة في مجاهل أوستراليا والأمازون وأفريقيا، فهل يمكن التعويل فقط على هذين العاملين في نشوء دول quot;قوميةquot; صنديدة لهذه القبائل البدائية؟

وفي نفس الوقت، هذا لا يمنع بالمطلق أن تتوحد هذه الشعوب المنكوبة على أسس الضرورات المعيشية المطبقة والضاغطة، أسس حضارية اقتصادية وإنسانية وسياسية أخرى أكثر عدلاً وحكمة ومنطقية، بدل التعويل على فكرة العنصر العربي التي لا يشرف الانتماء لها اليوم في ضوء واقع العرب وحالهم، وإن كنا نقر باستحالة تحقيق تلك الوحدة ذلك لعدم قدرة العقل العربي والإسلامي المعطوب على تخطي تلك الحدود والقيود وتجاوز الثقافة التي تقوقع فيها منذ بداية عملية عولمة الغزو البدوي وحتى اليوم؟

نضال نعيسة
[email protected]