يعتقد بعض المفكرين أن الدين مساهم رئيسي في تراجع الحداثة والعصرنة والديموقراطية، فيما يرى آخرون أن ولادة الحداثة وظهور المجتمع الديموقراطي الحديث أدى إلى تراجع دور الدين.


يلاحظ ألكسيس دو توكفيل (1805 ndash; 1859) دور الدين المهم في تشكيل الديموقراطية وتطورها في أمريكا، ويبلور بضعة ملاحظات حول العلاقة بين الديموقراطية والدين، ويستغرب وجود حيوية دينية كبيرة في المجتمع الأمريكي ما يتعارض والقول بأن انبثاق المجتمع العصري الديموقراطي الحديث يؤدي إلى تراجع دور الدين.


جان بول ويليم مؤلف كتاب quot;الأديان في علم الاجتماعquot; يعتقد أن الولايات المتحدة لم تتميز فقط بحيوية دينية أكيدة، بل ترافقت فيها quot;روح الدينquot; مع quot;روح الحريةquot;. لذلك يبدو الدين بالنسبة إليه كأنه مساهمة في الديموقراطية أكثر مما هو عقبة في طريقها. غير أنه ينتقد أفكار دو توكفيل ويعتبرها قديمة، ويعتقد بأنه يعبر عن قناعات لا تتمتع بصراحة العرض العلمي. لكنه يشيد به في جهة أنه يمهد الطريق أمام الأبحاث حول quot;الديانة المدنيةquot;، كما يطرح رؤى حول الربط بين الحداثة والعصرنة وبين تراجع الدين من خلال مراقبة مجتمع تتوافق فيه quot;العصرية والدينquot;.


ماكس فيبر (1864 ndash; 1920) يبدو قريبا من مدّعي التأثير الإيجابي للدين في العقلانية ومن ثَم في الحداثة والديموقراطية. فبالنسبة إليه، الدين، بالطبع يقصد فيه المسيحي، هو quot;نوع خاص من التصرف في المجتمعquot;. حيث يرى أن الدين يتعلق بالحياة الدنيا، حتى من خلال أي إشارة إلى أي نوع من أنواع الحياة الآخرة. كذلك يرفض فيبر تعريف الدين باللامعقول، مؤكدا أن quot;الأعمال التي يشكل الدين حافزا لها هي أعمال منطقية أو منطقية نسبياquot;. لذلك هو يعتقد أن عقلنة الدين لعبت دورا جوهريا في انبثاق الحداثة.


ويعتقد بول ويليم أن الولايات المتحدة واليابان هما بلدان يجسدان الحداثة بشكل خاص، فيمثلان نموذجين عن مجتمعين يوفقان بين الحداثة والدين: الأول بسبب المحافظة على نسبة مهمة في الالتزام الديني (نسبة الممارسين فيها حوالي 40 بالمائة) والدور المهم الذي تلعبه الحركات quot;الجوهريةquot; البروتستانتية. والثاني لأنه مجتمع تم فيه تطوير الصناعة في إطار النظام الثيوقراطي واحتلت الحركات السياسية الدينية ساحته السياسية.

ويستنتج رودجر فينك في كتابه quot;أمريكا غير مدنيةquot; (منشورات ستيف بروس، أوكسفورد 1992) أن quot;التنبؤ من خلال نموذج التمدين بانحطاط الدين لا تعززه التطورات التاريخية في الولايات المتحدة. فالعصرنة لم تترافق وعملية التمدين المتوقعة مطوّلاquot;.

ويقول ويليم إن استمرار عبادة الأجداد في اليابان، إضافة إلى الإحصاءات الدينية التي تذكر كل عام أن 80 مليون ياباني يؤمون المعابد المهمة في فترة أعياد رأس السنة (هاتسومود) للحصول على التعاويذ والتمائم للحماية عاملان قد يدفعان إلى الظن بأن ذلك المجتمع غير مدني.

ما هو معروف أن الحداثة تتمثل في الليبرالية السياسية والاقتصادية. وبالطبع أصاب النائب الكويتي السلفي السابق والمرشح الحالي وليد الطبطبائي حينما أشار إلى أن الصراع الراهن في المجتمع الكويتي هو صراع بين التيارين المحافظ والليبرالي، أو بين الأصولية الدينية التقليدية والحداثة. ويشير ويليم إلى صراع بعض البروتستانتيين quot;الجوهريينquot; في الولايات المتحدة ضد الليبرالية مطلع القرن الماضي. ويؤكد بأنهم كانوا يرون في الليبرالية تهديدا لأسس الإيمان المسيحي، وعارضوا المفاهيم الداروينية بشكل خاص لأنها كانت بنظرهم تمسّ التعليم المقدس حول الخلق. وفي ثمانينات القرن الماضي حاولوا منع ما تعلمه المدارس الرسمية من نظريات إيديولوجية حول التطور بحجة أن تعليم تلك النظريات مسّ بحيادية المدرسة دينيا.

في الجانب اليهودي يشير ويليم إلى ظهور التشدد الديني لدى التقليديين المتشددين ولدى الوطنيين الدينيين. ويؤكد، على سبيل المثال، أن التقليديين المتشددين يتفاعلون بشكل سلبي مع الحداثة ومع علمنة المجتمع، وأنهم يطمحون إلى يهودية أصيلة، أي إلى حياة كاملة حسب الطريقة اليهودية الأصيلة التي تحترم فيها الممارسات التقليدية بدقة. أما الوطنيون الدينيون فهم محاربون في سبيل quot;إسرائيل الكبرىquot; ويودون ملء الأراضي العربية التي تم احتلالها عام 1967 بالسكان بطريقة لارجعة عنها، ويمثل quot;غوش أمونيمquot; أو quot;كتلة الإيمانquot; هذا التيار.

في الجانب الإسلامي لا يزال الدين يعتبر معوقا أمام التصالح مع الحداثة. ورغم ظهور مدارس فكرية دينية تسعى للعب دور إيجابي في هذا الإطار، إلا أن الغالب على الأمر هو استمرار حالة العداوة إن صح التعبير. فالفكر الديني في الضفتين السنية والشيعية لا يزال يعتبر أفكار الحداثة وأفكار الليبرالية والديموقراطية مناهضة للدين الإسلامي.

إن القائمين على الفكر الديني الإسلامي، وبالذات في الجانب السُني، السلفي، لا يزالون يؤكدون على التقيّد حرفيا بالنص الديني المقدس (القرآن الكريم والسُنّة) في سبيل مواجهة فقدان الهوية الإسلامية. يقول السلفي عبدالمنعم مصطفى حليمة أن quot;الديموقراطية ليست خيارنا الوحيد ndash; كما يقولون ndash; بل خيارنا الوحيد هو الإسلام.. وأي خيار نرتضيه غير الإسلام، يعني الإنسلاخ كليا من دين الله تعالى والدخول في دين الطاغوتquot;.

في الجانب الشيعي هناك اهتمام كبير بالإمامة وبظهور الإمام المهدي. وحسب إ. ريشار في كتابه quot;الأصولية الإسلامية في إيرانquot; هناك أشكال عدة من الأصولية الشيعية، بعضها تخدّر السياسة باسم انتظار الإمام المهدي فتؤجل الثورة حتى ظهوره وتنمي نوعا من الطمأنينة. ويشير ريشار إلى أن الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني اتسمت بعقيدة الإمامة. ومن خلال رفض الفصل بين السياسة والدين وتشجيع عدالة اجتماعية quot;ثورية دينيةquot;، اعطت الخمينية نفسها دور الناطق باسم المحرومين والصراع ضد الليبراليين والإسلاميين الإصلاحيين الجاهزين للقيام بتنازلات لحساب المنظار العلماني الحداثي.

فاخر السلطان

كاتب كويتي
[email protected]