لا يبالغ الحبر هنا أنه -عبر محلق الأربعاء- من أوائل من نبّه إلى زحف الإنترنت، أو الشبكة العنكبوتية كما يحب أهل الفصحى، هذا الزحف الذي لن يبقي ولن يذر شيئاً إلا طاله وتناوله!


ولم يتوقف الأمر عند حد التصريح ببدء الزحف، بل تمادى الحبر الأصفر بأن ساهم في نحت فعل لاستخدام الانترنت، مطالباً مجامع اللغة العربية بضم هذا الفعل والاعتراف بشرعية نسبه إلى شجرة اللسان العربي الفصيح.


لذا نحت الحبر هنا الفعل quot;ترنَتَquot; على وزن فَعْلَلَ، والفعل المضارع منه quot;يُتْرنتquot;، وفعل الأمر منه quot;ترْنتْquot; والمصدر من هذا الفعل quot; تَرْنت ترنتةًquot; على وزن صَهْلل صهللة، ودردش دردشة، ودغدغ دغدغة.. الخ!


كان هذا الدفق اللغوي قبل ثمان سنوات، أما الآن فإن النت أصبح الثاني لكل واحد، أو هو بمثابة الشيطان الذي يقترن بكل مخلوق، أو هو كالجوال والزوجة والسيارة والملابس الداخلية quot;شر لا بد منهquot;، بمعنى أنه مرافق لكل مسافر ومقيم وكبير وصغير، ومستحوذ على معظم النفوس الكبرى من quot;ذكر وأنثىquot;!


الآن وبعد كل هذه السنين من استخدام الشبكة والقراءة عنها ودراسة آثارها، يمكن القول أن من أعظم ما أنتجته هذه quot;الخيوط الساحرةquot; ما يُعرف الآن بـquot;تعدّد الحقيقةquot;!


قد يقول قائل أن هناك ما هو أعظم من تعدّد الحقيقة، وهو quot;الواقع الافتراضيquot; أو virtual Reality، أو ما يُعرف بـquot;نفي الإنسانquot; بحيث تتعمّق الذاتية المعتمدة على الخيال التي تساعد على تفكّك المجتمع وتشظّيه من ناحية، وعلى الانطوائية والابتعاد عن الحياة الحقيقية من ناحية أخرى!


ومع أن هذا الأثر، وهو الواقع الافتراضي الذي أنتجه النت أثر قوي، وله وجاهته، إلا أنه يتقزّم أمام الأثر الأقوى وهوquot;تعدّد الحقيقةquot;!
حسناً لنشرح مفهوم quot;تعدّد الحقيقةquot; الذي يستهدفه هذا المقال..


مع مجيء النتّ تقلّص الزّمان والمكان، الأمر الذي جعل الحقيقة -أي حقيقة- بلا أساس مادي يمكن أن ترتكز عليه، لأن الموجة الجديدة من وسائل الاتصال التي جاءت مع النت لها القدرة على نقل الصّور والمعلومات والأخبار بسرعة فائقة، بحيث لا تجعل هذه السرعة للشيء الواحد حقيقة واحدة، بل تتغيّر الحقائق عطفاً على تغيّر الهويات والميول الثقافية، من هنا تكون الحقيقة متعددة.
وحتى يتضح المُراد بتعدّد الحقيقة، إليك الفكرة التالية: إذا تصفحت أي موضوع في النت فإنك ستجد فيه علامة تخبرك إلى مواقع أخرى تناقش نفس الموضوع quot;Hyper linksquot; ولكن هذه المواقع تقدم الموضوع نفسه برؤى أخرى مختلفة عن رؤية الموقع الأصلي.


وعلى هذا النمط فإنك لو أردت أن تعرف شيئاً عن الصراع الإسرائيلي العربي، ستجده في المواقع ذات الصبغة العربية بشكل، وستجده في المواقع ذات الصبغة الفرنسية بشكل آخر، أو لنقل quot;بحقيقة أخرىquot;.. ولو بحثت عنه في موقع خاص بحماس ستجد الحقيقة هناك لها وجه quot;حمساويquot; وعلى هذا المثال فهناك عشرات بل مئات المواقع التي تقدم الموضوع الواحد بعشرات الرؤىquot;.
من هنا يفسّر أستاذ الإعلام الدكتور محمد إسماعيل أثر هذا التعدّد بقوله: (ولعلي لا أكون مبالغاً إذا افترضت أن هذه الرؤية المتشّظية للعالم ربما تكون عاملاً مساعداً على الصمت الذي نراه في المجتمع الدولي، خاصة الأوروبي حيال الحقوق الفلسطينية quot;الجديدةquot; التي قرّرتها الأمم المتحدة).


حسناً ماذا تريد أن تقول هذه المفردات؟
إنها تقول يا قوم عضّوا على حقائقكم بالنواجذ والأضراس، ففي عصر ما بعد الحداثة تضيع الحقوق بضياع الحقائق أو تعددها.. عضّوا عليها قبل أن تضيع، أما رؤية صاحب السطور فهي أن للحقيقة quot;ألف وجهquot;، كما هو تعبير الشاعر المصري فاروق جويدة الذي أطلق على دواينه اسم quot;ألف وجه للقمرquot;!

أحمد عبد الرحمن العرفج
[email protected]