أثار مقال خرافة أمة العرب الواحدة، المنشور في إيلاف، القائمة على الجنس والعرق والعنصر والدم واللغة العربية جملة عريضة من ردود الأفعال عليه. ومع تثمين كل الردود الواعية والعقلانية التي وردت في موقع إيلاف فنجد على هذا الرابط :

http://www.zamanalwsl.net/index.php?item=view_articleamp;id=4458

ومن أحد القوميين العرب، وهو الأستاذ سعد الله جبري الذي يشن بدوره هجوماً عنيفاً أيضاً على المقال. وليسمح لنا السيد جبري، وعملاً بحرية التفكير والرد والنشر المنكرة في الفكر القومي والعياذ بالله، أن نرد على رده بما توفر لنا من أفكار وآراء نتمنى ألا ينتفض ويزأر لسماعها، حتى وإن صدمته.

وأول القول هو أن الحمد لله، الذي لا يحمد على قومي وعروبي وإسلاموي سواه، فرسالتي وصلت، وأحدثت ألماً وأصابت القوميين في مقتل. وهذا ما استنفر أحدهم وهو الأستاذ سعد الله جبري الذي لم يخطر ببالي يوماً أن أصفه بما كاله لي من أوصاف الجهل والمرض النفسي والتآمر، وهذا هو التفكير القومي المثالي، وديدن العقل القومجي الذي نحاول أن نتخلص منه ونتجب شروره ونعالج آثاره الضارة على الحياة والإنسان والبيئة لاسيما في ظل هذا الانبعاث الدينوي والقوموي المسعور ذي المنبع القبلي والبدوي المعروف. والشيء الآخر، يا أستاذ جبري، إذا كان الله سبحانه وتعالى، قد أوصاك في محكم كتابه العزيز، بأن تعرض عن الجاهلين من أمثالنا فلم تقرأ لهم وتتحرش بهم ولا تتركهم في غيهم وجهلهم هائمون وتخالف وصايا وأوامر الباري، وأستغفر الله لك على هذا العصيان؟ وما دام الناس قد أعرضوا عنهم فلم كل هذا الاهتمام بهم، وتبديد الوقت على قراءة وتفنيد ما يقوله الجاهلون؟

والحمد لله ثانياً بأن الله قد وهبنا قيادة سياسية وأمنية واعية ومثقفة وتؤمن بالرأي والرأي الآخر، وتستمع له، ولا تذعن لمحاولات التحريض على اعتقالنا كما طلب السيد جبري في مقاله، بل على العكس تعقد، مشكورة، مؤتمراً لـquot;تجديدquot; الفكر القومي في دمشق quot;قلب العروبة النابض وعاصمة الثقافة العربية المتنقلة لعام 2008. ولنلحظ هنا، ما تنطوي عليه كلمة تجديد بالرغبة في quot;تطويرquot; هذا الفكر الذي أصيب على ما يبدو، وعلى الأقل بالترهل ولن نزيد أو نعيد. ولو كان السيد جبري في موقع أمني يحتله اليوم رجال ثقاة بعيدو النظر، لكانت ست الحبايب تلبس الآن ثياب الحداد، وهذه هي المرة الأولى في حياتي التي أشعر فيها، وكل الشكر لله، بأنني محظوظ ومرضي الوالدين. ولولا شعور القيادات السياسية الواعية بتحجر وتعثر الفكرة القومية ومراوحتها عند مرحلة آفلة وماضية من التاريخ ولم تعد قابلة للحياة ولم تجلب منفعة تذكر للناس، لما دعت لهذا المؤتمر الذي نتمنى أن يأتي فعلاً بكل ما هو جديد لبعث الحياة في هذا الرميم والركام الجاثم بلا حراك من مئات السنوات، فيما تقفز الدول اللاقومية واللادينية قفزات نوعية وجبارة لن يلحق بهم سلاحفة القومجيين العرب في المنظور من الأيام إذا ما ظلوا على هذا التواضع في الفكر والطرح الذي أبديته في مقالك quot;القومي النوعي والنادرquot; يا أستاذنا الفاضل المقدام. ولم يتحقق لأوروبا والغرب نهضتهم إلا بعد أن نفضوا عن كاهلهم كل أشكال الفكر العصبوي والشوفيني الذي هو عماد الفكر القومي القائم على التعصب والانحياز لقوم بعينهم دون غيرهم مما يساهم في بعث النزعات العنصرية والشوفينية لدى الآخرين، وما سيسبب ذلك لاحقاً من صدام مجتمعي حتمي بين المكونات المختلفة عرقياً ودينياً ولغوياً والتي تشكل عماد المجتمعات العولمية الحديثة التي ذابت فيها الحدود واختلطت الأعراق واللغات والأديان والقوميات.

وللسيد جبري، الذي التبس عليه الموضوع، نكرر القول بأن اللغة ليست هوية قومية ولا عامل انتماء، كما أنه لا يوجد أمة صافية العرق والدم في العالم اليوم بفعل الغزو، والهجرات والاحتلالات والتزاوج والاختلاط...إلخ، في الوقت الذي يؤكد فيه القوميون العرب على رابطة الدم والعرق والأصل العربي الواحد وهذه فضيحة عنصرية وقانونية وأخلاقية مجلجلة نتمنى على السيد جبري وأمثاله أن ينأوا بأنفسهم عنها وعن الأخذ بها وتبنيها، لكي لا يتعرضوا للملاحقة القانونية في حال وجود قوانين ودساتير علمانية وحضارية ولا سمح الله في هذه المجتمعات المنكوبة. نعم يا سيد جبري الدعوة القومية القائمة على أسس عنصرية وعرقية هي دعوة نازية وألترا فاشية ولا ينادي بها سوى المهووسون قومياً، والموتورون عصبوياً، وتسببت ذات مرة كذلك في زهق حياة عشرات الملايين من الأبرياء بسبب الحروب الدموية التي قام بها أشاوسة القومجية من هتلر وموسوليني وهيروهيتو وميلاديش وحبيب القومين العرب وعتريسهم وديكهم الذبيح صدام حسين الذي أشعل هوسه القومجي فتيل داحس وغبراء الجديدة والتي لن تنتهي في الأربعين سنة القادمة بمشيئة الله. والتجمعات السياسية العصرية، كما الاتحاد الأوروبي والسويسري والأمريكي، على إنسانية الإنسان وعلى هوية إنسانية موحدة لا تميز بين قوم وعرق وآخر وتضع قوماً في مكان سام، وتزدري وتحتقر المكونات الأخرى كما في منظومتك القومجية الشرق أوسطية التي تمارس فيها الموبقات العنصرية علناً، وعلى عينك يا تاجر.

نحن نتكلم عن تاريخ العرب فلم تخلط عباس بدباس كما يقال؟ فلا علاقة لي يا سيد جبري أذا كان الرومان مجرمين وقتلة، أو الأمريكيين كذلك أيضاً، أو الفرس المجوس كما يروق لقومجييك تسميتهم، وحين أكون في موضع دراسة التاريخ الروماني أو الأمريكي أو الفرنسي، فلن أتوانى عن وضع النقاط على الحروف وتسمية بمسمياتها وإطراء ما هو إيجابي فيه، ونقد ما هو سلبي فيه. والرومان ليسوا آلهة كما الأمريكان، وليسوا منزلين من السماء. وإذا كانوا قد أخطئوا وارتكبوا المجازر والفظائع فهذا ليس مبرراً لأحد لكي يقوم بنفس الشيء، ويجاريهم بالإثم والبغي والعدوان. أنا معني بدراسة تاريخي الذي تسبب في هذا الكم الهائل من البؤس في منطقتنا وتراثنا وتاريخنا فلم تخلط هذا بذاك؟ وما علاقة مجازر جورج بوش بجماجم الحجاج وما ارتكبه من فظائع وأهوال؟ وهل تعطي مجازر بوش الحق للحجاج أو لبن لادن، أو لأي كان أن يكون عديم الضمير ومجرماً وقاتلاً جباناً ويفجر الطائرات ومترو الأنفاق والقطارات بالأبرياء؟ هل يقابل الإجرام بالإجرام؟ لماذا تحاولون دائماً أن تخلقوا الذرائع والجج والأعذار والمبررات للإرهاب وللقمع التاريخي العربي؟

نحن، من جهتنا، نحاول أن نعيد قراءة هذا التاريخ العربي والإسلامي بكل موضوعية وحيادية وتجرد وبعيداً عن العاطفة القومية والإسلامية الرومانسية التي أودتنا المهالك. وحين تقرأ التاريخ والتراث برؤية موضوعية يا سيد جبري لن يكون لديك أية مشكلة، ولا حتى وقت لتشتم الناس وتكفرهم وتتهمهم بالردة والخيانة والجهل والتآمر والجاسوسية والمرض النفسي...إلخ؟ وهذا ما نحاول أن نفعله نحن برغم ما نتعرض له من أمثالكم من القوميين والعروبيين والإسلامويين، وهم جميعاً بالمناسبة من نفس الطينة، من تهم أنزل الله بها، ولم ينزل بها من سلطان. وأرجو من السيد جبري أن يذهب إلى أي مرجع من كتب التاريخ العربي كالطبري، والأصفهاني ليقرأ من أهوال وسير وقصص ومؤامرات يشيب لها الولدان. وأن خرافة التاريخ الوردي والصافي لا وجود لها إلا في عقول وأذهان أولئك الذين يرفضون أن ينزعوا العصابات القومية والدينوية السوداء عن أعينهم. هل ما زلت تسمي الغزو العربي البدوي لدول الجوار فتحاً إسلامياً لم ترق فيه ولا قطرة دماء، ولم تسب به نساء? هل لأي عاقل أن يفخر ويعتز بهكذا أفعال حتى ولو تلفحت بأغطية من السماء؟ وهل تنكر الصراعات السياسية الدموية التي اجتاحت ما يسمى بالعالم الإسلامي وخلفت عشرات الملايين من القتلى، وعقول معطوبة مأزومة توقفت عن العمل والعطاء، وأدخلت المنطقة في أتون سعار طائفي محموم، ونفق مظلم وطويل من الديكتاتورية والقمع والاستبداد لن تستطع دعوتك القومجية البريئة أن تخرجها منه بألف عام من الزمان؟ ماذا تسمي أن يقوم جيش عرمرم مسلح بالعتاد الحربي وبالسيف والترس والرماح بـquot;غزوquot; واحتلال أراضي الغير وقتل أبرياء وسبي نساء تحت رايات ودعاوي مقدسة ؟ هل هذا عملاً إنسانياً تؤيده هنا وتستهجنه في مكان آخر يا سيد جبري؟ ألا تفعل إسرائيل وجورج بوش نفس الشيء بأهلنا وأحبابنا في فلسطين تحت دعوة العودة المقدسة لأرض التوراة والميعاد؟ وماذا عن الإلهام من الإنجيل والكتاب المقدس والامتثال لرغبة إلهية هي وراء احتلال العراق وقتل الملايين من أبنائها كما زعم جورج بوش أكبر سفاح القرن الواحد والعشرين حتى الآن؟

ثم، تعال إلى هنا، لماذا تنكر على اليهود قوميتهم وتحللها على نفسك؟ أليس في هذا نوع من المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين، وما تقبله على نفسك وتتلذذ به تعيبه على الآخرين بغض النظر عمن يكون هؤلاء الآخرون؟ هل ثمة مشكلة في الرؤية والوضوح والنظر هنا؟ ثم ألم تجلب ديكتاتورية عبد الناصر القومجية العروبية الاستبداد والقهر والقمع والتنكيل وكانت بمجملها، وبالتنسيق مع استخبارات غربية، للالتفاف والقضاء على المشروع النهضوي الليبرالي والعلماني الذي ساد في أعقاب انهزام وانهيار خلافة بني عثمان البدائية التي لم يكن خليفة يصل إلى سدة الباب العالي إلا بحمام دم يطال أقرب المقربين من الأخوة والأبناء؟ أليس هذا هو نفس التاريخ الذي تعتز به وتحاول أنت وأقرانك القومجيون إعادة إحيائه والفخر به. نحن لا نتجنى أبداً، وكل ما نقوله هو حقائق دامغة وإن بدت مؤلمة لك كما لنا.

وأرجوك يا سيد جبري أنت وكل القوميين أن تعطونا مثالاً إيجابياً ناصعاً واحداً في كل تاريخك أو أية ممارسة ديمقراطية وانتقال سلسل للسلطة وعدل ومساواة وتوزيع عادل للثروات وانتخابات واختراعات علمية وتشجيع للمواهب والإبداع، علماً بأن نفس هذا التاريخ كان قد كتب تحت ظلال سيوف الخلفاء أي ليس مزوراً، وربما ما خفي وعتم عليه كان أدهى وأعظم وquot;أدق رقبةquot;، كما تقول الأمثال؟ أعلم تماماً أن هذه الحقائق ستصدمك كما غيرك، ولكن يؤسفني أن أقول لك، كما قال سقراط ذات يوم، أحبك، لكن الحقيقة أغلى وأحب عندي منك. وأنا معك في وحدة سياسية واقتصادية لهذه الشعوب الناطقة بالعربية، وليست العربية كلياً، على أسس جديدة من الضرورات والمصالح والمنافع والأخوة الإنسانية الشاملة التي تعود عليهم رفاهاً وازدهاراً وبحبوحة، وليس على مجرد فكرة واهية ومنقرضة ولا يعول عليها وليست كافية لوحدها في بناء quot;أمةquot; ومع التحفظ الشديد أيضاً على هذا التصنيف العنصري أيضاً، وأثبتت عدم جدواها وفاعليتها في غير مكان، فلم تحاول إحياءها أيها القومي العربي الصنديد.

وفي الختام أرجوك فعلاً أن تنفذ وصايا القرآن، وتعرض عن الجاهلين تماماً، وألا تعود إليهم مرة أخرى، أو تنصت إليهم أبداً. وذلك لسببين رئيسيين لا ثالث لهما، أولهما أنك وبتركيبتك وعقلك القومي المحشو بالأوهام، لن تعي ولن تدرك أهمية وفحوى والأبعاد الإنسانية المطلقة والشاملة ما يطرحه هؤلاء الجاهلون. وثانياً لكي لا تضيـّع وقتك القومي الثمين وتتحفنا مرة أخرى بنفس المقال، وتكرر نفس الفكر والكلام، الذي يبدو أنكم لن تملكوا، ولن تتوفروا على أي شيء غيره على الإطلاق.

نضال نعيسة
[email protected]