لماذا هوت قيادة ما يسمى بالحزب الشيوعي السوداني إلى الدرك الأسفل في الردّة عن الماركسية، هو تساؤل يستثير دائماً البحث والاستقصاء عن أسباب ذلك الهُويّ. حقيقة الأمر أن كوادر الأحزاب الشيوعية التي رحبت واسعاً في الخمسينيات بصيحة خروشتشوف التحريفية التي وضعت الإتحاد السوفياتي والثورة الإشتراكية العالمية على بداية طريق الوصول إلى الإنهيار التام الذي شهدنا قبل نحو عقدين، هذه الكوادر التي شاركت بمقدار أو بآخر في ذلك الانهيار الكارثي، لا يمكن أن تدين نفسها وتعترف بجريمة مشاركتها في الانهيار ؛ بل إنها تسدر في غيّها وتذهب بعيداً في الخيانة فتعلن ضرورة quot; تجديد quot; الماركسية. عامة القيادات في الأحزاب الشيوعية في الأطراف رحبت بخروشتشوف وساهمت بنصيب في انهيار الثورة الإشتراكية، لكن قيادة بعينها من القيادات الشيوعية التي مازالت قائمة لم تهوِ إلى مستوى القيادة السودانية في الخيانة حتى اغتيال ماركس الذي ما زال حيّاً. في البحث عن أسباب انحطاط قيادة ما يسمى بالحزب الشيوعي السوداني إلى مثل هذا الدرك من خيانة الماركسية والحركة الشيوعية يتعلل المرء تحاشياً للإفلاس بوسائل الإنتاج المتخلفة في السودان، لكن ثمة بلدان كثيرة تناظر السودان في تخلف وسائل الإنتاج فيها دون أن تهبط قيادات أحزابها الشيوعية إلى درك القيادة السودانية. الراجح أن هذا النفر لا يطالب فقط بتجديد الماركسية بل يذهب إلى المطالبة باستبدالها لأنه لم يجد فيها ما يبحث في المجتمعات التي لم ترتق ِلأي تشكيلة إجتماعية، وما زال الناس فيها منخرطين في نزاعات جهوية وجنسية وقبليه. لهذا فقط نتفق مع قيادة الحزب quot; الشيوعي quot; السوداني على أنهم ليسوا بحاجة إلى ماركس الذي لا يبحث إلا في المجتمعات المنخرطة في عملية الإنتاج والتي تبنيها علاقات إنتاج بعينها. شعوب السودان لم تنجح بعد في إقامة مجتمع موحد توحده عملية إنتاج موحدة ومتكاملة وتشد مكوناته بعضها إلى بعض علاقات إنتاج معلومة. من هنا فقط وجد quot; الشيوعيون quot; السودانيون أنفسهم أنهم ليسوا بحاجة إلى ماركس مرة واحدة ونهائية كما لم يخجل أمينهم العام من إعلان ذلك بصراحة تامة قبل سنوات. واليوم يعلن أحدهم، تاج السر عثمان، أن جماعته بحاجة إلى بديل عن الماركسية.. quot;يقوم على مرتكزين هما الديموقراطية والعدالة الإجتماعية quot;. هؤلاء القوم ليسوا بحاجة لمن يفضح خيانتهم فهم أنفسهم يقومون بذلك بكفاءة عالية. يشيرون أحياناً إلى أن الماركسية إنما هي منهج للبحث والتحليل ولكنهم مع ذلك يطالبون بتجديد الماركسية وباستبدالها!! أما كيف للمنهج أن يشيخ فلا يعود يسعف الباحث إلى الوصول إلى الحقيقة فهذا أمر على هؤلاء المرتدين شرحه ليعللوا علة القصور إذا ما كانت في المنهج أم فيهم أنفسهم!!

قبل سنوات كتبت عن الأمين العام لهذه الجماعة، محمد إبراهيم نقد، الذي أعلن بكل فصاحة عن تخلي جماعته عن الماركسية وأنهم سيبنون الإشتراكية في السودان (!!) رجوعاً إلى سان سيمون وفورييه ولاسال وأوين وسائر الإشتراكيين الرومانسيين وليس إلى ماركس فقط ؛ وأذكر أنني كنت نصحت السيد إبراهيم نقد أن يتعلّم الماركسية من جديد على أيدي أهل الإختصاص بعد أن ظهر بكل فصاحته أن لا علاقة له بماركس وأنه لا يدرك حتى أبجدية الإشتراكية العلمية الماركسية. وفي يوليو من العام الماضي علقت على ما كتبه أحدهم باسم راشد مصطفى بخيت وقد نادى بطرح ماركس بعيداً عن سودانهم لأن تعريفه للطبقة الإجتماعية لا يتطابق مع ما هو في السودان ـ وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه قبل قليل من التخلف الإجتماعي ـ وأخذ على المراكسة، كما وصفهم، بأنهم يتخذون من جاهل مثل كارل ماركس مرجعية لهم!! وتبجح هذا الدّعي في أن معلوماته تساوي أكثر من ضعف معلومات كارل ماركس الذي لا يعلم شيئاً في علوم الكوانتوم ولا في شيفرة الجينات. ونسي مثل هذا الدعيّ الأحمق حقيقة واحدة لا لبس فيها وهي أن ماركس عرف ماهية الإشتراكية العلمية بكل دقائقها وتفاصيلها بينما هو نفسه وبكل معلوماته في الكوانتوم والشيفرة الجينية لا يعرف من الإشتراكية حرفاً ويجهل تماماً التعريف العلمي للطبقة كونها الشريحة الإجتماعية التي تنتج اعتماداً على وسيلة إنتاج بعينها. نستعجل قولنا هذا قافزين عن إدانة البخيت لماركس بالجهل في الفلسفة!! لن نصف البخيت بالصفاقة بل بالجهل المطبق حيث ستظل البشرية مدينة لكارل ماركس بفضل تحويل الفلسفة من quot;علم الكلامquot; السفسطائي إلى علم العلوم المخبرية. الفلسفة الماركسية، المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، حفرت القبر الأبدي لكل الفلسفات السابقة والفلسفات اللاحقة كما شرح فردريك إنجلز. لقد انتقل ماركس بالفلسفة من دائرة الفلسفة إلى دائرة العلوم وهو إنجاز ستذكره البشرية لماركس مدى التاريخ.

اليوم يعود إلينا ثالث من هذه الجماعة الغريبة على الحركة الشيوعية بذات الأقوال وذات الديباجات. تفضل تاج السر عثمان على الماركسيين، وهو من خارج دائرتهم كما أفصح في نهاية ما كتب، تفضل عليهم بتحرير الماركسية من الجمود العقائدي الذي تسبب به ستالين كما قال بالإستناد إلى هابرماس(Habermas) دون أن يشير إلى فحوى هذا الجمود سوى تأكيد ستالين على تمرحل التاريخ في خمسة أنظمة اجتماعية ـ وهذا لو يعلم عثمان وهابرماس هو خير مثال للحركة وليس للجمود ـ وباستدلال الإشتراكية البيروقراطية الستالينية ـ في كل التاريخ المكتوب وغير المكتوب لم يُعرف مجتمع أكثر سرعة في حركة التطور من المجتمع السوفياتي بإدارة ستالين 1922 ـ 1953، وهناك طيف عريض من المعادين لستالين ينتقدون ستالين لسرعة التحول بالنظام الإجتماعي في الإتحاد السوفياتي. كما انتصر تاج السر للفلاسفة غير الماركسيين ودعواهم بضرورة ما وصفه quot; بتخصيب quot; الماركسية بالفلسفات الأخرى غير الماركسية كالفرويدية والوجودية والبنيوية، وانتقد بشدة جمود ستالين الذي حافظ على نقاء المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية دون أن تشوبها أجسام غريبة. في الحقيقة أن تطوع تاج السر للقيام بكل هذا لم يكن لوجه الله والحقيقة بل كان لهدف خبيث وهو أن يمتثل به وبقيادة حزبه كل الذين لم يتخلوا بعد عن ماركس. تحرير الماركسية من الجمود لا يعني إلا تحويلها لجسم لين رخص تلتصق به المواد الغريبة عنه فلا يعود ذا شأن أو فعل ويغدو حالتئذٍ قابلاً للطرح مثلما فعلت قيادة الجماعة المسماة، مكراً بقصد الإغتيال، بالحزب الشيوعي السوداني ؛ ناهيك عن أن منطق الأشياء لا يستقيم مع مقولة تحرير المنهج الماركسي من الجمود، فالمنهج إما أن تأخذ به أو تتخلى عنه نهائياً وهؤلاء القوم دأبوا على إعلانهم التخلي عن الماركسية. ولعلّي أنصحهم هنا في الكف عن إعلان التخلي لا لسبب إلا لأنهم سيجدون أنفسهم بعد عشر سنوات أو عشرين سنه أنهم بحاجة أيضاً إلى تكرار ذات الإعلان وذلك لأنهم عاجزين عن التخلي الفعلي والحقيقي لأن المنهج الماركسي يفرض نفسه على واقع الحياة نفسها سواء استخدمه نقد وبخيت وعثمان أم لم يستخدموه وسواء نجحوا باستخدامه أم لم ينجحوا. الطبيعة ذاتها وبكل مظاهرها تتواجد أصلاً عبر الديالكتيك المادي وليس عبر أي حركة أخرى، وليتفكر المرتدون بهذه الحقيقة المطلقة رغم كل الدعاوى!

نقد وبخيت وتاج السر، ثلاثتهم، يلوكون ذات العلكة الفاسدة وقد حفظوا الدرس من كتاب مشبوه كتبه أنصار المجتمعات الطبقية. يعود تاج السر ليدحض مبدأ الحتمية التاريخية ويدّعي بدور حاسم للإنسان في تعيين مسار التاريخ. عندما يقول جيورجي بليخانوف، الموصوف بأبي الماركسية، أن أدوات الإنتاج هي التي تقرر البنية الإجتماعية والبنى الفكرية السائدة في المجتمع فإنما يشرح معنى الحتمية التاريخية بالمفهوم الماركسي ويحدد بصورة قاطعة دور الإنسان في تعيين مسار التاريخ. للإنسان دور إيجابي في صناعة التاريخ وقد عبر عنه كارل ماركس بحكمته الشهيرة التي تقول.. quot; صحيح أن الإنسان يصنع التاريخ لكن ليس على هواه quot;. إنسانية الإنسان لا تعني في التحليل الأخير أكثر من العلاقة الديالكتيكية بين الإنسان من جهة وأداة الإنتاج من جهة أخرى والتي هي بمثابة القلب النابض لفعل الأنسنة وتقدم الإنسان مختلفاً ومفترقاً عن مملكة الحيوان. في إطار هذه العلاقة فقط تتطور أداة الإنتاج كماً ونوعاً، وطبقاً لهذا التطور تتطور العلاقات الإجتماعية والبنى الفكرية. هذا هو تحديداً دور الإنسان الإيجابي في صناعة التاريخ. لئن اعتبره أحدهم خلاّقاً وحاسماً فقد يعتبره آخر آلياً ومقيداً، وكلاهما يعبران بصورة صحيحة عن ذات الفعل.


أكبر برهان على ضحالة الثقافة الماركسية لدى قيادة حزب quot; الشيوعيين quot; السودانيين هو الفهم البورجوازي المسخ لمفهوم الدولة. فتاج السر عثمان وعلى أثر سابقيه، نقد وبخيت، يطالب اليوم.. quot; بتوسيع وظائف الدولة الرأسمالية المعاصرة quot; والإقلاع عن الفهم الماركسي اللينيني للدولة. عثمان يصف الدولة بالدولة الرأسمالية ومع ذلك يتسول منها خدمات إقتصادية واجتماعية وثقافية كثيرة!! ـ وماذا لو امتنع المحسن عن الإحسان؟! حينذاك ليس من مفر أمام عثمان سوى إسقاط تلك الدولة البخيلة!! ولنا هنا أن نتساءل إذا ما كان بإمكان عثمان إسقاط الدولة الرأسمالية البخيلة فلماذا يأتي بها ثانية وليس بدولة بروليتارية؟! وكيف سيتيسر لعثمان أن يأتي بدولة رأسمالية كريمة وليست بخيلة مرة أخرى؟! كان المرء سيشفق فعلاً عـلى مثل هؤلاء المتسولين quot; الثوريين الشيوعيين quot; لولا أنهم شاركوا ولو بمقدار في انهيار المشروع اللينيني والثورة الإشتراكية العالمية فكسبوا بذلك حقد الشيوعيين الحقيقيين اللامتناهي.

في موضوع الدولة كتب لينين يقول.. quot; ما من مفهوم لحقه تشويه مقصود من قبل البورجوازية مثل مفهوم الدولة quot;. يُعتقد أن لينين قال ذلك لأنه توقع أن بعض الأغرار من الشيوعيين من أمثال نقد وبخيت وتاج السر سيرفعون شعار دولة الديموقراطية والعدالة الإجتماعية، بل زاد أغرار السودان على ذلك فقالوا بالدولة الرأسمالية الديموقراطية العادلة!! مجرد أن تدخل مثل هذه الفكرة الفاسدة عقول هؤلاء السودانيين الأغرار فإنها ستطرد من عقولهم في الحال كل أثر للفكر التقدمي وتحيلهم إلى مجندين صغار في كتائب الرأسماليين الرجعية. الشيوعيون الماركسيون حقاً لا يتعرفون على مفاهيم بورجوازية من مثل مفهوم الديموقراطية أو مفهوم العدالة الإجتماعية فهذه من مفردات المجتمعات الطبقية. الديموقراطية بمفهومها المتداول تقوم أساساً على شرعية استغلال الرأسماليين لأجرائهم من العمال وفي مثل هذا الإطار القيد فقط ترتسم كل الحريات العامة وحقوق الإنسان. ما كان الرأسماليون والبورجوازيون ليتشدقوا بالعدالة وبالديموقراطية لولا أن تواجد البروليتاريا في مجتمعاتهم (coexistence) هو شرط حيوي لوجودهم هم أنفسهم كمخلوقات طفيلية. مفهوم الديموقراطية يغيب نهائياً في المجتمع الشيوعي وذلك لانتفاء الحاجة إليه لأنه ليس هناك طبقات وليس هناك دولة وليس هناك سلطة. كما ليس هناك عدالة في المجتمع الشيوعي لانتفاء الحاجة إليها أيضاً حيث أن مختلف احتياجات سائر أفراد المجتمع مشبعة تماماً. أن تكون هناك دولة يعني مباشرة أن المجتمع الذي تقوم به تلك الدولة هو مجتمع طبقي وتتشكل فيه مختلف مؤسسات الدولة بسلطاتها الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، من أجل حماية ذلك المجتمع بشكله الطبقي القائم. الدولة الديموقراطية العادلة التي في ذهن تاج السر عثمان ورفاقه من الشيوعيين المرتدين لا وجود لها على الإطلاق. تتشكل الدولة على صورة المجتمع ومثاله. لم تعرف البشرية طيلة تاريخها الطويل مجتمعاً ديموقراطياً وعادلاً ليقيم ما يسمى بالدولة الديموقراطية العادلة. لقد تعرفت البشرية عبر تاريخها الطويل على خمسة أجناس من الدولة وهي..
1)الدولة البطريركية وهي دولة العائلة مثل الدولة الرومانية والدولة العثمانية ودولة الخلافة الأموية أو العباسية ودولة الإقطاع في أوروبا.
2)الدولة الرأسمالية مثل الدولة التي كانت في سائر الدول الإمبريالية في النصف الأول من القرن الماضي وعرفت بالدولة الحديثة.
3)دولة دكتاتورية البروليتاريا مثل الدولة السوفيتية 1921 حين بدأ العبور الإشتراكي وحتى 1954 حين توقف العبور بقيادة خروشتشوف.
4)دولة الرفاه (Welfare State) وهي دولة الطبقة الوسطى التي عرفتها الدول الغربية بعد انهيار النظام الرأسمالي في العام 1975.
5)دولة الدائرة المغلقة (Closed Circle) أو دولة العصابة الدكتاتورية التي لا تمثل أي طبقة إجتماعية كما في الدول غير النامية حالياً.
لم تتوفق البشرية ولن تتوفق في تشكيل دولة تمثل كل الطبقات كي تقيم العدل بين الناس. نجحت البشرية في إختراع كل ما لم يخطر في البال لكنها ولسوء حظ تاج السر عثمان ورفاقه المرتدين لم تنجح في إختراع تلك الدولة الديموقراطية العادلة التي يحلمون بها. ليس لهؤلاء القوم المرتدين سوى دوام الصلاة والابتهال لله القادر القدير كي يخلق لهم تلك الدولة التي لا تنتسب إلى البشر كيما تحافظ على العدل والحريات وحقوق الإنسان بين بشر غير متساوين بالطبيعة. عرفت البشرية أرقى أشكال الديموقراطية والعدالة الإجتماعية في ظل الدولة السوفياتية بقيادة ستالين ومع ذلك ليس صحيحاً أن نقول بأن الدولة السوفياتية آنذاك كانت ديموقراطية وعادلة بالفهم البورجوازي ولا حتى بالفهم العلمي للحالتين. فالدولة مهما كانت طبيعتها مرتبط وجودها بالقمع والظلم والتعسف.

يزعم تاج السر عثمان فيما يزعم أن.. quot; ماركس وإنجلز بعد أربعين عاما من صدور البيان الشيوعي (1848) كتبا في مقدمة له أن البيان شاخ في بعض جوانبه quot;. كل المرتدين والمنحرفين باختلاف نحلهم يبررون ردتهم وانحرافهم بجملة واحدة وردت في المقدمة التي كتبها ماركس وإنجلز بتاريخ 24 يونيو حزيران 1872 لطبعة البيان الشيوعي (Manifesto) بالألمانية. وكلهم يحرفون الكلم عن مواضعه ويترجمونه بشكل يخدم أغراضهم غير البريئة، لكن السيد عثمان زاد عليهم فادّعى أن النص كتبه ماركس وهو في القبر بعد خمس سنوات من وفاته أي في العام 1888. ما كتبه ماركس هو العكس تماماً مما رمى إليه تاج السر عثمان وأضرابه. كتب ماركس يقول.. quot; مهما تكن الأحوال قد تغيرت خلال الخمس وعشرين سنة المنصرمة فإن المبادئ العامة بالإجمال التي تضمنها المانيفيستو هي صحيحة اليوم كما كانت دائماً. لعل بعض التفاصيل الصغيرة هنا وهناك يمكن تحسينها (تحسين مطابقتها للواقع الجديد ـ المترجم). التطبيق الفعلي لمبادئه كما يؤكد المانيفيستو نفسه سيعتمد دائماً وأبداً على الظروف التاريخية القائمة quot;. كتب هذا ماركس بعد سحق كومونة باريس وما نجم عنه من تغييرات في المنظمات العمالية. بكلمة، أراد ماركس أن يقول أن مقاربة الثورة تتغير وتتبدل تبعاً للظروف القائمة لكن المبادئ العامة في البيان هي صحيحة على الدوام. وهذا ما يعاكس تماماً ما ذهب إليه تاج السر عثمان تبريراً لردة قيادة الحزب الشيوعي السوداني.

لا أدري لماذا يجهد المرتدون والتحريفيّون أنفسهم كثيراً في البحث في ماركس عما يبرر أعمالهم المعيبة فلا يجدون إلا ما قاله ماركس في تلك المقدمة فيسيئون استخدامه طالما أن ماركس نفسه قال مراراً وتكراراً أن ليس هناك من حقيقة مطلقة. بل قال أكثر من هذا إذ أكّد.. quot; أن الشيء ذاته ليس هو ذاته في ذات اللحظة quot;. الأكثر خبثاً من خبثاء المرتدين والتحريفيين يستخدمون مثل هذه الأحكام الفلسفية في نفي الماركسية ذاتها. ليس ثمة من شك في أن الحقائق المادية على الأرض التي وصفها وأشار إليها ماركس وإنجلز في بيانهما الشيوعي في فبراير شباط 1848 ليست هي ذاتها في آذار من نفس السنة، أي بعد أيام قليلة فقط، فما بالك بعد قرن أو قرن وأكثر من نصف القرن! لكننا لا نوافق أبداً على أن النفي المطلق للحقائق يعني آلياً نفي النفي. ثمة حقيقة مطلقة وهي الحركة الديالكتيكية في المادة بل إن الديالكتيك هو الكون، بل وما بعد الكون وما قبله. الماركسية إنما هي تتبع الحركة الديالكتيكية في الطبيعة كما في المجتمعات البشرية بكل أنماطها وأشكالها. الرصيد الكبير للماركسية تأتّى من أن مؤسسها كارل ماركس كان قد نجح نجاحاً باهراً في تتبع حركة الديالكتيك في المجتمع وفي التاريخ كما أن خلفاءه إنجلز ولينين وستالين لم يقصّروا في هذا المضمار.

القضية الكبرى التي يتعكّز عليها نشطاء الردّة والتحريف هي التطور الهائل في التكنولوجيا الرفيعة خلال الربع الأخير من القرن المنصرم. يزعم هؤلاء المرتدون والتحريفيون أن مثل هذا التطور الهائل في التكنولوجيا قد انعكس في تغيير طبيعة الطبقة العاملة البروليتارية حتى أمست مختلفة كل الإختلاف عن البروليتاريا التي عرفها ماركس وانتصر لها. وفي هذا السياق تحديداً يتوجب أن نشير إلى الحقائق التالية..

* لم تغب عن بال ماركس مسألة التطور في أدوات الإنتاج بل اعتبرها بحق المعامل الرئيس في كامل بنية الماركسية، فتطور أدوات الإنتاج هو ما يدفع بعلاقات الإنتاج للانهيار لتقوم بدلاً عنها علاقات جديدة تستوعب الأدوات الحديثة المتطورة.

** التغييرات التي عكستها الأدوات الحديثة في الطبقة العاملة هي تغييرات كميّة تتمظهر في زيادة وعي البروليتاريا وإدراكها ضرورة تفكيك علاقات الإنتاج القديمة وخاصة أن الأدوات المحدثة تؤدي إلى طرد أعداد كبيرة من العمال من دائرة العمل وهو ما من شأنه أن يحد من ربحية الرأسمالي.

*** لا يميّز الكثيرون بين العمل الذهني والعمل اليدوي إذ يظنون أن الفرق بين العملين هو أن الأول جهد ذهني خالص أما الثاني فهو جهد عضلي خالص. ليس هذا هو الفرق الحدّي والأساس بين الطرفين حيث أن العامل اليدوي لا بدّ من تأهيله من خلال تدريبه على تطبيق معارف مختلفة كثيرة، بل حتى الإنسان الحجري كان يصنّع أدواته بناء على معارف متنوعة. الفرق بين الطرفين هو تقسيم العمل حيث أن إنتاج العامل الذهني مستقل بذاته ويمكن استبداله في السوق مجرداً من كل إضافة، في حين أن إنتاج العامل اليدوي البروليتاري تحديداً ليس مستقلاً ولا يمكن استبداله في السوق قبل عبوره عبر آلات ومكائن مركبة ومتكاملاً بالتعاون مع إنتاج عمال كثيرين. الرأسمالي فقط هو المشتري الوحيد لجهد العامل اليدوي بينما يمكن بيع جهد العامل الذهني لأي مشتر ٍ رأسمالياً كان أم غير رأسمالي.

**** إنتاج العمل الذهني يحتفظ بطبيعته البورجوازية كونه إنتاجاً فردياً (Individual Production) بعكس إنتاج العمل اليدوي البروليتاري
ذي الطبيعة الشيوعية كونه إنتاجاً جمعياً (Associated Production) يشارك فيه كل المجتمع.

إزاء مثل هذه الفروق النوعية والحديّة يستحيل الخلط بين ذوي الياقات البيضاء العاملين بالفكر وذوي الياقات الزرقاء العاملين باليد وإلغاء الفرق الوظيفي بين الطرفين. التناقض بين العمل الفكري من جهة والعمل اليدوي من جهة أخرى سيلعب دوراً رئيسياً خلال الشوط الأخير من عبور الإشتراكية ولن يُحل وينتهي إلا خلال المرحلة المتقدمة من الشيوعية. يستحيل على العاملين بالفكر أن يقودوا المجتمع إلى التغيير كما ينادي المرتدون والتحريفييون وأضرابهم، من الذين يزعمون بأن تغيّراً نوعيّاً قد طرأ على الطبقة العاملة بفعل التقنيات العالية الحديثة، وليس ذلك إلا بسبب الطبيعة البورجوازية لإنتاج ذوي الياقات البيضاء مقابل الطبيعة الشيوعية لإنتاج ذوي الياقات الزرقاء حيث تتفق شروط السوق البورجوازية الرأسمالية بطبيعتها مع الإنتاج البورجوازي بينما تتعارض كلياً مع الإنتاج البروليتاري الشيوعي. البروليتاريا وحدها هي التي تعبر بالمجتمع من النظام الرأسمالي المتميز بالفقر والحاجة إلى النظام الشيوعي المتميز بالغنى والوفرة.

المرتدون عن ماركس 1

فـؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01