العراق: متى ستنتهي دوامة العنف؟

بمجرد ورود اسم بغداد تقفز ذاكرة السامع إلى خيالات ألف ليلة وليلة وعالمها السحري في عهد الخليفة المشهور هارون الرشيد وندمائه وبلاطه الباذخ وسهراته الأسطورية لاسيما إذا كان السامع غربياً فهذا هو كل ما يعرفه الأجنبي عن عاصمة العراق قبل اغتصاب النظام الصدامي للسلطة بقوة الحديد والنار والبطش والإعدامات الفردية والجماعية وسلسلة الحروب العبثية الدامية التي ورط فيها البلاد طيلة ربع قرن. وفي الطائرة التي أقلتني إلى بلاد الرافدين سألني أحد المغامرين الأجانب الذي يزور بغداد للمرة الأولى ليجرب حظه فيها : ألست خائفاً من هذه الزيارة وماهو عمر هذه المدينة السحرية؟ كانت إجابتي له تفتقد للقناعة فقلت له : ماكان عليك أنت تأتي في هذه الظروف المرتبكة والخطرة، ولم أشأ أن أخبره عن السبب الذي دفعني أنا للقدوم إلى بغداد في هذه الظروف الاستثنائية. أما عن الشطر الثاني من سؤاله فقد أجبته بأن الخليفة أبو جعفر المنصور كان قد وضع الحجر الأساس لهذه المدينة سنة 762 ميلادية وسماها مدينة السلام وهي اليوم أبعد ماتكون عن السلام، ومعناها باللغة الفارسية هبة الله ولم يبق من هذه الهدية السماوية شيء يستحق الذكر اليوم، فما كان منه بعد هذا الجواب إلا أن أدار رأسه نحو نافذة الطائرة وراح يتأمل ويفكر ويغرق في حلم يقظة الله وحده يعلم محتواه. هبطت الطائرة على أرض المطار الذي بدا وكأنه ثكنة عسكرية محصنة ويفتقد لدفء الاستقبال وبشاشة الترحيب. نقلني التاكسي quot; الشيعيquot;، ولاتستغربوا لهذه المفارقة الأليمة، إلى ساحة عباس إبن فرناس وكان بانتظاري أحد الأقارب الذي طلبت منه أن يخترق وسط بغداد لكي أرى ماحل بهذه المدينة الجريحة التي غادرتها للمرة الثانية في حياتي منذ ثلاث سنوات. وكلما مررنا بإحدى المنشآت أسأله ماهذه فيجيب محطة كهرباء جديدة لكنها مهملة لأنها ناقصة أو تفتقد لعدد من التجهيزات التكميلية الضرورية لتشغيلها فتركت كما هي منذ أكثر من ثلاث سنوات لاتنتج شيئاً. وتكرر المشهد أكثر من خمس مرات فقلت له ما هذا الهراء إنه أمر خارج عن المنطق ولايمكن تصوره فرد قائلاً: تصور أن وزير الكهرباء الأسبق أيهم السامرائي وقع عقوداُ مع شركات أجنبية لشراء محطات لتوليد الطاقة الكهربائية بملايين الدولارات ولم يتجاوز كل عقد منها الصفحتين ولم تتضمن أية شروط أو تفصيلات تقنية يعرفها المختصون حيث يصل محتوى التفاصيل التي يتضمنها العقد عادة إلى أكثر من مئة صفحة يتطرق فيها الخبراء القائمون بأمر المشتريات إلى كل صغيرة وكبيرة حتى عدد البراغي ونوعيتها ناهيك عن الأساسيات المطلوب توافرها في كل عقد، كل ذلك مقابل حصول الوزير وأعوانه أو شركائه في الجريمة على عمولات سخية وضعوها في جيوبهم على حساب الوطن والمواطن. هذه هي أول معلومة دخلت إلى رأسي وأنا في طريقي من المطار إلى البيت.ومازالت المأساة مستمرة والكهرباء عملة نادرة في حياة المواطن. ولم يفكر أي من المسؤولين أو يتساءل عن تبعات وتداعيات هذه الحالة. فماذا يعني عدم توفر الطاقة الكهربائية بالنسبة لأي مجتمع يحترم نفسه ويطمح أن يكون طبيعياً أسوة بباقي المجتمعات المدنية المتحضرة والمتطورة؟ أولا وقبل كل شيء تأتي معاناة المواطنين من فقدان الطاقة الكهربائية التي تحرمهم من أبسط مقومات الحياة المريحة سواء في حر الصيف الذي لايطاق بدون المكيفات والمراوح الكهربائية أو في برد الشتاء القارس بدون أجهزة التدفئة التي تعمل بالطاقة الكهربائية ناهيك عن استحالة تشغيل الثلاجات والمجمدات التي تحفظ الأطعمة والمؤونة الغذائية وتوفير الثلج والمرطبات ولا التلفزيون أو الراديو أو الكومبيوتر ومعه الانترنيت ولا الإضاءة الضرورية للعمل والطبخ والقراءة وغير ذلك من الشؤون الحياتية واليومية حيث تطول فترات قطع التيار لساعات طويلة تتجاوز العشرين ساعة في اليوم بل تصل في كثير من المرات إلى عدة أيام متتالية لاسيما في المحافظات والكثير من أحياء بغداد المحرومة والمهملة. وحتى المولدات الخاصة أو الجماعية لاتفي بالغرض لأن طاقتها محدودة وساعات تشغيلها محدودة والاشتراك فيها مكلف جداً وهي غالباً ما تكون متوقفة لعدم توفر وقود التشغيل أو معطلة لعدم توفر قطع الغيار. وهذا الوضع المفروض على المواطنين يجبرهم على العيش في ظروف تشبه حياة القرون الوسطى ونحن في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. إن انقطاع التيار الكهربائي المستمر يزيد من الأعباء المالية للعائلة العراقية التي تعاني بالأساس من شحة المواد أو رداءتها وارتفاع أثمانها حيث التضخم وغلاء المعيشة في ارتفاع مضطرد. ولاننسى أن أغلب البنى التحتية تعمل بالطاقة الكهربائية فالقطاع الصناعي والأسواق والمتاجر وورش النجارة والحدادة والأدوات الصحية والسمكرة والمستشفيات وغرف العمليات ومحلات التصوير الفوتوغرافي والنسخ ومحلات الحلاقة والمخازن والمحلات التجارية لاتستطيع أن تعمل وتنتج بدون الكهرباء وبالتالي فهي تسجل خسائر هائلة يومياً لايمكن تعويضها فمن المسؤول عن ذلك غير الحكومة والدولة برمتها؟ وحتى المعامل الكبرى والمطابع تعاني من قلة أو توقف الإنتاج والعمل بسبب انعدام الطاقة الكهربائية ولايمكنها الاعتماد كلياً على المولدات العملاقة التي تستهلك الكثير من الوقود والغاز غير المتوفر في السواق بسهولة مما يقود إلى ارتفاع في الكلفة التي تقع في نهاية المطاف على عاتق المواطن نفسه الذي ترهقه كل صغيرة وكبيرة مرتبطة بدوامة الطاقة الكهربائية، ولم تكلف الحكومة نفسها بالبحث عن بدائل ولو مؤقتة ترفع عن كاهل المواطن هذه المعاناة التي لاتطاق والناجمة عن افتقاده للطاقة الكهربائية والكل يلقي المسؤولية على شماعة الوضع الأمني المتردي. لنأتي إلى هذا الوضع الأمني المتردي الذي يتحجج به الجميع ونتفحصه بدقة وموضوعية. من المسؤول عنه منذ سقوط نظام الطاغية إلى يوم الناس هذا؟ في المقام الأول يأتي الاحتلال الذي جلب معه المنظمات الإرهابية الإسلاموية والتكفيرية من القاعدة وأمثالها لتبث الرعب والخراب والتدمير والتقتيل والفوضى تحت ذريعة محاربة القوات المحتلة بينما هي تضرب الشعب وبناه التحتية وقواه المنتجة. وإلى جانب الإرهاب وقوات الاحتلال وما يدور في فلكها من شركات أمنية أجنبية خارجة عن كل القوانين وتسرح وتمرح بحرية وتقتل وتعتقل من تشاء بلا حسيب ولا رقيب، هناك كم هائل من الميليشيات المسلحة الخارجة على القانون ومايدور حولها وفي داخلها من عصابات منظمة وعناصر منفلتة ومجرمة تفرض قوانينها ورؤيتها على الشارع العراقي سواء في جانبه الشيعي أو السني على السواء. فإلى جانب جبهة الجهاد والإصلاح وجبهة الجهاد والتغيير وجبهة الجهاد والتحرير والمقاومة quot; التي تسمي نفسها بالشريفة وكأن هناك مقاومة عاهرةquot;،وعناصر حزب البعث المنحل المسلحة من بقايا الحرس الجمهوري والمخابرات الصدامية وفدائيي صدام، ومجلس شورى المجاهدين ودولة العراق الإسلامية والجيش الإسلامي وكتائب ثورة العشرين وجيش المجاهدين وجيش الراشدين وحماس العراق وغيرها من المسميات والعنوانين التي ما أنزل الله بها من سلطان، تأتي ميليشيات مسلحة أخرى تحت تسميات الصحوات وأتباع البعث المخلوع المسلحة والمجرمة وعصابات المافيا التي تخطف وتقتل وتصفي الناس جسديا وتطبيق شريعتها الخاصة باسم الدين، التي تحاول أن تحكم quot; الشارع السنيquot; حسب تسميتها في وسائل الإعلام.وبالمقابل فرضت علينا المحاصصة الطائفية ميليشيات من نوع آخر وتحت أسماء متنوعة كالمهدوية وجند السماء وجيش المهدي وفيلق بدر وثأر الله وحزب الله وكلها تتصارع بقوة السلاح والقتل والتصفيات الجسدية البشعة والاغتيالات، لكسب النفوذ والزعامة وللتحكم quot; بالشارع الشيعي quot; كما تشير إليه وسائل الإعلام أيضاً. أحد أهم الميليشيات الشيعية هو جيش المهدي الذي أسسه الزعيم الشاب مقتدى الصدر بعد سقوط النظام الصدامي بقليل بحجة تأسيس قوة عقائدية لمحاربة المحتل الأجنبي وبالتالي وضع نفسه كخصم للوجود الأمريكي بعد أن تعاون معه لفترة قصيرة قبل الغزو وتسلم منه أموالاً وأسلحة وأجهزة اتصالات وهواتف خلوية للاستفادة منه بغية المساعدة في إسقاط النظام الدكتاتوري السابق. ومن المفارقات الغريبة أن إسم مقتدى الصدر كان آخر إسم وصل إلى مسامع صدام حسين قبل إعدامه بلحظات في ديسمبر 2006 حيث هتف الحاضرون بإسم زعيمهم الشاب. والدكتاتور المقبور يعرف جيداً إسم الصدر وآل الصدر. فقد أعدم الشهيد الصدر الأول ومؤسس حزب الدعوة المرجع محمد باقر الصدر عام 1980 ثم اغتال إبن عمه المرجع الشهيد الصدر الثاني محمد صادق الصدر والد مقتدى الصدر سنة 1999. وقد استغل مقتدى الصدر وتياره المعروف بالتيار الصدري انشغال الأمريكيين بسحق ومحاربة التمرد السني والمواجهة المسلحة مع إرهابيي القاعدة ليقوي مركزه ويوسع قاعدته الجماهيرية بين صفوف الفقراء لاسيما المقيمين في مدينة الثورة التي سميت مدينة صدام ثم بدلت إلى مدينة الصدر. وقد اعتبرت الولايات المتحدة التيار الصدري مصدر خطر أكبر من خطر القاعدة على العراق، وحاولت عدة مرات النيل منه وتصفيته في فترة بول بريمر وحكومة أياد علاوي منذ صيف 2004 ولم تنجح رغم لجوئها إلى وسائل قانونية لاعتقال مقتدى الصدر وأعوانه بتهمة قتل رجل الدين المشهور وإبن المرجع السابق أبو القاسم الخوئي الذي كان مقيماً في لند ويرأس مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية هناك وهو السيد عبد المجيد الخوئي، والذي عاد في الأيام الأولى لسقوط صدام حسين ثم قامت عناصر من التيار الصدري بقتله بوحشية بعد وصوله إلى النجف بساعات قليلة وربما بأمر مباشر من قبل مقتدى الصدر نفسه. وفي أعقاب تفجير مرقدي الإمامين العسكريين في سامراء اندلعت دوامة من العنف الطائفي الدموي الذي لم يعرف العراق له مثيلاً في تاريخه الحديث كله وكان يقود حمامات الدم والقتل الطائفي والتهجير القسري مجموعات مسلحة سميت بفرق الموت من الجانب الشيعي والتي يعتقد أنها تشكيلات انسلخت أو انبثقت من جيش المهدي، ومجموعات الجهاديين السنة كما يسمون أنفسهم بقيادة المقبور أبو مصعب الزرقاوي وأعوانه من المجرمين والقتلة، حيث انتشر الخطف والقتل والذبح على الهوية.


مايزال المواطن العراقي يرتعب هلعاً من إحتمال خطفه أو توقيفه على يد أزلام إحدى الميليشيات التي تبث الرعب والطغيان في الشارع العراقي أمام عجز الدولة ومؤسساتها الأمنية عن حماية المواطنين ومعاقبة المجرمين. كما يرتعب المواطن من اقتراب الأرتال العسكرية الأمريكية أو الحكومية التي تغلق شوارع بغداد وتثير أزمات واختناقات مرورية مدمرة نفسياً، خوفاً من تعرضهم لهجمات السيارات المفخخة أو العبوات الناسفة، ناهيك عن تحمل المواطنين لسوء معاملة وسلوكيات أفراد الحواجز الأمنية التي تتم وفق معايير طائفية أو مذهبية أو مناطقية وانتهاكات طواقم الحماية الخاصة بالمسؤولين العراقيين والأجانب وتصرفاتهم غير المسؤولة خاصة عند نقاط التفتيش مع أصحاب السيارات حين يسمحون بمرور البعض وبسهولة بينما يمنعون وينهرون البعض الآخر لأسباب واهية أو حتى بدون سبب ويفرضون على أغلب أصحاب المركبات المكوث ساعات طويلة في طوابير طويلة وقد خبرت بنفسي هذه التجربة المرة واشتبكت كلامياً وبعنف مع أحد حراس الحواجز وكاد أن يهينني ويضربني لكنه تراجع بعد تهديدي له فاعتذر بعد أن عرف هويتي وعرفته بنفسي وبعلاقاتي. هذا هو الواقع المرير السائد في العراق اليوم رغم كل الجهود التي تبذلها الحكومة لتحسين الأوضاع وتوفير الأمن لكن الاستقرار ما يزال هشاً وقابل للانهيار في كل لحظة في حالة تفاقم المواجهة بين الميليشيات وقوات الحكومة، وقد لايتردد أحد أمراء الحرب كمقتدى الصدر في شن حرب شعواء مفتوحة تأكل الأخضر واليابس وتريق أنهار من دماء العراقيين الأبرياء لإرضاء غروره وفرض نفسه بالقوة وتأمين مصالحه ومصالح أعوانه.

الحلقة الثانية

د.جواد بشارة

بغداد
[email protected]