إندلعت ثورات تحررية وخبت.. توج بعضها بالإنتصار على الأنظمة الدكتاتورية الإستبدادية، وإنهار بعضها سواء، بسبب المؤامرات الخارجية أو الداخلية، أو يإشتداد وتائر القمع بالحديد والنار.ولكن في المحصلة فإن الثورات التحررية لن تخبو أو تستكن الى الأبد، فلا بد في المحصلة النهائية أن تنتصر، لأن ثورات جميع شعوب العالم من أجل التحرر، هي وليدة رحم أمة أو شعب مضطهد،وهي رد فعل ثوري لرفض الظلم والإستبداد والدكتاتورية، وإذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.


والتاريخ يروي الكثير من قصص ثورات الشعوب في العالم، منها التي حققت الحرية بإنتصار تلك الشعوب على الدكتاتوريات، ومنها التي إنتكست لظروف أو عوامل ذاتية أو موضوعية، ولكن التاريخ لا يهمه النصر أو الفشل، لأن وظيفته الأساسية تنحصر في رواية الأحداث والوقائع، تاركا الحكم والفصل فيما تؤول إليه تلك الثورات الى الأجيال اللاحقة.

عندما أنظر الى حولي وأرى شباب هذا الجيل وهم يلهثون وراء موضات العصر، وآخر الألبومات الغنائية، وأقارن حياتهم السعيدة اليوم الى حد ما، مع الحياة القاسية التي كنا نعيشها في زمننا، ونحن نرزح تحت نير الدكتاتورية الصدامية، محرومين من كل متع الحياة بالنسبة للشباب، ونلوذ بالجبال دفاعا عن كرامة شعبنا، أجد لزاما علي أن أذكر في بعض مقالاتي أبناء هذا الجيل ببعض الأحداث التاريخية القريبة التي صنعت الحرية التي نتمتع بها في يومنا الراهن، فاليوم كما المستقبل مرتبط إرتباطا جدليا بماضينا وبأحداثها ووقائعها.

كانت الثورة الكردية التي إندلعت في جبال كردستان عام 1976 إثر إنتكاسة الثورة التي سبقتها في آذار من عام 1975، مفاجأة غير متوقعة لدى النظام العراقي السابق، فلم تكد السلطة الدكتاتورية التي مارست مكرا وخداعا سياسيا مع شاه إيران السابق مقابل وقف دعمه للثورة الكردية التي قادها الزعيم الملا مصطفى البارزاني، تلتقط أنفاسها من العمليات العسكرية التي وقعت في شتاء عام 1974والتي أنهكت الجيش العراقي، حتى كاد الثوار الأكراد أن يسحقوا ذلك الجيش، وينزلوا من الجبال لتحرير جميع المدن الكردستانية، لولا المؤامرة الدولية التي حاكها صدام حسين مع شاه إيران بوساطة الرئيس الجزائري هواري بومدين لإغتيال الثورة الكردية، حتى أعلن عدد من القادة والكوادر والبيشمركة السابقين، ثورة جديدة في كردستان، رافعين بذلك راية الرفض المطلق للنكسة التي حلت بثورة الشعب الكردي. فلم تكد تمر إلا شهور قليلة على وأد الثورة، حتى بادرت قيادات الشعب الكردي بإعلان ثورة جديدة في كردستان ضد النظام الدكتاتوري الحاكم، الذي إستعاد الكثير من قوته وإمكانياته العسكرية بعد توقيع معاهدة التعاون مع الإتحاد السوفيتي السابق.


إن هذا التاريخ القريب منا، يجب أن يوثق، وأعتقد أنه على الرغم من أن الكثير من الكتب والمقالات روت جانبا من التاريخ النضالي للشعب الكردي، ولكني أعتقد أن المكتبة العربية تكاد تخلو مما يسجل لتلك المرحلة المهمة في تاريخ الشعب الكردي، ولا جدال في القول، أنه تبعا لذلك فإن الكثير من القراء العرب، بل ومن شعوبها لا يعرفون إلا النزر اليسير من هذا التاريخ، وهذا ما أعتبره فراغا كبيرا يجب ملئه من قبل الكتاب والباحثين الكرد الذين يكتبون بالعربية، فلا يمكن إغفال هذا التاريخ القريب المرتبط جدليا بحاضرنا، لأني أعتقد أن هناك الكثيرين ممن يرون اليوم قيادات كردية وهي تقود العراق في مراكز حساسة من الدولة، قد يتصورون ظلما، أن هذا الدور الكردي المتعاظم في بغداد إنما جاء من فراغ، أو هو بحسب بعض الشوفينيين والقومجية العرب، جاء من خلال حبك المؤامرات والدسائس ضد العراق بالتعاون مع المحتل الأمريكي، ولا يدري هؤلاء أن الشعب الكردي قدم تضحيات غالية جدا، ودفع ضريبة باهضة من حياة شعبه للوصول الى هذا الدور، وهي تضحيات لم يقدمها الكثير من القوى والأحزاب العراقية التي تتولى السلطة في العراق الآن، أو تقود كتلا أو كيانات سياسية لها وزنها وإعتبارها في العملية السياسية الجارية بالعراق.

بدأت التحركات للتحضير لثورة كردية جديدة إنطلاقا من بغداد تحديدا، ومن بعض المدن العراقية الوسطى والجنوبية. فقد نفى النظام البعثي العديد من قيادات وكوادر الثورة الكردية التي عادت من الجبال الى مدن الوسط، وهناك حدث إتصال بين تلك القيادات المنفية للتحضير لثورة جديدة على أنقاض ثورة أيلول المنهارة، وبالتلازم مع ذلك، كانت القيادات الكردية التي بقيت في إيران تتحرك بنشاط دؤوب للتنسيق مع قيادات كردية في الخارج للإتفاق حول ضرورة البدء بثورة جديدة داخل كردستان، وتمخضت تلك التحركات والنشاطات بتشكيل الحركة الإشتراكية الكردستانية في الداخل، فيما توجت تحركات القادة الآخرين في الخارج بتأسيس الإتحاد الوطني الكردستاني بقيادة الرئيس الحالي جلال طالباني.. مع وصول أنباء تلك التحركات حدثت إرهاصات في الداخل،وبدأت التنظيمات السرية للأحزاب الكردية تنمو وتنشط على رغم القبضة الحديدية لقوى الأمن والمخابرات التابعة للنظام الدكتاتوري الحاكم.

تأسس الإتحاد الوطني الكردستاني في الأول من حزيران عام 1976 بعد سنة وعدة أشهر من إنهيار ثورة أيلول، وأرسل مفارزه المسلحة الأولى الى جبال كردستان لإعلان الثورة، وبالتزامن مع ذلك نشطت التنظيمات السرية في الداخل.

أذكر أنني كنت موظفا في مديرية الزراعة بمدينة أربيل، وهي الوظيفة التي عينت فيها بعد إنهاء فترة النفي القسري في محافظة الديوانية وعودتي الى مدينتي، وكنت قد دخلت في دورة تدريبية على مهام الدفاع المدني، وزاملني فيها أحد الأعضاء المؤسسين للتنظيمات السرية في أربيل، وكان صديقا قديما لي. وفاتحني هذا الزميل بالإنضمام الى الإتحاد الوطني الكردستاني، ولكن بعد يومين فقط من مفاتحته لي جاءت مجموعة من قوات الأمن المحلية وساقت هذا الشخص الى سجن الأمن بعد إنكشاف أمر تنظيمهم بوشاية من أحد العملاء، فتم إعدام اثنين من قادة التنظيم، وصدور أحكام بالسجن على بقية أفراد المجموعة منهم زميلي المذكور الذي عوقب بست سنوات سجن، وقد زرته فيما بعد في سجن أبو غريب وقلت لهquot; فصلتني 48 ساعة عن رقودي اليوم الى جانبك في هذا السجن، ولكن صدقني تمنيت ذلك، ولكن الله يفعل ما يشاءquot;. من هناك زودني هذا الصديق ببعض الأسماء لكي أتصل بهم في أربيل أثناء عودتي وهم مجموعات تنظيمية سرية في الداخل.


كانت التنظيمات السرية هي الرافد الأساسي للثورة المندلعة في الجبال، فقد كانت حركة تلك التنظيمات في أوج نشاطها تتناغم مع الضربات الموجعة التي يوجهها البيشمركة في الجبال الى القوات العراقية.


وفي أربيل لاحظت الدور الكبير والمؤثر لتنظيمات الإتحاد الوطني الكردستاني في تقوية الثورة وبث روح الحماس والوطنية في صفوف الجماهير الشعبية، وكان الإستاذ كوسرت رسول علي النائب الحالي لرئيس الإقليم ونائب الرئيس طالباني في الحزب، له دور كبير في قيادة تلك التنظيمات خصوصا في أربيل. وكان يعمل حينذاك موظفا في مديرية الحبوب، ولكنه كرس جل وقته للعمل ضمن التنظيمات السرية للإتحاد الوطني وقيادتها الى جانب رفاقه الآخرين، فالإتحاد الوطني كان تنظيما جماعيا ولكن موحدا يرفع راية الثورة الجديدة في كردستان.


إستمرت جذوة الثورة الكردية بتساوق النضالين العسكري والسياسي مع التنظيمي في صفوف الجماهيرالشعبية، ففي الوقت الذي كانت قوة الثورة الكردية تتعاظم في الجبال من خلال المواجهات العسكرية مع النظام، إتسعت مساحة الكسب الشعبي للثورة داخل المدن والمحافظات عن طريق تلك التنظيمات، و كانت التظيمات السرية تتعاون مع قوات البيشمركة أثناء دخولها الى مراكز المدن الرئيسية لتوجيه ضربات موجعة الى دوائر الأمن والمخابرات الصدامية.


وبعد فشل مفاوضات الإتحاد الوطني الكردستاني مع النظام الصدامي عام 1984 توجه العديد من أعضاء تلك التنظيمات الى جبال كردستان لينضموا الى قوات البيشمركة، سواء بفعل إنكشاف بعضهم من قبل عملاء ودوائر الأمن والمخابرات، أو لحاجة قيادة الثورة في الجبال الى إمكانياتهم وكفاءاتهم القتالية، وكان كوسرت رسول أحد القادة البارزين للتنظيمات السرية الذي إلتحق بقوات البيشمركة وتسلم مهام قيادة محور أربيل الذي كان من أهم المحاور القتالية في تلك الفترة.


ولا يخفى على كل أبناء كردستان دور هذا الرجل في تحرير محافظة أربيل أثناء الإنتفاضة الشعبية التي إجتاحت كردستان عام 1991،وكان هو أول قائد كردي يدخل أربيل المحررة. ومن مآثر هذا الرجل تلك المحاولة الجدية للإتحاد الوطني الكردستاني للإطاحة بالنظام الصدامي في منتصف التسعينات من القرن الماضي بالتنسيق مع بعض الأحزاب العراقية المعارضة، ولكن المحاولة تأجلت بسبب عدم إستكمال جاهزيتها.الى جانب دوره في عملية تحرير العراق من خلال التنسيق مع القوات الأمريكية في المحور الشمالي للعمليات، الى جانب قيادته لعملية إعتقال نائب الرئيس العراقي الأسبق طه ياسين رمضان الرجل الثاني في القيادة العراقية وتسليمه الى الأمريكان متنازلا عن المكافأة المرصودة البالغة 10 ملايين دولار لقاء القبض عليه.


لقد كان الإتحاد الوطني الكردستاني هو التنظيم القائد للثورة الجديدة في كردستان، فهو الذي أوقد الشرارة التي منها إندلع لهيب الثورة الكردية الجديدة في كردستان، ويعود له الفضل في إعلان الثورة وإعادة الأمل الى نفوس الشعب الكردستاني بعد النكسة، ورسم ملامح مستقبله المتحرر، فلو لم يكن هذا الحزب سباقا الى إعلان الثورة وإرسال مجاميعه المسلحة الى الجبال لمعاودة الكفاح المسلح ضد النظام الدكتاتوري، لكان ذلك النظام قد تمكن من القضاء على الوجود القومي للشعب الكردي، حيث أعد خططا رهيبة وخط لسياسات عنصرية حاقدة لصهر هذا الشعب والقضاء على مقوماته وجوده القومي.

واليوم إنتهت الثورة الكردية، بعد أن توج النضال الكردي الطويل بسقوط الدكتاتورية في العراق، وحان للقيادات الكردية أن ترتدي الملابس المدنية لقيادة هذه المرحلة، كما فعل جلال طالباني الذي يقود العراق،وفعل رفاقه من الرعيل الأول للثورة، فتوزعوا ما بين بغداد للمشاركة في حكم العراق، أو البقاء في كردستان لقيادة شعب الإقليم، ولم يبق لنا بهذه المناسبة، إلا التمني بعودة ذلك الرعيل ألأول ورفاق الأمس الى القيم الإنسانية والثورية التي ناضلوا من أجلها سنين طويلة، وقدموا لها الكثير من التضحيات الدماء العزيزة.

شيرزاد شيخاني

[email protected]