كان الشرق دائماً مهد الأساطير منتجها ومفبركها يسهل على نفسه، من خلالها، تفسير الحياة وحل ألغازها، والفرار بالتالي من استحقاقاتها ومتطلباتها. وظلت هذه الأساطير تتحكم بتفكيره وتوجه سلوكه وتشكل وعيه العام. وحين جاء الإسلام ذكر النبي محمد تلك القصص والأساطير لقومه فقالوا له ما هي إلا أساطير الأولين، أي أنه كان لديهم وعي وعلم ودراية بها. والأساطير الكبرى في التاريخ كقصة الخلق والتكوين، وآدم وحواء والطوفان، وهابيل وقابيل، وعيسى وموسى، وجلجامش وعشتار وإبليس والشيطان، هي من إنتاج هذا العقل الشرقي الخصب الذي عكس خصوبة الأرض والخيال. وإنتاج الأساطير، يندرج في سياق المحاولات الإنسانية الحثيثة الرامية للالتفاف على لغز الحياة وسرها الدفين، وتقديم تفسير سريع يخدر العقل الحائر، ويسكن الروح والنفس القلقة الخائفة من الموت والعدم والفناء ويبعث فيها شعوراً مؤقتاً مخادعاً بالأمان والسكينة والاطمئنان.

وبرغم انقضاء حقب الأساطير وحلول عصر التنوير والعلم فإن الشرق الأوسط الكئيب، وكما كان عهده على مر التاريخ، ما يزال مسرحاً لإعادة إنتاج وصراع وإدارة نفس تلك الأساطير منذ قديم الأزل، ومنه يمكن الولوج إلى ما يسمى بالصراع العربي الإسرائيلي والذي هو وبوجهه الأكثر اختزالية وتكثيفاً، صراع ديني بحت ليس إلاَ بين مفاهيم وأساطير رمزية يدعي أطرافها حيازة تاريخية لهذه الأرض المليئة بقصص الأنبياء، ولا أدري لماذا اختصت هذه البقعة الجغرافية بإنتاج الأنبياء؟

وتأكيداً على تداخل السياسي بالأسطوري الرمزي والديني، ووقوف الديني أمام محاكمة ونقد السياسي، يمكن القول أنه لو اجتاحت باكستان أو إندونيسيا اليوم، مثلاً، معظم ما يسمى بالدول العربية باسم الله لما رأيت طلقة تطلق ضد الجيش المؤمن quot;الفاتحquot; أو دعوة واحدة من الفقهاء لصد هذا quot;العدوانquot;. ألم يجثم العثمانيون الأتراك أربعمائة عام بالتمام على صدر هذه الشعوب باسم الدين؟ ألم يعبـّر السيد محمد مهدي عاكف المرشد الروحي للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين عن هذه الحقيقة الفاقعة بشكل علني ذات يوم أغبر حين فضل أن يحكمه ماليزي مسلم على قبطي مصري؟ ألم تحكم أسرة محمد علي quot;الألبانيةquot; المسلمة مصر وجزءً من المنطقة لمدة قاربت المائة عام باسم الإسلام ما ينفي أية صبغة وطنية أو حضارية أو إنسانية لطبيعة الصراع الحالي بين العرب وإسرائيل؟ وقد غزا الكردي القادم من الشرق صلاح الدين فلسطين quot;العربيةquot; وquot;حررهاquot; من quot;رجسquot; الصليبيين واحتلها احتلالاً عسكرياً بكل ما في الكلمة من معنى وأخضعها لسلطانه وجبروته باسم الدين ويعتبره العرب والمسلمون بطلاً أسطورياً ويحتفلون بهذا الغزو في كل عام ويدرسونه في مناهجهم على أنه نصر مؤيد ومدعوم من السماء. ولو رفع اليهود اليوم المصاحف على طائرات الفانتوم والميراج لما رأيت أحداً يستنكر ذلك العدوان وصدرت الفتاوى بمنع إسقاط الفانتوم والميراج. والعداوات بين شعوب المنطقة برمتها هي عداوات دينية لا تلتئم على الإطلاق. وأصبح أبناء الوطن الواحد أعداء يكفر بعضهم بعضاً بفضل ونعمة الأديان على الناس. ألا يطالب السنة والشيعة وكل على حدة بأوطان quot;قوميةquot; مستقلة لهم في العراق على غرار ما فعل أبناء التوراة في فلسطين؟ ولو أعلن جورج بوش إسلامه اليوم لصار اليوم حبيب الأعراب وأقيمت له الأضرحة والمزارات ليتبرك بها المؤمنين والمؤمنات ولنسوا جميعاً قتلاهم في فلسطين والعراق وأفغانستان؟ ألم يصبح صدام حسين بطل المقابر الجماعية، شهيداً وقديساً، لمجرد نطقه وبحركة مسرحية quot;ملعوبةquot;، وناجحة الشهادتين أمام جلاديه من بني العمامات السوداء؟ ألم تكن الحرب العراقية الإيرانية حرباً سنية-شيعية، بأحد أوجهها الأكثر قباحة وسوداوية، لم تستفز جهابذة القومجية ليطلقوا عليها صفة النكبة، ربما لأنها كانت تحصد أرواح المجوس الشيعة، علماً بأنها حصدت في سنواتها الثمانية من القتلى ما لم تحصده quot;نكبةquot; العرب المركزية؟

فنوبات الهلع والتشنج القومي التي quot;يشنهاquot; العرب اليوم حداداً على فقدان فلسطين، مرة واحدة، وإلى الأبد، بفضل من الله ( فالقدر خيره وشره من عند الله)، تظهر الخوف من تفكك وتعرية وانهيار البعد الأسطوري والرمزي للقضية برمتها أكثر من أي شيء آخر. وحين قرر اليهود العودة إلى أرض الميعاد، أو أرض الأنبياء كما تسمى كان بناء على حلم ووعد أسطوري دفعهم إلى ذلك في التوراة. هناك كنيسة المهد Church of Nativity المقدسة لدى المسيحيين والتي كانت الدافع الرمزي الأسطوري الرئيس أيضاً في حملات باباوات الفاتيكان الصليبية ضدها. وأكدت واقعة النكبة ومفاعيلها ذاك الوجه المقدس والأسطوري للصراع. فالعرب والمسلمون لا يريدون تحرير فلسطين بناء على أية ركائز وطنية وأخلاقية وحقوقية أخرى تعيد الحقوق والاعتبار الإنساني لمهجرين من أرض سكنوا فيها ردحاً من الزمن، بل فقط لأن الكفار والمشركين اليهود حلوا في أرض الإسراء والمعراج بكل ما لها من رمزية مقدسة في مخيالهم العام، ومع ذلك، وبكل أسف فهم لم يستطيعوا فعل أي شيء حيال ذلك quot;التدنيسquot; حتى الآن برغم ذاك الاستنفار الأصولي والسلفي والإعلام التعبوي، ويعولون إلى الآن على السماء كثيراً في حسم الصراع ويدعون على إسرائيل في صلواتهم لهذه الأسباب. وهم ليسوا حزينين أبداً على تشريد الفلسطينيين بقدر ما هم مغتاظون لأنهم لا يستطيعوا إقامة الصلوات في المسجد الأقصى. وحين quot;تعودquot; فلسطين، بإذن الله تعالى، سيفرحون لأنه سيكون بمقدورهم الصلاة هناك وليس لعودة الناس والحقوق لأصحابها ومن هنا يتبين لنا سر كسل وتقاعس العرب والمسلمين عن نجدة quot;إخوانهمquot; المسلمين المنكوبين في غير مكان من العالم. ونفس الأمر ينطبق على اليهود الذين أتوا إلى فلسطين ليقفوا لساعات طوال أمام حائط المبكى ويندبون بتلك الطقوس الغرائبية العجيبة. أليست القومية العربية هي أحد الأشكال الأكثر تزويقاً وتنميقاً وتهذيباً للأصولية الإسلامية؟

لقد لعب البعد الغيبي والأسطوري عاملاً بنيوياً إيديولوجياً قوياً ورئيسياً في نشوء هذا الكيان اليهودي في قلب عالم يغفو ويصحو على أساطير الأولين الكرام العظام ويتقبل مسلماتها التي لا تقبل المناقشة والشك والجدال وكان الحلم التوراتي العظيم في مخيلة كل يهودي وهو يطأ المراكب التي ستقله نحو جنته الفردوسية الأسطورية. فكما اتخذ العرب والمسلمون من البعد القدسي ذريعة لإدارة الصراع، اتخذ اليهود أيضاً أسطورة العودة التاريخية إلى أرض الميعاد لتشكيل وعي عام وتبرير لقيام هذا الكيان. ألا يبدو هذا الصراع في أحد أوجهه صراع أساطير وثقافات بدل أن يكون صراعاً سياسياً وحضاريا على أرض ومكان وحقوق عينية لهذا الفريق أو ذاك؟ ولولا ذاك البعد المقدس لما استطاع العرب والمسلمون وقتذاك( في عام1948) أن يجمعوا فصيلة من عشرة جنود لتحرير فلسطين من اليهود الكفار. وللعلم فقد شارك في quot;جيش الإنقاذquot; العربي المقدس جنود وضباط من مختلف دول ما يسمى بالوطن العربي،( ما يسمى بالوطن العربي ليس عربياً نقياً وخالصاً وتسكنه شعوب وأقوام وأعراق كثيرة من أصول أخرى كالمستعربين الذين فرضت عليهم العروبة والإسلام والأكراد والشيشان والأرمن والتركمان والأتراك واليهود والبربر والأمازيغ وشعوب النوبة والدارفور والأفارقة والأقباط والسريان والآراميين والكلدان والآشوريين والفرس والأحباش والبلوش....إلخ ومع ذلك يصر القوميون العرب على تسميته بالوطن العربي زوراً وبهتاناً وازدراء ونكراناً لحقوق المواطنة وتاريخ كل تلك المكونات)، ومع ذلك فقد خسر هذا الجيش الحرب وانهزم ملوماً مدحوراً وهذا يبطل مفعول وأسس كل تلك الأساطير التي خدعت بها هذه الشعوب المنكوبة طويلاً؟ ألم يتحول الصراع في النهاية بين متشددين يهود وإسلاميين؟ ولولا هذه الأديان لانتفى كل شكل من أشكال الصراع بين الفرقاء ولو تأسلم اليهود لما رأينا بعد اليوم أي توتر ونزاع؟ ألا تبدو كل أشكال النزاعات والصراعات في المنطقة دينية وطائفية؟ ألا يبدو الصراع السني الشيعي اليوم أشد وطأة وضراوة من الصراع العربي الإسرائيلي، مثلاً؟ أليس الصراع quot;المركزيquot; في جوهره صراعاً على بيت المقدس والمسجد الأقصى وحائط المبكى وهيكل سليمان، وبعض الأحجار هنا وهناك، ويجاهد كل فريق لنفي وتفنيد وتسفيه وتبخيس أباطيل أساطير الآخر، وإثبات صحة وصوابية أساطيره ومعتقداته؟

بالمقابل لماذا لا يبكي العرب والمسلمون، مثلاً، على ضياع الجولان ولا نرى كلمة واحدة في أدبيات وخطابات الجماعات الإسلاموية وأمراء الجهاد كابن لادن والظواهري على هذا المكان الاستراتيجي الحيوي الهام؟ هل لأن ليس له أي بعد أسطوري مقدس ولأن جل سكانه من طائفة الموحدين الكريمة وهم عرب أقحاح بالمناسبة، ولا ضير، من وجهة نظرهم، لو رزح تحت الاحتلال؟ وبنفس السياق، لماذا لم نر نفس تلك الهبة القوموية والإسلاموية الغرّاء على لواء اسكندرون ( تبلغ مساحته حوالي5000 كم مربع أي نصف مساحة فلسطين تقريباً )، وسلخ بسياق تاريخي وموضوعي لا يختلف كثيراً عن نكبة أبناء عمومتنا التوراتيين، وبتواطؤ أيضاً بين البريطانيين والفرنسيين والأتراك العلمانيين في عام 1938 أي قبل quot;نكبةquot; المسلمين الدينية الأسطورية الكبرى بعشرة أعوام، هل لأن 95% من سكانه من الطائفة العلوية الذين هم أيضاً من العرب الغساسنة الأقحاح؟ لماذا لا يعتبره القوميون العرب، وهم فصيل سلفي إسلاموي أصلاً، ومعهم حلفاؤهم المتأسلمون، قضية مركزية لهم يعقدون من أجله المؤتمرات ويجيشوا له الجيوش الجرارة لتحريره من الغزاة الغاصبين الأتراك؟ ألا تتشابه الظروف اللوجستية والسياسية حد التطابق بين سلخ اللواء عن الوطن السوري الأم، وبين اغتصاب فلسطين؟ إذن لماذا هذا التمييز والازدواجية في الرؤى والمواقف ؟ ولماذا لا يعتبر المسلمون قضية كشمير والشيشان وأفغانستان والأهواز من قضاياهم المركزية الأولى؟ ولماذا صمت العرب والمسلمون صمت القبور على غزو العراق، بل ساعدوا في ذلك الاحتلال وقدموا من أجله الأرض والمال والرجال؟ هل لأن لا رمزية أسطورية مقدسة للعراق، وللواء والجولان على حد سواء، في المخيال المقدس للعقل العربي؟ لكن، من وجهة نظر مقابلة، للعراق مكانة خاصة في أساطير الإنجيل والتوراة مرتبط بقصة السبي البابلي المعروفة، وكما عبـّر عن ذلك جورج بوش بالذات وهو أحد أسباب غزوه كما يعتقد؟ (تحدث بوش أيضاً في زيارته الأخيرة لإسرائيل للاحتفال بالذكري الستين لقيامها عن quot; روابط الروح وروابط الكتابquot; بين إسرائيل والولايات المتحدة)؟؟؟؟

ألا تقف الفوارق الإيديولوجية والعقائدية والرؤى الأسطورية والعداوات التاريخية والتطرف من الجانبين عائقاً أمام تحقيق أي سلام واتفاق بين فرقاء الصراع في المنطقة؟. وكل الدعوات الجهادية الإسلامية لتحرير فلسطين لا تنطلق من بعد عدلي وإنساني وحقوقي بقدر ما ترتبط بدافع مقدس له حيز هام في الوعي الشعبوي العام يفسر الصراع كصراع بين مؤمنين وكفار.

إن ما فعلته إسرائيل وغيرها بفلسطين عبر التاريخ من عدوان واحتلال يدخل ضمن نطاق الاعتداء غير الشرعي أو المبرر على أراضي الغير والعمل العسكري المسلح للسيطرة والإخضاع بالقوة وهذا ما تجرّمه وتحرّمه كل المواثيق الدولية إلاّ الأديان التي تحلله وتشرعنه لأتباعها وتعتبره عملاً بطولياً وأسطورياً يثاب عليه الغازي المعتدي وإذا قتل يسمونه شهيداً. فمن الذي يجب أن يدان في هذه الحالة؟

ألا يبدو الصراع بمجمله اليوم صراع أساطير ولحى وعمامات على هذا الجانب أو ذاك؟ فهل انتصرت الأسطورة التوراتية ولو مؤقتاً على ما عداها من أساطير تجترها الثقافات؟ أساطير شتى تتصارع على الأرض لكنها لا تختلف كثيراً في الأصل والمصدر والجوهر، ولو اتفق الجميع على مضامين الأساطير وتفسيراتها لحلت فوراً كل تلك الإشكاليات السياسية؟ ولولا هذا التمايز والافتراق والبعد الأسطوري للقضية لما رأينا ربما، طلقة واحدة تطلق باتجاه quot;أرض الميعادquot;، ولا كنا شممنا روائح البارود quot;المباركquot; تنبعث مع كل صاروخ من صواريخ القسام؟

لم تفعل إسرائيل في أحدث نكباتنا، سوى إعادة إنتاج وبعث تاريخ المنطقة وكتابته من وجهة نظرها التوراتية. وربما يأتي آخرون، في يوم ما، ليكتبوا نفس التاريخ، ولكن من وجهة نظرهم الرمزية والأسطورية، وما دامت هيمنة الفكر الديني موجودة على هؤلاء البؤساء، فستستمر، وتتكرر النكبات، وكل الفضل والشكر لله الذي لا يحمد على نكبة سواه.

نضال نعيسة
[email protected]