يجري أحيانا تعريف العولمة وكأنها اختراع أمريكي من أجل الهيمنة على العالم. لكن هل العيب في العولمة حقاً أم في سوء استثمارها؟ ان المميزات الاقتصادية والتكنولوجية العظيمة للعولمة لا سبيل الى نكرانها، وبات من غير الممكن الاستغناء عنها عند التخطيط للتنمية أو حتى لأي مشروع كبير. إضافة الى ذلك نحن نستخدم منجزات العولمة في حياتنا اليومية والمهنية بل وحتى في وسائل التعبير عن معارضتنا للعولمة! فالأخيرة، مثلها مثل الصناعة، مرحلة ضرورية لتطور المجتمعات البشرية. لكنها، مثلها مثل الصناعة أيضا، يمكن أن يحْسَن أو يساء استخدامها.


ثمة عاملان وراء التقديم السلبي للعولمة: الأول هو كونها صدرت بالأصل من أمريكا، فارتبطت الصورة السلبية لسياسة أمريكا الخارجية بهذه الظاهرة ارتباطا quot;مسبقاًquot;، جاهزاً يلخصها بأنها ضرب من ضروب الهيمنة الأمريكية. وربما يمنع هذا الحكم المسبق من التعرف على الظاهرة بموضوعية. والعامل الثاني هو ارتباطها بما حصل من فساد وإفقار وتلوث بيئي في بلدان معينة.


في ما يخص العامل الأول أجد من الطبيعي أن يكون الغرب عموما، وأمريكا خصوصا، مصدر الظواهر الجديدة في التطور الاقتصادي والتقني. العولمة ليست قرارا سياسيا أمريكيا وإنما فتح جديد في تأريخ التطور الرأسمالي، وقد وصفت بأنها عولمة رأس المال ولكن هذا يعني أي رأس مال في العالم وليس الأمريكي فقط. لقد ولدت نتيجة تفاعل عدة تطورات (صناعية، تكنولوجية، ثقافية) وتراكمات (مالية، انتاجية، معرفية) في الغرب تحديداً. البلدان النامية تبتكر أساليب جديدة في مايخص المسائل الحيوية فيها (مثلاً طريقة البنغالي محمد يونس الباهرة في مكافحة الفقر) فلا غرابة في أن تبتكر البلدان المتقدمة أساليب جديدة في ما يخص المسائل الحيوية فيها.


أما العامل الثاني فيquot;سوء سمعةquot; العولمة، وهو ارتباطها بالفساد المحلي، فيبدو لي زعماً شمولياً بعض الشيء. إن كون الفساد، والافقار الجماعي، والتخريب الاجتماعي، والانهيار الاقتصادي، تحصل في بعض البلدان النامية التي تحرر أسواقها ولا تحصل في الغرب (مصدر العولمة) يشير الى ان العيب ليس في العولمة ذاتها وإنما في البيئة السياسية التي توجد فيها. في الغرب لا يستطيع الرأسمالي أن يستهتر بحقوق العمال، أو يضر بالبيئة أو بالصحة العامة، أو يفلت من الضرائب، او يرشي مسؤولاً في الدولة، ولكنه بمقدوره ذلك في بلدان تحكمها أنظمة فاسدة أو لا يسود فيها احترام الكرامة الانسانية. لذلك أزعم ان تعاملا مثمرا مع العولمة يوفره نظام سياسي نظيف، ومساواة حقوقية، وقوانين عمل عادلة، وقضاء حر، وتشدد ضريبي، وشروط حماية للبيئة وللصحة العامة. بخلاف ذلك لا يستغرب أن تتسبب العولمة في ما تسببت به من مصائب جماعية رهيبة مثل انقسام مدينة بنجالور الهندية الى قسمين لا يعرف أحدهما عن الآخر شيئا: قسم يفتقد القوت، بل وحتى الماء في بيته وقسم آخر ـ يضم الشركات ومرافقها ـ ينعم بالرفاهية والبذخ؛ أو مثل قوافل المنتحرين من عمال آسيا في الامارات العربية، أشهر مراكز العولمة في الشرق، بعد تعرضهم لاستغلال لا يصدق (راجع تقرير منظمة حقوق الانسان حول الأوضاع في الامارات)؛ أو مثل مظاهرات الخبز وأحداث 6 أبريل 2008 في مصر.


أريد فقط التذكير بأنها تدعى العولمة وليس الأمْركة! لا شك بأن الشركات الأمريكية تتمنى أن تكون العولمة وسيلة بيدها لالتهام البلدان، وربما كان هذا حلمها في البداية ولكن يوما بعد آخر تبين أن هذا بعيد المنال وذلك بسبب خصائص العولمة ذاتها؛ فالأخيرة لا تنسجم مع المركزية ولا حتى مع القطب الواحد، وهو أمر يلمسه المنتجون في دول الاقتصادات الناشطة ولكننا لا نلمسه في بلداننا العربية لأننا وضعنا أنفسنا في موقع الضعف من عملية التبادل الانتاجي والمالي والمعرفي في العالم فصرنا ضحايا القطب الواحد. نحن لا ننفك نكرر بأننا ضحايا هجوم الاقتصادات القوية لأننا لم نفكر يوما بأن يكون لنا اقتصاد منافس عالمياً quot;نهجمquot; به ـ بدورنا ـ على الأسواق التي فتحتها العولمة. لقد اختارت أنظمتنا الحاكمة أن نظل مصدرين للمواد الأولية ومستهلكين للانتاج العالمي، فاختارت أن تكون بلداننا ضحايا.

إن أمريكا تعمل جهدها لاستغلال الدول عن طريق العولمة لكن الرد المتوقع من البلدان النامية، وهو ما قامت به بالفعل عدة دول، هو جعل العولمة ذاتها ساحة صراع ضد الهيمنة الأمريكية وليس رفض العولمة جملة وتفصيلا.

سمير طاهر
[email protected]