ليس المقصود بالأقليات العربية بدول الخليج الفارسي عرب الأهواز مثلاً، بل العرب، ومنهم طبقة البدون، في منظومة مجلس التعاون الذين أصبحوا فعلاً أقليات غريبة في هذه الدول. وإلى ذلك فقد كتب الدكتور أحمد عبد الملك، الكاتب والإعلامي القطري، مقالاً في صحيفة الاتحاد الإماراتية ونقله موقع إيلاف الإليكتروني، منبهاً فيه من الانفجار الديمغرافي القادم في دول الخليج الفارسي، كاشفاً عما يمكن تسميته بـ quot;شوفينية خليجيةquot; متطرفة حيال الوافدين، والتي يمكن تلمسها لمس اليد من كل مقيم في الخليج الفارسي أدت بدورها إلى نشوء شوفينية وافدة مضادة، تعاني التهميش والاضطهاد، لن تصب في النهاية في أمن واستقرار دول الخليج الفارسي. وقد حذر الأستاذ عبد الملك من مغبة الاستمرار في السياسات الخليجية الراهنة، والخاطئة، برأيه، لجهة استقبال ووجود الوافدين، والعمالة المهاجرة التي تتكون بغالبيتها من الجنسيات الآسيوية، وتشكل الهندية العمود الفقري منها، والتي بلغت مليوناً ونصف المليون في دولة الإمارات العربية لوحدها، وquot;حتى الآنquot;. وتكلم الكاتب بإسهاب وحماس بالغين، عن حقوق المواطنين الخليجيين دون أن يشير، بنفس الوقت، إلى حقوق الوافدين والمهاجرين. ويعترض، مثلاً، على تمليك العمالة الوافدة، ولا يعترض على امتلاك الخليجيين لعقارات في كل دول العالم، وهو أهم ما يؤخذ عليه، وواصفاً بتهكم quot;أهلquot; الخليج حرفياً، بأنهم quot;أصبحوا ينقرضون كالدببة النادرةquot;. وهو كان يتكلم بوحي من مصلحته كمواطن خليجي، ولكن ماذا عن مصلحة الآخرين؟


بداية القول، لا يمكن الاستغناء، البتة، عن العمالة الوافدة والمهاجرة في الخليج بسبب الحاجة الماسة لها للبنية التحتية لعملية التنمية، وقلة عدد السكان من أصل عربي ممن كانوا يستوطنون هذه المناطق ويعيشون على شكل قبائل من البدو الرحـّل وتعيش على القنص الصيد ورعي المواشي والإبل.

وثانياً، نعم لقد أصبح quot;العنصر العربي والخليجي تحديداًquot;(مع التحفظ الشديد على التعبير)، عنصراً أقلاوياً في معظم دول الخليج، وبات يشعر بالعزلة والتغريب والتهميش في موطنه الأصلي. وباتت هذه الإشكالية العرقية، والقنبلة السكانية بسبب تعدد الجنسيات وتنوعها الذي ناهز الـ 200 جنسية حسب بعض الإحصائيات، تشكل هاجساً مؤرقاً للنخب الفكرية والسياسية في الخليج التي تعلم أن النوم على هذا الملف، وعدم نزع فتيل الاحتقانات التي تتراكم بشكل يومي، والتلكؤ في معالجة هذا الموضوع بشكل إنساني وحضاري عادل وقانوني سيزيد ولا بد من وتيرة، و حدّة الانفجار القادم بالتأكيد، ما حدا أيضاً بالسيد ضاحي خلفان، رئيس شرطة دبي إلى رفع الصوت عالياً بالقول:quot; الإمارات قبل العماراتquot;. ومن مفاعيل هذه الأزمة المؤرقة، انتشار اللهجات واللغات والعادات السلوكية الآسيوية المتباينة غير المتجانسة، ما جعل المجتمعات الخليجية مجتمعات غير متجانسة ومتنافرة وتفتقر عموماً للانسجام المجتمعي. ومن الصعب جداً فهم التركيبة الثقافية والفكرية والسلوكية المتباينة والمختلفة من جالية إلى أخرى، ما قد يكون عاملاً آخراً لبروز حساسيات قومية وعرقية وإثنية تساهم في إذكاء الاحتقان والانفجار المجتمعي. وصار quot;العربيquot; بحاجة إلى إتقان لغة العمالة الوافدة، وquot;تكسيرquot; لغته الأصلية، واستخدام ألفاظ فيها خليط عجيب من الهندي والفارسي والإنكليزي والأوردي والصومالي والحبشي والسيخي...إلخ، ليتمكن من تسيير أموره المعيشية اليومية. وقفزت اللغة الإنكليزية، كعادتها، إلى صدارة هذه اللغات المتداولة، وربما صار من الواجب اعتمادها كلغة رسمية لجميع السكان، وليس لأهل، الخليج الذين باتوا أقلية عرقية تتكلم اللغة العربية، وتذوب عاداتها وتقاليدها وأساليب حياتها المحافظة والغريبة عن جموع الوافدين والمقيمين.


ولا يخلو المقال المذكور من هواجس ومخاوف ضياع الهوية الوطنية لبعض دول الخليج بسبب تلك تنوع العمالة والوضع الجديد. فالطابع الآسيوي ونمط الحياة الآسيوي، يطغى على الشارع الخليجي بشكل عام. وأصبحت الكانتونات الآسيوية جزءً مهماً من تركيبة المجتمع في الخليج. واللوبي الآسيوي حقيقة واقعة في دول الخليج. وباتت هي الأغلبيات الساحقة تتحكم بالاقتصاد ومفاصله الحيوية إلى حد ما وتنزع إلى فرض اعتراف وحقوق سياسية وتمثيلية في وقت وشيك وغير بعيد. وبرأيي أن توافقات وتفاهمات دولية تحول حالياً دون فتح وإثارة هذا الملف الشائك وطالما أن السياسات تصب في طواحين القوى الكبرى. وبرأيي، أيضاً، إن أي إجراء خليجي للحد من هذه العمالة ومحاصرتها في الوقت الحالي، ومهما كان بسيطاً، سيؤدي إلى شلل وانهيار الاقتصاديات هناك، وتعطل الحياة بشكل عام. والتخوف من استعمال ورقة العمالة الوافدة وتوطينها كأحد وسائل الضغط السياسي في دول الخليج، ليس مجرد مخاوف وهواجس، بقدر ما هو حقيقة واقعة وقائمة، وهي مسألة وقت ليس إلا، وهو أداة مؤجلة هامة بيد القوى الدولية ستشهرها في الزمان والمكان المناسبين، وقد تكون سبباً لتدخلات واحتلالات عسكرية، كما حصل ويحصل في دول مجاورة وقريبة جداً في الخليج الفارسي.


وللعلم، فقد ولد الجيل الثالث وربما الرابع لأسلاف هذه العمالة وشكلت طبقة اجتماعية مستقلة ولها سماتها المجتمعية الخاصة وحضورها الفاعل والقوي. وهناك أحياء كاملة لا يقطنها أي عربي أو خليجي. علماً بأن تلك العمالة كانت قد بدأت بالتوافد إلى الخليج بشكل منتظم منذ مطلع ثلاثينات القرن الماضي، وازدادت بوتائر عالية مع الطفرة البترولية في مطلع السبعينات عقب اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية في 6 تشرين أول/ أكتوبر1973، والارتفاعات الحادة لأسعار النفط بعد استخدامه كسلاح عبر فرض حظر على تصديره لدول الغرب.


غير أنه يمكن النظر للقضية أيضاً، وبعيداً عن جانبها السياسي، من منظور حقوقي بحت وهو ما أغفله الكاتب، وتحاشاه ولم يشر إليه لا من قريب ولا بعيد، وربما من دافع وطني بحت نتفهمه ونعذره عليه. أفلا يترتب على حكومات الخليج، في هذه الحال، أية التزامات معنوية وأخلاقية ومالية وحقوقية.....إلخ، نحو هذه الجاليات التي تقيم على أرضها منذ أكثر من نصف قرن؟ ألا يحق لها مثلاً أن تمارس طقوسها الخاصة من العبادة بحرية؟ وعلماً بأن هذه العمالة محرومة من أية شكل من أشكال الحقوق السياسية والنقابية والتنظيمية والتأمينات التقاعدية والوظيفية، ويتم هضم حقوقها بشكل مستمر ومنهجي، و ما أعمال الشغب والتخريب التي جرت في أكثر من بلد خليجي مؤخراً، إلا تعبير صارخ عن هذا الواقع والشرخ العلائقي المبين. وكان حرياً بالدكتور الملك أن يعالج الموضوع بصورة أقرب إلى العدالة الإنسانية ومن منظور حقوقي بحت يحترم حقوق وكرامة هذه العمالة ووجود ومستقبل تلك الجاليات، ويراعي اعتبارات ومصالح الجميع، لمنع، وكبح عوامل الانفجار كالفقر والاضطهاد والتمييز ضده العمالة وبسبب تمايزات العرق والدين وهو ما يتناقض مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان. وصار من حق بعضها القوي، ووفقاً للكثير من الدساتير العلمانية والعصرية الإنسانية والمواثيق والأعراف الدولية، اكتساب جنسية هذا البلدان، ومعاملتها معاملة المواطنين الأصليين، ولاسيما أن أعداداً كبيرة منها لا تعرف وطناً ولا مولداً لها غير دول الخليج.


وإذا كان هناك أي تخوف quot;مفهومquot; من العنصر الآسيوي والأجنبي، فما لا يفهم هو موقف بعض الحكومات الخليجية من العنصر العربي نفسه، ومن أبناء نفس الدين والعرق والتاريخ (ولا نتكلم هنا عن الجاليات العربية المقيمة التي تعتبر غربتها وهمومها وآلامها مضاعفة). ولا نفهم، هنا، بالتالي، سر نزع الجنسية أحياناً، وعدم منحها لمقيمين وسكان عرب موجودين فيها من مئات السنين، وهذا ما مهد لبروز طبقة البدون المعروفة، ويقابلها الغجر أو النور في بعض البلدان الأخرى، وهي مشكلة إنسانية وعنصرية خطيرة تشكل خرقاً فاضحاً للمادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان القاضية بـ:
(1) لكل فرد حق التمتع بجنسية ما.
(2) لا يجوز حرمان شخص من جنسيته تعسفاً أو إنكار حقه في تغييرها.
ولا يعتقد، ومن خلال قراءة موضوعية ومحايدة للتاريخ، أن تبقى هذه العمالة مهمّشة وعلى الحياد، دون مطالبتها بحقوق مشروعة وإنسانية عادلة لها في مرحلة ما. فثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس في روما القديمة، وثورة الزنج في العهد العباسي ربما تكون من الأمثلة السريعة الحاضرة في ذهن المرء، إذا ما تطلب الأمر استدعاء أية مقاربة، أو مقارنة تاريخية عاجلة للموضوع. ولم يشر الكاتب إلى الظروف المعيشية السيئة، والتمييز في الأجور والدخل، والتعسف والظلم الذي يصيب هذه العمالة ويسرّع ربما في عوامل الانفجارات القادمة التي يحذر ويتخوف منها السيد عبد الملك. وأصبح الحديث عن أقلية كويتية وإماراتية، أمراً واقعاً ويحتاج الأطفال العرب اليوم في الخليج إلى مترجمين لتناول سندوتش، أو شراء كيس quot;شيبسquot;، أو رقائق بطاطا.
وبرأينا أن هناك نزوعاً وميلاً حاداً، بشكل عام، ونابعاً من موروث ديني وعقيدي لا يخلو من عنصرية وتعال تجاه الآخر المختلف عنه في العرق واللون والدين وراء هذه الإشكالية الخطيرة وتفاقم من آثار ومفاعيل هذا الملف الخطير. وتقف اعتبارات، على سبيل المثال لا الحصر، من مثل quot;لا يجتمع دينان في جزيرة العربquot;، وغيرها، وراء التعامل بشكل إقصائي مع الآخرين. كما أن اليقين الراسخ بـquot;أنهمquot; خير أمة أخرجت للناس، تجعل النظرة الدونية للآخر وممارستها فعلاً وواقعاً، وهي المعادل الموضوعي البشري الممتاز لذاك لكلام السماوي.


ولا يستبعد البتة أن تتعرض الأقلية العربية الخليجية، مستقبلاً، لإجرءات عقابية وانتقامية تصل ربما حد التطهير العرقي، ولعمليات اضطهاد وتمييز مماثلة كالتي تمارس اليوم على العمالة الآسيوية، في حال تبدل الظرف الجيوستراتيجي، أو حدوث أي تغيير في ميزان القوى السياسي في العالم، ولاسيما مع بوادر نهوض المارد الآسيوي من قمقمه الاقتصادي، وإذا ما حدث رفع ليد الغرب الداعمة لمجلس التعاون، أو في حال إيجاد بدائل بشكل اقتصادية واستهلاكية للطاقة يتم البحث عنها بلا هوادة ليل نهار، ستصرف في حال التوصل إليها، نظر الغرب عن الاهتمام بهذا القطاع الجغرافي الخليجي الحيوي. ومن ثم، على المنظومة الخليجية، ودرءً لهكذا سيناريوهات مستقبلية مرعبة، أن تسارع في منح حقوق، وحتى بحدود دنيا لهذا الجاليات ومعاملتهم بشكل إنساني وحضاري، وتفادياً لإجراءات انتقامية قد تطال quot;العنصر العربيquot; مستقبلاً في الخليج إن بقي الحال على ما هو عليه.


وللتذكير، فقد قامت دول، وحضارات، بأكملها، في التاريخ القديم والحديث على العمالة الوافدة والمهاجرين والمستوطنين الذين يبحثون عن فرص عمل وحياة وإقامة أفضل. وتشكل الولايات الأمريكية أنموذجاً فذاً ورائعاً للتعايش والتعامل والاستيعاب البشري، حين استقبلت مهاجرين من معظم دول العالم هي التي بنت quot;الحلم الأمريكيquot;. فهناك جاليات صينية، وهندية، وعربية، وأوروبية عريضة، ومكسيكية، وأمريكية جنوبية، وأفريقية.... إلخ، تشكل النسيج والبناء المجتمعي الأمريكي وتساهم بتنمية ورفد أقوى اقتصاد عالمي، وعسكري بالعنصر البشري، وتتمتع جميعها بالجنسية والحقوق والواحبات الأمريكية ولا تعامل كما يعامل أهل الخليج عمالاتهم الوافدة من عزل وجحود وتهميش. وتعرض الخارجية الأمريكية كل عام 55 ألف فرصة وعبر العالم للتقدم للحصول على الـquot;غرين غاردquot;، وبناء على quot;كوتاquot; معينة، (نظام محاصصات)، تراعي التوزع السكاني لجميع المتقدمين. ناهيك عن دول من مثل كندا، ونيوزيلاندا وأستراليا قامت على جهود المستوطنين والمهاجرين وحتى quot;إسرائيلquot; مع بعض التحفظ هنا ( فحتى إسرائيل تعطي الجنسية وحقوق المواطنة كاملة للعرب فيها، وتمنح طبعاً للمهاجرين اليهود من كل مكان في العالم). فلم لا تمنح الدول الخليجية، وبناء على اعتبارت مماثلة، الجنسية، مثلاً، لمسلمين مهاجرين إليها باعتبارها أرض ميعاد مقدسة أيضاً في العقيدة والعقل الجمعي للمسلمين؟ ( هل يمكن تبني مثل هذه المقارنة على غرابتها أم ثمة ما يمنع في بنية وتكوين الفقه والعقل العربي والإسلامي نفسه)؟ لم لا يستلهم الخليجيون الخائفون من الاندثار والذوبان الوطني أيا من تلك التجارب الإنسانية الناجحة، وإيجاد صيغة تواءم ما بين الحقوق الأساسية لأولئك الوافدين والمقيمين والهوية الوطنية، ويبتعدون، ولو قليلاً، عن موروثات المقدس والدين، ونزعات الاستعلاء ونظرة السادة والعبيد، وإعادة إنتاج وتمثل أساطير quot;الأولينquot;؟
نعم الانفجار قادم، ولكن هل لم يزل هناك وقت لفعل شيء؟ أي شيء؟

نضال نعيسة
[email protected]