بالرغم من التطور التكنولوجي وعصر الإنترنيت وسهولة الحصول على المعلومة والخبر العاجل إلا إنه تبقى الخطابة المؤثر الأهم في نفوس الجماهير بمختلف إتجاهاتها وانتماءاتها.. وكذلك بمختلف اللغات التي يتكلمها الناس وتبقى هي أي الخطابة لها التأثير الكبير في أية قضية يراد طرحها ووضع الحلول المناسبة لها.....

وعن نشأتها جاء في ويكيبيديا ( الموسوعة الحرة ).. إستعمال الخطابة في المحاكم اليونانية على يد كراكس ( corax ).. في القرن الخامس قبل الميلاد وفي روما إشتهر سيسرو ( cicero).. كأول خطيب لروما في القرن الأول قبل الميلاد.. واستخدم الأنبياء الخطابة في الوعظ والإرشاد ودفع الناس عن عبادة غير الله ومارسها الرسول محمد ( ص ) وأهل بيته ( ع ) في دعوة الناس إلى الإسلام والإبتعاد عن الفتن. إنتهى....... وكان للعرب قديما ًالإهتمام الواسع بهذا الفن كغيرهم من الأمم فقد كانوا يقيمون للكلمة أسواقا ًومعارضا ً.....

وقد قال إبن قتيبة في ( مشكلات القرآن ).. والخطيب من العرب إذا إرتجل كلاما ًفي نكاح أو حمالة أو تحضيض أو صلح أو ما أشبه ذلك.... لم يأت به من واد واحد بل يتفنن فيختصر تارة إرادة التخفيف ويطيل تارة إرادة الإفهام ويكرر إرادة التوكيد ويخفي بعض معانيه حتى تغمض على أكثر السامعين ويكشف بعضها حتى يفهمه بعض الأعجمين ويشير إلى الشيء ويكني عن الشيء وتكون عنايته بالكلام على حسب الحال وقدر الحفل وكثرة الحشد وجلالة المقام..... ثم لا يأتي بالكلام كله مهذبا ًكل التهذيب ولا مصفى كل التصفية بل تجده يمزج ويشوب ليدل بالناقص على الوافر وبالغث على السمين ولو جعله كله من بحر واحد لبخسه بهاه وسلبه ماءه ومثل ذلك الشهاب من القبس يبرزه الشعاع والكوكبان يقترنان فينقص التوازن والسحاب ينتظم بالياقوت والمرجان والعقيق والعقيان ولا يجعله كله جنسا ًواحدا ًمن الرفيع ولا النفيس المصون. إنتهى كلام إبن قتيبة ( رحمه الله )...... وكان العرب قديما ًيمتازون
بنقل الخطابة إلى مختلف البقاع التي يستوطنونها على لسان حفاظ الكلام من غير الخطباء أي إنه عندما يفرغ الخطيب من خطبته تكون الخطبة قد حفظت من قبل البعض ثم نقلت إلى أماكن أخرى كما لو أنها نقلت مكتوبة على صفحات الإنترنيت في وقتنا الحاضر...... لأن سمة الحفظ كانت ضمن البديهيات التي يمتازون بها وهذا لا يعني أن الحافظة تضعف وتتلاشى بمرور الزمن أو أن إنسان ذلك العصر أفضل من إنسان اليوم ولكن الذي جعلهم في هذه الدرجة من الحفظ هو الحاجة لها فعند الحاجة للحفظ فإن الإنسان يستعين بالقابل الذي يساعده على ذلك لعدم توفر الورق أو الجهاز الحافظ.....

وقد نجد هذا في أنفسنا كيف كنا نحفظ أرقام الهواتف قبيل ظهور التلفون النقال ( الموبايل )... أو العقل الحافظ للأرقام وعند توفر هذا العقل فنحن لسنا بحاجة للحفظ.... ولا يعتبر هذا عيبا ًأو نقصا ًلأن طبيعة العلم توفير الجهد للإنسان وهذا يحسب له لا عليه.... إذا ًللخطابة الدور المؤثر في جميع المراحل في حال توفرت شروطها في الخطيب لأن مهمته أكبر من الأجر الذي يعطى له مقابل ما يقدم من فنون الخطابة والخطيب الناجح عليه أن يلتزم الشروط الواجب توفرها فيه لأن الذين يرتقون المنبر دون وعي وهدفهم الإستهانة بعقول الناس كثر ولا يمكن أن نحصيهم فكلامنا إذا ً مع الخطيب الذي يجعل أحداث الساعة والمصلحة العامة فوق حقوقه الشخصية ولنبدأ بهذه الشروط قبيل إرتقاءه المنبر واستعداده لذلك ولا يمكن أن يكون هذا الإستعداد قد أخذ لوازمه إلا إذا كان هذا الخطيب يمتاز بالعلم وجوامع الحديث بحيث يستطيع أن ينقل المتلقي إلى أجواء متعددة ومتشعبة وقبل البدأ وتعيينه العنوان المناسب للمحاضرة عليه جدولة ما يريد طرحه دون الإعتماد على الورق أو التلخيص أثناء الإلقاء لأن هذا من الأمور المعيبة التي تحصل للخطيب وتكون ثقيلة على سمع المتلقي وعليه أن يأتي بالكلام سلسا وبسيطا ًويكون على إعتقاد تام بأن الجالسين تحت منبره منهم من هو أعلم منه ومنهم من هو دون ذلك فعليه أن يلتزم الإسلوب الذي يرضي الجميع وكذلك عليه الإحاطة وتوجيه النظر بالتتابع إلى من هم جلوسا ًعنده لأجل أن يوصل أكبر قدر من العلوم في أقصر وقت دون أن يأتي بأشياء لا تفيد الجليس والهدف منها ضياع الوقت كما يفعل ذلك الأجير الذي يرتقي المنبر وعلى الخطيب أن يترك الإيماءات وتحريك اليد كثيرا ًلأنها تخل بالخطبة وتعتبر مكملة للغة الخطيب بدلا ًعن لسانه ومن أهم الشروط الواجب توفرها في الخطيب هي الأمانة في النقل ونسبة الآراء إلى أصحابها وتنبيه المتلقي عند نهاية القول المنقول حتى يعلم إن القول المستأنف هو للخطيب وهذا ينطبق على الكاتب أيضا ًحرصا ًعلى حقوق الآخرين والمحاضرة أو الخطبة لا يمكن أن تكون مادة دراسية بحتة بحيث تثقل على الجليس وإنما مادة محببة ممزوجة بمختلف المواصفات الطريفة والأدبية والعلمية وعنصر المفاجأة الذي يعتمده الخطيب لجعل الجالسين على حضور تام طيلة الوقت.........

أيضا ًعلى الخطيب الإبتعاد عن التكرار الممل وكذلك الإبتعاد عن توضيح الواضحات لأن هذا من أشكل المشكلات وعلى الخطيب أن يراعي عامل العصر والعقد والمتاعب والأزمات والهموم المعاشية وغيرها من المتاعب الكبيرة قياسا ً إلى العصور السابقة وإن كان لكل عصر همومه الخاصة... ففي السابق ممكن تذكير الناس ببعض رؤوس الأقلام لتفهم المادة أما اليوم فلابد من إستيفاء كل شيء لأن جاهل الأمس هو عالم اليوم.... فلا يكفي الحديث الجزئي دون التوسعة والإحاطة وهذا لا ينافي البلاغة التي هي الحصول على المعنى بأقرب الطرق والتكلم بمقتضى الحال..


وتبقى هنالك بعض الأمور الخاصة لكل خطيب في طريقة تحضيره للمحاضرة فمنهم لا يحتاج لهذا التحضير إطلاقا ًفهو حين يضع العنوان يتبادر إلى ذهنه ما يريد وبعضهم يعتمد التلخيص ودراسة المادة ثم ينهي كل هذا حين صعوده المنبر والخطبة الناجحة أو المحاضرة كما يعبر عنها اليوم يجب أن تتضمن ثلاثة عناصر.. وهي المقدمة وموضوع المحاضرة والنهاية.. وعلى المحاضر أن يمد جسرا ًبين هذه العناصر ويكون الهدف من ذلك الجسر هو ربط ذهن المتلقي والإنتقال به من مرحلة إلى أخرى حسب نوع المحاضرة فإذا كانت في التفسير أو الأدب يكون الربط فيها متمثلا ً بمقاطع من الشعر والحكم والمواعظ وطرح ما يتوقعه من أسئلة لدى الجمهور إلى نفسه والإجابة عليها لأجل أن يغنيهم عن سؤاله بها وإذا كانت المحاضرة علمية أيضا ًلها شروطها من التركيز على وسائل الإيضاح وغيرها من الأمور التي تطلب من أصحابها..... ولو أجرينا دراسة معمقة للخطابة نجد إنها تتمثل بعدة مصاديق بغض النظر عن المكان والزمان والحشد فممكن أن يوجه الخطاب إلى صديق ويأخذ أحد مصاديق الخطابة كما حدثنا القرآن الكريم عن صاحب الجنتين كيف تلقى خطبة الوعظ من صاحبه كما قال تعالى ( قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ) الكهف 37.. واستمر بتوجيهه في الآيات التالية لهذه الآية بما يناسب مكانة المتلقي في الفهم وإن شئت قل المتكلم لأنه لم يذكر مراحل خلق الإنسان الأخرى كوجود تلك النطفة في القرار المكين ومراحل العلقة والمضغة والعظام وكسوها باللحم فهو تجاوز كل هذا وذكر ثلاث مراحل فقط وهي التراب والنطفة وتسويته رجلا ً لأن مقتضى الحال يتطلب ذلك...... وكذلك ممكن أن توجه الخطابة إلى الإبن كما هو الحال مع لقمان وكيف كان يوجه إبنه إلى طاعة الله تعالى كما قال عز من قائل ( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) لقمان 13... وممكن أن توجه إلى الأهل بصورة عامة كما قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم نارا ًوقودها الناس والحجارة...... الآية ) التحريم 6... ونوع آخر من الخطابة يوجه إلى الجمع الكبير من الناس كما قال تعالى حاكيا ًعن موسى ( واحلل عقدة من لساني ** يفقهوا قولي ) طه 27 - 28.. وقد جمع تعالى كل هذا إضافة إلى خطاب أصحاب الشرائع الأخرى في قوله ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) النحل 125....

ولو تتبعنا تأريخ الأحداث بعد نزول الكتب وإرسال الرسل أي بعد المرحلة التي يطلق عليها الفترة نجد الخطابة أخذت طابعها الجديد المتمثل بالحث على أمور الدين والدنيا للوصول بالبشرية إلى بر الأمان المستمد غايته من تلك الكتب وكان لأصحابنا بعد نزول القرآن الكريم الدور الكبير في تغيير الخطابة تلك التي كانت تدعو إلى الهمجية والحروب اللاشرعية إلى رسم مرحلة جديدة من صنع الإنسان وبالتالي تكون الأمة هي التي تحمل الرسالة إلى كافة أرجاء الأرض وبالفعل حدث ماحدث وكان ما كان ودخل الكثير من الناس في دين الله أفواجا ًلما أثرته تلك الخطابة في نفوس الناس.....

أما اليوم فإن الخطابة لا تدعو الناس إلى الدين وإنما تجعل أصحاب هذا الدين يطوفون في الأرض بحثا ًعن دين آخر بسبب جهل الخطباء وعدم ورعهم وانهماكهم في طمع الدنيا وتمجيد السلطان وإذا جاء وقت خطبة الجمعة تأتي معها المأساة الكبرى التي تجعل أصحاب الديانات الأخرى في الدرك الأسفل من ألسنة هؤلاء الخطباء الذين بدل أن يتمسكوا بقوله تعالى [ وجادلهم بالتي هي أحسن ]..


نراهم يدعون إلى الشقاق والتفرقة وكأن الآخرين يعيشون في كوكب آخر.. هذا بالنسبة إلى أبواق خطباء الجمعة أما خطباء المنبر من أصحابنا فإنهم يقومون بدور التنعيم لخطباء الجمعة بسبب تفريقهم بين المذاهب والدعاء إلى الجهل والضلال فكأنهما [ كل ما شد أحدهما واستلحم شد الآخر واستنقذه ].. وصدق تعالى حين قال ما ذكره الشيطان بحق هؤلاء.. ( ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا ًمن دون الله فقد خسر خسرانا ًمبينا ) النساء 119.

عبدالله بدر إسكندر المالكي.