لن يُخطئ المراقب للشأن الأمريكي ndash;في جانبه الثقافي- أن الرئيس الأنيق جورج بوش اعترف بأنه مدين للمدرسة الفكرية التي تعمل معه، والتي طالما أفادته في إيجاد خياراته واتخاذ قراراته.. ولا يبالغ بعضهم إن قال إن هناك إدارة في البيت الأبيض تُسمّى quot;إدارة صناعة المفاهيمquot;! وللهِ ما أجمل هذه الإدارة التي تُساعد الإدارة الأمريكية للخروج من مآزقها، فالمراقب يدرك أن أمريكا دائماً تخرج من المأزق بصناعة المفاهيم!


وكما يتلكأ العرب باللغة من خلال الفرق بين quot;مطاردةquot; وquot;متابعةquot;، ومثلما خرج الخليفة معاوية من مأزق قتل عمّار بن ياسر، الذي جاء في الحديث النبوي أن عمّاراً تقتله الفئة الباغية، حين قال: (إنما قتله من أخرجه)، ويقصد بذلك الإمام علي بن أبي طالب الذي أخرج ياسر للقتال معه، الأمر الذي جعل عبد الله بن عباس يرد على معاوية بقوله: (إذاً الرسول صلى الله عليه وسلّم هو من قتل حمزة بن أبي طالب لأنه أخرجه للقتال)!


مثلما يحدث ذلك كله، وجدت الإدارة الأمريكية الحالية في صناعة المفاهيم مخرجاً لها في كل أزمة تواجهها!
إن العلاقة بين السياسة والفكر كعلاقة الرجل بظلّه، وهذا ما يحدث في المجتمعات الراقية بصورة عامة، quot;حيث لا انفصال بين ميدان السياسة وعالم الفكر على اختلاف مدارسه وتياراته، ولكن هذا ما يمتاز به المجتمع الأمريكي بنوع خاص، بدليل تكاثر معاهد البحث ومؤسسات إنتاجه وتداوله بصورة لا نظير لها في مجتمع آخرquot;!


وحتى يتضح المقال لابد من إيراد أكثر من مثال: عندما تورطت أمريكا في الفوضى العراقية، صاغت مفهوم quot;الفوضى الخلاقةquot;، وعندما صارت الصورة ضبابية، صاغ السيد هنري كيسنجر مفهوم quot;الغموض البنّاءquot;، وعندما نادوا بعملية السلام صاغوا مفهوم quot;السلام العادل والشاملquot;، ولا أحد يعرف كيفية العدل، ولا ميدان الشمول! ولا يغيب عن القارئ آخر المصطلحات، مثل مفهوم quot;الحرب على الإرهابquot; وquot;محور الشرquot;.. الخ.


من يذكر مفاهيم quot;النسر النبيلquot; وquot;عاصفة الصحراءquot; وquot;الخلايا النائمةquot; وquot;العدالة المطلقةquot; التي استبدلت بـquot;الحرية الدائمةquot; عندما رفض المسلمون المفهوم الأول؟ ومن يقرأ الآن سيجد quot;مشروع الشرق الأوسط الكبيرquot;، وquot;النظام العالمي الجديدquot;، ولا يبعد عن الذهن مفهوم quot;صدام الحضاراتquot;، وquot;نهاية التاريخquot; وquot;عدالة بلا حدودquot;!


إن القضية ليست في تصويب هذا المفهوم، أو تخطئة ذلك، فهذه مهمة quot;المجانيّينquot;، أو لنقل من يبرعون في إبداء الرأي من غير أن يُطلب منهم، ولكن القضية هنا في فهم اللعبة، وفهم الأنظمة والعبارات والسياق والدلالات! وفي ظني أن مسألة إدارة quot;صناعة المفاهيمquot; في البيت الأبيض، ليست أكثر من quot;تنقيز بلوفquot; للعرب، فالإدارة تصنع المفهوم ويعكف العرب عليه تحليلاً ودرساً وشتماً ورفضاً! خذ مثلاً عندما أطلق الأخ المحترم فوكوياما ndash;وهو من هذه الإدارة- مفهومه quot;نهاية التاريخquot;، ترك العرب بعارين ومزايين إبلهم وصحرائهم وحلالهم، واتّجهوا إلى هذا الـquot;فوكوquot; يشتمونه ويلعنون فكره، بل إن أحدهم وضع مقابلة أجراها مع هذا الـquot;فوكوquot; في كتاب مستقل من شدة الفرح بهذا الرجل الذي quot;أنهى التاريخquot;، وبدأ يحتلّ quot;بداية الجغرافياquot;!


وهذا الموديل ndash;أعني مفهوم نهاية التاريخ- قد شغل الجماعة العربية وعباقرتها من المحيط إلى الخليج، الأمر الذي جعل الأستاذ المتألق وائل ميرزا يقول: (لقد أصبح صنماً يرجمه العرب كلما عنّ لهم الحوار مع الغرب).


يا قوم تفقّهوا في quot;مذهبكم السياسيquot; وquot;علمكم الحياتيquot;، قبل أن تخرجوا من الحياة خائبين، لم تقدروا حتى على فهم quot;مفهومquot;، فضلاً عن الجرأة على صياغته أو اختراعه، وأنتم أهل صناعة الكلام وذوو الصناعتين quot;الشعر والنثرquot;!

أحمد عبد الرحمن العرفج
[email protected]