عندما يتم طرح موضوع ( آفاق الماركسية واليسار ودور الطبقة العاملة في عهد العولمة ) للبحث يمتلكني الخوف إلى درجة الأنبهار، وتستبد بي رغبة جامحة قاتلة نازفة للتعرف على الأقل على ملامح وبوادر وأولويات سمات المدخل، فالموضوع أبعد من حدود أبعاد المخيلة التي قد تخدم فانتازيا سياسية، وأبعد عن عبارات التشهي والمجاملات التي نغدق بها من كل حدب وصوب ونتشدق بها لأحتيالات وتدليس سياسي، وأبعد في التصور والإدراك من الأكتراث الجزئي لبعض أو مجمل المنطلقات الفلسفية والأبستمولوجية ndash; الغنوصيولوجية، فهو الدمج مابين الجزئي والكلي، ما بين الأرضي واللاأرضي، مابين الأدراكي السياسي القلسقي الأقتصادي الأجتماعي الرياضي الفيزيائي الكيميائي التاريخي، أنه التصور الدائري التصاعدي الذي يتجاذب نحو الحقيقة النسبية المتكاملة، أنه النمو العلمي، وكيف يمكن أن يكون النمو علمياً! هذه هي إحدى أهم الأشكاليات في فكر ماركس، وهذه الأشكالية مزدوجة في الموضوعية وفي الوضعانية، في الموضوعية في ذاتها، وفي الوضعانبة لذاتها، والعلاقة مابين ( الموضوعية في ذاتها ) و ( الوضعانية لذاتها ) تحتاج بخصوص وعيها إلى إشكالية أخرى، هي إشكالية وعي الضرورة، وكيف يمكن لي ولك وللآخرين إدراك هذا التصور والتقيد العلمي المعرفي بأستنطاقات وحيثيات هذا التصور! تلك هي إشكالية ثالثة، هي إشكالية ( إشكالية وعي الضرورة )..


كي تتحدد الصورة تناغياً مع مستوى البحث، لامندوحة من تبيين الملاحظات التي تعين مسالك ومسارب خيوط وخطوط هذا الموضوع برمته.... الملاحظة الأولى: ماالمقصود من مفهوم التاريخ؟ أي ما هو التاريخ؟ هل هو الزمن بكل بساطة! ثم ما المقصود من كلمة الزمن! هل هو حركة الأجرام السماوية! وخاصة بالنسبة لنا سكان الأرض هل هو دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس! أم هو الزمكان، أي علاقة الأرتفاع والطول والعرض والزمان بمنطوق التكوير! وإذا ما ركزنا على محتوى إن العلاقة ما بين التاريخ والزمن هي التي تقيس لنا أبعاد مدلول التاريخ، فكأننا ننتحر على قارعة موت الفكر والجدل، كاننا نتغافل عن المعنى المشخص للأشياء وننفي فيما بينها كل أنواع مفهوم العلاقة، أي كأننا نحصل على تاريخ فارغ، خارج ذاته، تاريخ مطلق كالزمن المطلق، وهذه المسألة في رأي لاتصمد إزاء الدحض والتفنيد، فالتاريخ الزمني هو لاتاريخ إلا لذاته، يحتاج إلى علاقة و فحوى، علاقة تغوص إلى المعاني، وفحوى يتركز نحو تلك المعاني وتطوراتها. وهذه قضية لاأتجاسر على مناقشتها الآن.... الملاحظة الثانية: ماالمقصود من مفهوم التاريخ؟ أي ماهو التاريخ؟ هل هو الحدث بكل بساطة! ثم ما المقصود من كلمة الحدث! هل هو الحدث الذي أقوم به أنا، أم الذي تقوم به أنت، أم الذي نقوم به نحن! أم هو ما يغزله المجتمع وجدله! أم هو ما يغزله الوجود، الكون، الأكوان! وإذا ماركزنا على محتوى إن العلاقة ما بين التاريخ والحدث هي التي تعين لنا أبعاد مدلول التاريخ، فكأننا ننتحر على قارعة موت التطور والصيرورة، كأننا نتغافل عن المعنى الواعي للموضوعي، وننفي عنه كل أنواع الغايات، أي كأننا نحصل على ناريخ هو حصراً تاريخ الواقع فقط، تاريخ موت الضرورة، تاريخ موت الغاية، فالتاريخ الحدثي هو لاتاريخ إلا للآخروي، يحتاج إلى نهج وميكانيزم، نهج يغوص إلى المفاصل، وميكانيزم يحدد العلاقة ما بينها كطرف متأصل في القضية..... الملاحظة الثالثة: ماالمقصود من مفهوم التاريخ؟ أي ماهو التاريخ؟ هل هو جدل خارج الطبيعة، خارج المحسوس، خارج الأنساني، خارج التكويري، خارج الآلة العلمية، خارج العلاقة! أي هو متعلق في هويته وكنهه وماهيته ومعناه بما هو ( خارجنا )، ولايهم هنا لاأسم ولا معنى هذا الخارجي، لأننا نغدوا عندئذ أشباح، أنعكاسات مرآتية، أجندة تافهة تابعة للأصل المفترض الموهوم وخاضعة له ليس كعنصر في اللعبة إنما كظل لللاشيء. وهكذا نكون في حال مزيفة لامعنى لها، ولامعنى لجملنا ولكلامنا، ولامعنى لمنطقنا، لأننا يكل بساطة نكون نحن الخارجي عندئذ ويكون هو الداخلي، المعنى، الغاية، الوجود.... الملاحظة الرابعة: ماالمقصود من مفهوم التاريخ؟ أي ما هو التاريخ؟ هل هو جدل الطبيعة وتناقضاتها بكل بساطة! ثم ما المقصود من عبارة حدل الطبيعة وتناقضاتها! هل هو ما يطرحه كارل ماركس من مقولات الأستغلال، الأستعباد، التناقض، صراع الطبقات، مبادئ الجدلية، الأغتراب، ولادة الدولة والقانون وأنطفاؤهما، علاقات الأنتاج، الخ! يؤكد ماركس وجود خمسة مراحل جوهرية في التاريخ هي التشكيلات الأقتصادية التاريخية، التشكيلة المشاعية الخالية من الأستغلال والأستعباد والتناقض، وتشكلية الرق والعبودية حيث تتولد فيها، ولأول مرة في التاريخ، تاريخ المجتمع المدني السياسي، كافة المقولات السابقة التي تستمر في وجودها في التشكيلة الثالثة الأقطاعية وفي التشكيلة الرابعة الرأسمالية وفي المرحلة الأولى الأنتقالية من التشكيلة الخامسة الأشتراكية، وتنطفئ في المرحلة الثانية من التشكيلة الخامسة وإلى الأبد بفضل وعي الضرورة لدى الطبقة العاملة. مع أخذ العلم، وهذه نقطة أرجو الأنتباه إليها، إن علاقات الأنتاج هي ماركسياً تحدد السمة الأساسية للنشكيلة الأقتصادية التاريخية، كما أنها تجدد عند الأنتقال من تشكيلة إلى أخرى. وتحديداً حينما تحل علاقات أنتاج جديدة التي تنشأ بفضل تطور الآلة العلمية محل علاقات الأنتاج السائدة، فإن تشكيلة جديدة تبدأ ضمن النسق والنظام الكاملين في القضاء على التشكية السائدة....
أي، واعتماداً إلى ما سبق هذه النقطة الأخيرة، نتحقق بكل بساطة ووضوح، إن مبادئ المادية الجدلية لاتنطبق في كل مراحل التاريخ لافي المرحلة الأولى ( المشاعية ) ولا في الجزء الثاني من المرحلة الأخيرة ( الأشتراكية، الشيوعية ) لأنتفاء وأنطفاء الأستغلال، الأستعباد، التناقض، الطبقات وصراعها، الدولة، القانون. وهي ليست قوانين الطبيعة إلا في مرحلة محددة، تلك المرحلة التي تناظر تحديداً مرحلة الأغتراب فقط، المرحلة الوسطى في دورة الكمال التاريخي. وهنا، إذا كنا نؤمن، أنا وأنت وماركس، بمصداقية وحتمية مبادئ المادية الجدلية، ينبغي أن نقر إننا إزاء إشكاليتين، وإشكالية إضافية أخرى. الأولى. ماقيمة هذه القوانين، مبادئ المادية الجدلية، إذا أدركنا أنها لاتستحوذ على قيمة مطلقة في أنطولوجيتها، بدليل أنها لاتنطبق في جميع مراحل التاريخ. ثم ألا يعني هذا أنها ليست مبادئ الوجود العام الكلي. أم ينبغي أن ندرك تماماً إن نسبية الحقيقة لاتلحق مفهوم تطور الأشياء في الطبيعة وحده، إنما تلحق أيضاً المبادئ التي تستحكم به، وهذه مسألة مفتوحة، لأن الأيمان بالأتجاهين يولد أشكاليات جديدة خاصة بكل إتجاه على حدة، وقد نطرح هذه الأشكاليات في كتابات قادمة. الثانية. ما هي القيمة الفعلية لمفهوم وعي الضرورة الذي يتدخل لأول مرة بصورة حاسمة إلى جانب علاقات الأنتاج في مسألة الأنتقال من تشكيلة تاريخية إلى أخرى. ويلعب دوراً مميزاً وفريداً في التخلي الذاتي عن مفهوم الأستغلال، الأستعباد، القانون، الدولة، وبالتالي أضمحلال هذه المقولات. ثم ما هي الضمانة الأكيدة ( درجة الحتمية ) في تحقيق هذا التصور. ثم ألا ينم هذا عن تناقض ما في نسقنا ونظامنا قي علاقة الوجود بمبادئه وعلاقة الطبيعة بقوانينها إذا ما أضفينا تلك القيمة على مفهوم الوعي، وعي الضرورة. وهنا قد تتدخل دالة الأمتلاء في تحديد العلاقة ما بين الحاجة والوعي، بحيث يبدو هذا الأخير وكأنه عنصر من عناصر الحاجة وبالتالي جوهراً مقوماً لممفهوم الضرورة. الأشكالية الثالثة الإضافية. ماالمقصود من مفهوم التاريخ هنا! هل هو تاريخ الأستغلال والأستعباد المطابق للمرحلة الوسطى قي دورة الكمال التاريخي! أم ما هو هذا التاريخ الذي يناسب التشكيلة الأقتصادية التاريخية الأولى، والمرحلة الثانية من التشكيلة الخامسة والأخيرة! أم أن تعريف ومحتوى التاريخ هما الآخران مرهونان بدرجة التطور المحايث الفعلي....


وهكذا، تترائ العلاقة الحدية، من جهة مابين الموضوعية في ذاتها والوضعانبة لذاتها، ومن جهة أخرى ما بين وعي الضرورة و دوره التاريخي، ومن جهة ثالثة ما بين التاريخ نفسه ومعناه والمقصود منه ودرجة تطوره، ومن جهة رابعة ما بين إشكالية وعي الضرورة و إشكالية الأشكالية. وهكذا تترائ لنا أبعاد المدخل الحقيقي إلى إدراك موضوع آفاق الماركسية واليسار ودور الطبقة العاملة في عهد العولمة.. وهذا سيكون حديث الحلقة القادمة...

هيبت بافي حلبجة
[email protected]