من المسلمات الأساسية في حياة منطقة الشرق الاوسط ان الأمة العراقية مرت بفترة عصيبة من الحكم الاستبدادي الجائر الذي مسح من قاموسه كل كلمة من مفردات حقوق الإنسان وعدم مراعاة المجتمع العراقي والمجتمع الدولي بصورة منظمة، معبرة عن دهاء سياسي مبطن بكل سمات الشر مغلف في عين الوقت بكل سمات التزويق والتجميل للنظام الحاكم، لتجميل الصورة والإطار الخارجي لسدة الحكم اعتمادا على نقل صورة زاهية مصطنعة إلى الخارج لإظهار النظام بمنظر لائق أمام المجتمع الدولي، مع كبت وقمع أي صوت يتصدى بوضوح لحقيقة الحكم أمام المجتمع الإنساني، ورافقت هذا الواقع سياسة موازية لترويض الأمة العراقية لحروب وكوارث لم يخرج العراق منها الا مجروحا ونازفا.

واليوم بعد وضوح الصورة وظهور الحقيقة، بعد سقوط نظام الحكم الصدامي في بغداد، تفاجا العرب بالسرعة غير المتوقعة لاندحاره، وتفاجئوا اكثر بالصورة المخفية لواقع الحال العراقي ابان الحكم الاستبدادي، فظهر ما يقلب الصورة المرسومة عند العرب عن النظام السابق من احداث ماساوية وافعال اجرامية وسلوكيات همجية لتصرفات الحكم البائد، حتى جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير، بغزوه دولة الكويت، فحار العرب من الغزو لحد الان لشدة الصدمة، وثقل تقبل الهزيمة التي لحق بنظام عربي نتيجة السقوط، فتاه عليهم الليل من النهار، وتاه عليهم الليل من النهار، فحار بهم الامر شدة وقسوة، حتى بات لا يفرقون بين شمس الحرية ولهيب القمع.

والمؤسف، أن هذه الشعوب، مكسورة يتشدق بها كل من حمل لواء الزعامة المتسلطة المغرزة بالجماجم، والمغرسة بسيول من الدماء، والفارضة على نفسها قدسية لم يحلم بها لا الانبياء ولا الخلفاء ولا السلاطين ولا المماليك في كل العهود الماضية والحديثة، حتى بات لكل أنسان في المحيط المجاور للعراق وفي الجزيرة والشرق الاوسط والشمال الافريقي، ان تكليف تحديد الحكم قد عاد من جديد واختير بالتحديد في ان يكون بايدي سلاطين وملوك وروؤساء للنظام العربي الذي ذاق بهم الدهر، طول الزمان والمكان، سلاطين محتكرين عبقريتهم الفذة فقط في استنباط انماط جديدة من القمع والاستبداد لاضطهاد الشعوب في ربوعهم، فابتلى بهم العرب والاسلام، حتى ضال بهم الامر في الامة الاسلامية، ففاح عليهم عطر القمع ورياحين الاستبداد ونسائم الاضطهاد، فلا نرى للانسان غير كتلة مادة لا حس فيها ولا روح، لا نطق لها ولا نظر، لا صوت لها ولا بصر، لا ولادة فيها ولا موت، لا تجديد فيها ولا تمويت، لا تخليق فيها ولا تطليق.. كل ما لديها حركة واحدة، لا يسار فيها ولا شمال، لا امام لها ولا خلف، حركة مأمورة، حركة جامدة محكومة بالموت لا نبض فيها بالحياة، حركة مسترشدة باصبع السلطان، حركة مسترشدة بجفون جلالة الملك المعظم، حركة مسترشدة بعيون الرئيس الهمام، حركة مسترشدة باكتاف القائد الملهم..؟؟، فتصفق لها افراد أمة معاوية بن ابي سفيان ويزيد بن سفيان، وتتنافق بها افراد من النافقين، وتتشادق بها افراد من المهزومين، وتتغنى بها افراد من امة مسيلمة الكذاب.

أجل هذا الواقع المؤلم، تتوالى فيه حسرات الانسان في حاله وواقعه ومعيشته، حسرات فيها الم وفيها زفرات جروح غائرة، فانسان هذه الشعوب، قد تربى في اجواء تسلط، واخذ تعليمه من منهل التعليم القمعي، وتوظف تحت امرة اناس متسلطين، واشتغل في سوق فيه تجارة فيه انتهازية وتسلط واحتكار واستغلالhellip; كل هذا قد تربى عليه في الصغر والكبر، كبارا وصغارا تعودوو على ذلك، تعلموا على الخضوع لمتسلطين، تعلموا ليكونوا طائعين صاغرين لهمhellip; هذه هي التربية العربية، هذه هي التربية الاسلامية التي فاح منها روائح عتق الزمان ودهر الازمان.

بعض سلاطين هذه الشعوب، ذبحوا العراقيين وأرادوا أن يقضوا على العراق، مشاركة مع دولة مجاورة تحادي مياه الخليج تريد أن تعيد أمجاد امبراطوريتها على حساب شعوب المنطقة، هذه المشاركة في الذبح والقتل للنفوس البريئة من العراقيين، جاءت، بعد أن نالوا حريتهم وأعادوا كرامتهم مع سقوط صنم الاستبداد والطغيان، فلم تطول فرحتهم، وانهالت عليهم نيازك الدمار وشهب النار من دهاليز الدول المجاورة، وكأنها ساحة للتصفيات الدولية والسياسية والمذهبية، فدفع العراقيون ثمنا باهضا لهذا الصراع المخفي بين دول الجوار، طيلة السنوات الماضية.

واليوم، بعد أن استرد العراق عافيته، واخذ يقف على مرتكزاته الوطنية والدستورية، متجاوزا عتبة الانهيار التي أرادوا أن يصلوا بالعراق اليها غدرا وفتنة وجورا من ظالمين يقبعون خارج الحدود، وبدأ بفرض وجوده على الساحة، وفرض هيبة الدولة على الميليشيات والمجموعات المسلحة المدعومة من الخارج، ويحاول بسط القانون على كل بقعة من أرضه، هذا العراق الذي لم يسانده احد من العرب وغير العرب، عدا الجهد الامريكي في تحريره وفي اطفاء الديون المستحقة عليه، يجابه اليوم بمزيد من الإصرار العربي على فرض وبقاء أعباء الديون عليه، ويجابه بالاصرار على عدم فتح حضور دبلوماسي عربي في بغداد، بحجج واهية لا أساس لها ولا صحة، لان النية هي المفقودة بالاساس، فلا نيات سليمة لهم تجاه العراق الفيدرالي التعددي الدستوري، ومواقف الدول المجاورة في مؤتمر الكويت دليل على ما هذا الأمر.

لهذا، نجد ان هذه المواقف المتسمة بالسلبية الشديدة، ما هي الا نوع آخر من الاستبداد الذي يتصف به البعض من أهل السلطة الحكم في البلدان العربية، وهو امتداد لتاريخ سابق مسجل ومتسم بالاستبداد والطغيان، فسجن الشعوب ضالتهم، وقمع الحرية والكرامة مذهبهم، والعراق الجديد بالرغم من آلامه وجروحه، قد كسر هذا القيد، ورمى بهذا التقليد، وبدى ينهض من جديد، وهذا النهوض لا يرغب به، في المحيط الاقليمي، لهذا تبقى الإعاقات مرمية له ليتعثر في طريقه، ولكن ما يفرح العراقين، أنهم قد جاوزوا العتبة المهلكة، وأنهم بدأوا يستردون زمام الإمور في إدارة البلاد، بعد خمس سنوات من الآلام المبرحة التي تعرضوا لها، وهذا النهوض المبني على تحمل الصعاب، قد أشرق بهمة المخلصين، رغم مرارة بعض الهواجس الداخلية من فساد وغياب خدمات، ولكن المهم أن العراق بقي وسيبقى مرفوع الراس بعيدا عن الاستبداد والطغيان الذي لا زال يسود بعض الشعوب العربية ودولة مجاورة للعراق، وبعيدا عن استبداد السلطة، الذي حل محله دستور من أرقى الدساتير ليحكم بإدارة الأمة العراقية، ضمانا لحاضرها ولمستقبلها، وهذا فخر للعراقيين، وهو بلا شك سبق حضاري للعراق الجديد.

د.جرجيس كوليزادة
[email protected]