داود باشا ونهاية حكم المماليك فى العراق

ولد داود باشا فى تفليس عاصمة جورجيا، وكان مسيحيا وقد جيىء به الى بغداد عبدا، وفيها اتخذ الاسلام دينا، وانضم الى غلمان سليمان باشا الكبير. جمع الى الشجاعة، ذوقا سليما فى ميدان الأدب فى العربية والتركية والفارسية، وكلفا أصيلا بالدين وموهبة فى اللغات، وأفضل عليه الباشا بأن زوجه احدى بناته.


فى سنة 1816م أرسلته اصطنبول ليستلم ولاية بغداد بدلا عن الوالى سعيد باشا الذى كان فى ذلك الوقت فى حرب مع الأكراد. وصل الى سعيد باشا خبر عزله فبدأ يستعد لمقاومة داود باشا بجيش بدون أرزاق ومدينة جائعة لتوقف تدفق المؤن عليها بسبب الاضطرابات والاشاعات. وعجز سعيد عن السيطرة على المدينة واختل النظام خمسة أيام وانتشر الجند والعشائريون وشذاذ القوم يعيثون فيها فسادا، وينهبون، وظهر على حين غرة داود باشا وجنوده وعسكروا خارج سور المدينة. وسعى الى المعسكر وفد من أهل بغداد ودعوا داود باشا الى دخولها. وكان أول عمل قام به هو قتل أغا الينكجرية الوالى السابق سعيد باشا.

دام حكم داود باشا خمس عشرة سنة، من 1816 الى 1831، وعم الرخاء، فى الظاهر، وأعيد تنظيم الجيش وأسند تدريبه الى ضابط فرنسي سبق أن كان مرافقا للامبراطور نابليون.
وبنى سراي الحكومة المضاهى لسراي اصطنبول نفسها. وكلف الأزدهار الظاهري مبلغا كبيرا من النفقات، والناس تزداد فقرا كل يوم وأصبحوا لا يطيقون الطبقات المحظوظة : الينكجرية والمماليك.

أخذت سطوة الفرس تنذر فى الأوان الأخير بشر مستطير وعاودوا على التدخل فى شئون العراق مرات عديدة ولاسيما عند انقضاض الوهابيين على كربلاء سنة 1802. وحدثت فى سنة 1818 منازعة على الحدود بين السلطات التركية والفارسية، فأوعزت اصطنبول الى داود باشا ليتخذ أهبة الحرب. وعند الاشتباك الابتدائي الذى حدث فى السليمانية التحق جند داود باشا بجيش العدو وبذلك استطاع الفرس أن يكتسحوا أكثر ما كان أمامهم ولكنهم توقفوا عند كركوك ولم يستطيعوا الاستيلاء عليها، فتركوها وتقدموا صوب بغداد، ولكنهم سرعان ما توقفوا عند بعقوبا لتفشي مرض الهيضة (الكوليرا)، ثم اضطروا الى التقهقر.

وفى سنة 1820 أمر السلطان محمود العثماني بابادة جموع الينكجرية لما تحدوه وشقوا عصا الطاعة فأبيدوا جميعا. وأرسل السلطان بتعليماته الى داود باشا، فجمع هذا الينكجرية فى فناء السراي ووجه عليهم المدافع الخفيفة وخيرهم بين الموت والانضمام الى الجيش النظامي، ففضلوا الانضمام الى الجيش وفرح الجميع بذلك ونسي الناس طغيان الينكجرية وجبروتهم.

((ألف جيش الينكجرية فى الدولة العثمانية من أطفال المسيحيين الذين كانوا يسبون صغارا وينشأون تنشئة خاصة دون أن يعرف الواحد منهم عن أبويه شيئا. والعثمانيون كانوا يسمونهم (ديو شيرمه) بمعنى (المقطوفين) والصحيح انهم كانوا يقطفون فى أثناء غارات خاصة تعد لهذه الغاية. وهكذا كانت الصلة بين هؤلاء الينكجرية وبين ذويهم مقطوعة منذ الصغر. أما تربيتهم بعد ذلك فتنحصر فى تعليمهم أحكام الدين الاسلامي ولينشأوا نشأة دينية صرفة، مع اعدادهم للحرب والبلاء فيها))

الطاعون والفيضان والمجاعة

وفى عام 1831 بدأ وباء الطاعون يتفشى ويحصد الأرواح فى شمال فارس وشواطىء البحر الأسود، ثم حل فى العراق وأخذ يحصد أرواح من فيه بنحو مخيف. ووصلت الى بغداد أنباء قرى حصدت أرواح أهلها جميعا، ومستوطنات بشرية محيت من الوجود وقبائل لم يبق لها من أثر. وأخذ الناس يموتون الوفا يوميا حتى حل الصمت المروع محل العويل على الموتى. وكان يشاهد فى كل طريق جثث الموتى لم تدفن لأن آخر من فى الأسرة قضى نحبه. وطغت على الشوارع عصابات من الأوباش ودخلوا البيوت وسلبوا كل انسان حتى الموتى ام من هم مائتون.


ان تلك الأيام المروعة لم تكن الا أوائل أيام أكثر سوءا وترويعا. وحل نيسان المطير وفى الثانى عشر منه فاضت دجلة، ولم يكن هناك من يحكم السداد التى تحمى المدينة من خطر الفيضان. وفى ليلة العشرين اكتسح النهر سداده وطغى على الجانب الأعظمي من بغداد الشرقية فى بثقة واحدة، وهلك فى تلك الليلة ما يزيد على خمسة عشر ألف انسان. وتداعت الدور وانهدمت على من فيها. وسقط جانب من السورقرب باب المعظم فكان لسقوطه دوي يصم ألآذان، وانهدمت القلعة ايضا وانهدمت تكية الدراويش فى جامع الشيخ عبد القادر فغدت أخربة وركاما، وأصيب الباشا نفسه بالطاعون.

لقد زاد عدد سكان بغداد أيام داود باشا الزاهرة فبلغ مئة وخمسين ألفا ثم هبط الى خمسين ألفا فقط بعد الطاعون. قرر السلطان فى اصطنبول عزل داود باشا المريض، وقرر داود أن يخضع للأمر الواقع بعد ان تخلى عنه مستشاروه وأتباعه فى ساعة العسرة، وانيط أمره سجينا بأحد وجهاء المدينة ثم خرج من أحد أبوابها.


وقد عمت الفوضى بغداد، وهوجم السراي واشعلت النار فى البناية الشهيرة، وفى خلال ساعات قلائل أجهز على كل مظاهر العظمة التى ميزت حكم المماليك كالغرف الأنيقة والطنافس الثمينة والأسلحة والأرائك والقطع الفنية، وما الى ذلك وغشى على المدينة غول المجاعة وهي الغول التى الفتها كلما أطبق عليها طوق الحصار.


وفى عام 1851 مات داود باشا وخلف وراءه المجد والطموح وخاتمة عهده المروع ببغداد.
ولم يكن أصدقاؤه المماليك الذين خلفهم وراءه فى بغداد على شيء من حسن الحظ فقد تم القضاء عليهم كليا بأمر من على باشا الذى حصل على الولاية بعده.

ازدياد نفوذ البريطانيين فى العراق

وبعد ستة أشهر، عانت بغداد خلالها مصائب من الطاعون والفيضان والحصار الذى أسفر عن خروج داود باشا، عاد الطاعون والحصار فى السنة التى تلتها، وتضاءل عدد نفوس بغداد فغدا عشرين ألفا. وتداول عدد من الباشوات الولاية، وزاد نفوذ المعتمد البريطاني وأخذت طلائع الانكليز تشد من أزرهم المخترعات الحديثة كالسكك الحديد والبواخر، وبدأ الموظفون الجدد من بطانة الباشا ارتداء الملابس الأوروبية، وصاروا (الأفندية ) الأوائل. وفى سنة 1841 حصل الكابتن لنج (مؤسس ما عرف ببغداد: بيت لنج) فرمانا يخوله حق تسيير باخرتين فى دجلة، وقام محمد رشيد باشا بتشكيل شركة محلية للملاحة البخارية واستورد باخرتين هما (بغداد) و (البصرة). وقضت مصالح (لنج) فى الوقت نفسه الاتيان بالباخرتين (سيتى اوف لندن) و (دجلة) واشتدت المنافسة بين المؤسستين الحكومية والأجنبية. ووافق تقي الدين باشا سنة 1868 على فتح دوائر بريد بريطانية هندية فى بغداد والبصرة، وبعد عشرة أيام حلت محلها دوائر بريدية تركية منظمة. وكانت العجلات (العربات التى تجرها الخيل) ما زالت نادرة ولم يكن ببغداد من الطرق أو الشوارع التى تصلح لسيرها الا قليلا.
وكانت العجلات تستعمل بين بغداد والأماكن النائية، وكانت الجمال والخيل والبغال والحمير تحمل أثقال الناس، أما الأحمال الخفاف فكانت من أمر الحمالين.

عهد مدحت باشا (1868م ndash; 1872م)

وهو من الولاة الذين اشتهروا باخلاصهم ومقدرتهم، وأدخل فى بغداد خصوصا والعراق عموما من الاصلاحات والمشاريع الخيرية والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية مما خلد له الذكر الطيب. فمن المشاريع التى أنجزها معاهد علمية منها المكتب الرشدي العسكري والملكي ومكتب الحميدية عدا المدارس الابتدائية وأسس مدرسة الصنائع ومستشفى الغرباء وبنى الثكنة العسكرية (القشلة) وأنشأ معملا لنسج ثياب الجنود (العباخانة). وجلب مطبعة لطبع الكتب ونشر جريدة رسمية باسم (جريدة الزوراء) باللغتين العربية والتركية. وجلب مضخة الماء لتوزيع الماء بين دور بغداد وقصورها.
ومن أعماله النافعة أيضا خط الترامواي الذى كانت الخيول تسحب عرباته بين بغداد والكاظمية. و جلب من اوروبا الآلات لاستخراج النفط الا أنه عزل قبل أن ينفذ هذا المشروع الخطير.

وفى سنة 1886 فى عهد ولاية تقي الدين باشا شرع نظام الخدمة العسكرية الاجبارية، وقصر تطبيقه على المسلمين. وفتحت عدد من الدول العالمية قنصليات جديدة فى بغداد وتوثقت الصلة باوروبا.

وفى سنة 1892 على عهد حسن رفيق باشا تفشى فى بغداد مرض الجدري. وعلى عهده أيضا فى سنة 1896 أنشأت جمعية الكنيسة التبشيرية مستشفى ومدرسة للبنين. وفى نفس السنة وعلى عهد عطا الله باشا حصل فيضان وأحاط الماء بالمدينة واستمر بضعة أسابيع.

شهدت نهاية القرن ولاية نامق باشا الصغير، وكانت أهم الحوادث فى زمانه انشاء جسر على قوارب على دجلة بدلا من جسر عتيق وسمي بالجسر الأخضر.
وفى سنة 1901 استلم الولاية حازم بك وفى زمنه قام فى بغداد أول مشروع لاسالة الماء، وفى سنة 1908 وهى آخر سنة من حكمه قامت ثورة 1908 التركية وعزل السلطان عبد الحميد.


وفى سنة 1910 تولى الحكم ناظم باشا الثاني، وبنى خلال عهده القصير سدة واقية جديدة محيطة ببغداد، وأعاد تعبيد شارع النهر الذى كان الطريق الرئيس فى بغداد فى ذلك الوقت، وفتح مدرسة خاصة بالموظفين فى الكرخ (سميت فيما بعد باعدادية الكرخ)، وكان قد خطط لمشاريع كثيرة لم تنفذ. وحصلت بغداد على اول مشروع للكهرباء من الجيش البريطاني، كما وحصلت على حق ارسال مندوبين الى المجلس المنتخب الجديد فى اصطنبول ومارسته بعد الثورة التركية. ومن بين المندوبين الستة كلا من (جميل صدقى الزهاوي) الشاعر والكاتب الفيلسوف، و(ساسون أفندي حسقيل) وهو خبير مالي أصبح وزيرا للمالية فى وزارات عراقية عدة بعد الاستقلال.
وفى سنة 1909 بدأ العمل فى مد سكة حديد بغداد وفتحت أول محطة للاسلكي سنة 1910.


عاطف العزي

سيكون الجزء الثامن عن الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1917.
أهم المصادر للمعلومات التى وردت فى أعلاه بايجاز وتصرف عن:
- بغداد مدينة السلام ndash; ريتشارد كوك ndash; نقله الى العربية وقدم له وعلق عليه : الدكتور مصطفى جواد وفؤاد جميل، الجزء الثاني طبعة 1967.
- دليل خارطة بغداد المفصل ndash; تأليف الدكتور مصطفى جواد والدكتور أحمد سوسة، طبعة 1950

الجزء السادس